برق الضاد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

برق الضاددخول

منتدى ادبي شامل يعني بفروع الادب العربي


الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

5 مشترك

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyالدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

  الكادر التدريسي  ......  شيرين كامل


أسماء المواهب




مؤيد عبد الله












محمد المختار ابراهيم الطاهر












مصطفى متولي

أيام الدورة


الثلاثاء  والجمعة



تبدأ الثلاثاء القادم  17/ أيلول / 2013  حتى  4 / تشرين الأول / 2013


عدد المحاضرات  6  محاضرات



معكم على الموعد مني أنا شيرين كامل

أتمنى لكم كل الموفقية مواهبنا البراقة

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
أوهام وضلالات حول "قصيدة النثر"

سمير درويش

لاشك أن كل الأشكال الجمالية الجديدة، في أي نوع من أنواع الأدب، تحتاج إلى وقت، طال أم قصُرَ، لتستقر وتعطي نفسها ببساطة لاجتهادات النقاد، ذلك أنهم ـ أي النقاد ـ لا يستطيعون التخلص ببساطة، ولا بقرار لحظي، من سلطة القناعات السابقة التي ورثوها وتدربوا على التعامل معها سنوات طوال، ومن هذا المنطلق، يكون مفهوماً جداً ومنطقياً معارضتهم الكبيرة لأي محدثة تخلخل قناعاتهم المستقرة، واعتبارها بدعة وضلالة تقود صاحبها إلى الجحيم، فهو الخيار السهل بالنسبة للأغلبية الراكنة إلى سلطة المألوف. الأدباء السابقون ـ كذلك ـ لا يقلون معارضة لهذه الأشكال، ليس ـ فقط ـ لأن قناعاتهم تنحاز إلى الأشكال التي تربوا عليها ومارسوا كتابتها، ولكن ـ كذلك ـ لأسباب نفسية تتعلق بقدرة الجديد على جذب الانتباه واحتلال المساحات الفارغة دائماً.
على أن هذه المعارك المستعرة كانت تدور رحاها حين يتجرأ شاعرٌ أو أكثر على أداة واحدة من أدوات كتابة الشعر: اللغة والموضوع ـ أو الغرض ـ والصورة والإيقاع.. فـ(الرواة) قديماً لم يتسامحوا مع الشعراء الذين حاولوا تبديل أغراض القصيدة التقليدية، فاستبدلوا البكاء على الأطلال بمقدمة غزلية، وهجروا الأغراض المتعددة في القصيدة الواحدة إلى الكتابة عن غرض واحد، كالغزل مثلاً، ولم يغفروا للشعراء الذين عبثوا بالشكل الموروث للقصيدة، واستحدثوا لها أشكالاً مغايرة كالمخمسات ولعبوا في أحرف القافية والرويّ.. الخ.
كانت المعاركُ ـ إذن ـ واضحةً بما يكفي لاصطفاف المرء مع أيٍّ من الفريقين حسب قناعاته، بعكس المعركة التي تدور حول "قصيدة النثر" الآن، فقد تداخلت فيها المفاهيم والحدود بشكل صعَّبَ على المتابعين، وحتى على كثير من المشاركين، فك الاشتباك بين الأسئلة الأولية فيها: ما هي "قصيدة النثر"؟ بل ما هي القصيدة وما هو النثر وما هو الشعر؟ وهل يمكن الجمع في مصطلح واحد بين القصيدة والنثر؟ ما هو الإيقاع وما هي الموسيقى؟ وما علاقتهما معاً بالوحدات العروضية المتساوية؟ هل تعد أبحر الخليل بن أحمد حاكمة للأشكال الإيقاعية التي وجدت في الشعر العربي قبله؟ وهل هي لازمة لكتابة الشعر بعده؟.. الخ.
على أن هذه الأسئلة، على صعوبتها وتغلغلها في مسلمات كتابة الشعر، تعد العنصر الأبسط والمفهوم في المعركة الدائرة الآن حول "قصيدة النثر"، حيث تمتلئ ـ المعركة ـ من وجهة نظري بالكثير من الأوهام والضلالات، وتتردد فيها أصوات متعارضة بشكل لم يسبق له مثيل، ينقض بعضها بعضاً، وتكرس لمفاهيم شديدة التعارض باقتناع يصل إلى حد اليقين، تأتي ـ الأوهام ـ من المحسوبين عليها بأكثر مما تأتي من خصومها، بشكل يجعلني أقبل بعض أفكار (الخصوم) بينما أرفض بعض أفكار (الأصدقاء)، وأحياناً أرفضها كلها، بل وأذهب إلى حد إعادة تعريف الخصوم والأصدقاء تبعاً للأفكار التي يتطوعون بطرحها!
"القصيدة الخرساء" و"قصيدة النثر":
من الأوهام والضلالات التي تثار حول "قصيدة النثر" العربية ما يتعلق بالحديث حول نشأتها.. إذ يتردد كثيراً أنها بدأت منذ نحو مائة عام، أي قبل "قصيدة التفعيلة" نفسها! هذا الرأي يردده خصوم هذا النوع الأدبي وبعض أصدقائه على السواء، وهم ينطلقون في تأريخهم من اعتبار "الشعر المنثور" أو "النثر الفني" أباً شرعياً لـ"قصيدة النثر"، مستمدين شرعية هذا الرأي من استغنائهما عن العروض الخليلي، وبالتالي يعتبرون كتابات حسين عفيف والرافعي والمنفلوطي وأحمد أمين وكتابات المتصوفة: النفري وابن عربي.. على سبيل المثال، تراثاً لها. هذا الفهم قاد الخصوم إلى اعتبار "قصيدة النثر" قصيدة خرساء أو شعراً ناقصاً لأنها تستغني عن أحد أدوات كتابة الشعر وهو الإيقاع، وقاد الأصدقاء إلى الفرح بوجود تراث عربي لهذا النوع، ينفي عنه تهمة الاستيراد من الغرب، تلك التهمة التي قادت بعضهم إلى الذهاب إلى النقوش الفرعونية على جدران المعابد بحثاً عن "قصيدة نثر"!
وأنا أتفق تماماً مع الخصوم من اعتبار "الشعر المنثور" شعراً ناقصاً، لأنه ـ في الأساس ـ كُتبَ بأدوات القصيدة الكلاسيكية مستغنياً عن أحد أركانها، إن عن قصد أو عن جهل بالإيقاع. وأختلف ـ تماماً، في الوقت نفسه ـ مع الأصدقاء، أو الذين يعدون أنفسهم أصدقاء، عندما يتمسحون في الأشكال الأدبية القديمة بحثاً عن شرعية لما يكتبون، أو ما يتصورون أنهم يكتبون! فليس لـ"قصيدة النثر" ـ من وجهة نظري ـ علاقة بالشعر المنثور الناقص، ولا بالنثر الفني وكلام المتصوفة، والأقرب أنها جاءت إلينا من الشعر الغربي عموماً، لا الفرنسي على وجه الخصوص، لكنها تكتسب تميزها عن النماذج الغربية من كون الذين يكتبونها "شعراء" "عرب"، أضفوا عليها نكهة الشعر، وتاريخ المفردة العربية المحملة ـ رغماً عنا ـ بحمولات شعرية لا سبيل للفكاك منها.
"قصيدة التفعيلة" كما يطلقون عليها هي قصيدة كلاسيكية تنهض على المسلمات الراسخة لكتابة الشعر العربي، ليست انقلاباً عليها كما يحلو لكثيرين أن يصوروها طلباً لريادةٍ ما، فالحد الفاصل بينها وبين نموذجها الأصلي يقل ـ أحياناً ـ عن مثيله بين النموذج وبعض المحاولات السابقة، إن على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.. و"الشعر المنثور" هو أحد تجلياتها بامتياز: ينحو إلى الرومانسية في تناول علاقة الذات بالآخر.. المحبوب والوطن والكون، ويستخدم المعجم الذي يتناسب معها: الشوق والهجر والخصام والليل والنجوم والسهر والبحر والطيور والسماء والضياء.. الخ، ويهتم بالصورة الشعرية التي كانت سائدة فيها وقتها.. الاستعارة المكنية وبدايات المجاز، وما استغنائه عن الإيقاع الخليلي ـ في الغالبية العظمى ـ إلا لجهل به، لا لرغبة في التجديد.
يرتبط بهذا الوهم أيضاً ـ وهم النشأة ـ فكرة اعتبار أن تجربة شعراء "جماعة شعر"، التي تكونت في لبنان بداية ستينيات القرن العشرين، ومن سار على نهجها من شعراء السبعينيات في مصر وبعض الدول العربية، تجربة نثرية، ذلك أنهم قصدوا إلى كتابة هذا النوع قصداً، بل هم من أطلق عليه اسم "قصيدة النثر" نقلاً عن المصطلح الفرنسي.. إلى آخر ما يقال في هذا الشأن. وأنا أرى أن هذه التجارب مهمة في محاولة (إحياء) الشعر العربي الذي كان قد مات إكلينيكياً قبل البارودي وشوقي وحافظ وأقرانهم، ثم عاد إلى صورته الأولى على أيديهم ـ عن طريق تنشيط القلب ـ وقتاً قصيراً، قبل أن يأتي آخرون بمسكنات جديدة في محاولة لإحيائه من جديد، على شكل "قصيدة التفعيلة" أو "القصيدة الحداثية" التي كتبها شعراء "جماعة شعر" وشعراء السبعينيات، والتي أعدها جزءاً أصيلاً من القصيدة الكلاسيكية العربية، وإن تخلت عن العروض الخليلي في بعض نماذجها، إذ ما الفرق ـ فنياً ـ بين القصيدة الموزونة التي كتبها محمد عفيفي مطر، والقصيدة غير الموزونة ـ أو المكسورة ـ التي كتبها أدونيس أو محمد الماغوط، بل والقصيدة التي كتبها الشاعر حلمي سالم الذي ينتمي إلى جيل السبعينيات ويضعونه ـ بقوة ـ على رأس شعراء "قصيدة النثر؟.. "قصيدة النثر" ليست قصيدة تفعيلة مكسورة كما يعتقدون، ولكنها قصيدة ذات سمات فنية ورسالة، سأجتهد لبيان بعضها لاحقاً.
يقول محمد عفيفي مطر في قصيدة

 "أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت":


"منسرباً من ضباب الحلموالنداءات البصيرة

اتئد..

يا سيد الشعراء

صرت واحدُها

وهى أعضاؤكانتثرت

بعيون كليلة..

ينسج الفجرَ عناكبُالترقب

فارتقب/ ـ بشراك الغضب ـ

يجلو الفجرَ نارُ الحرائق/ فاتّقد

ـ بشراك انتثار الخلائق".

ويقول أدونيس في قصيدة "أبجديةٌ ثانية":

"شوارع، أنهارٌ تحكُّ ضفافها بموسيقى التاريخ

يغني الياسمين بصوت خافت، ويدور في الأزقة حافياً

دمٌ أبيضُ على فراش القمر

لا تضع سلة الغبار في يد الريح

يجيء الشقاء معجونا بيد الله، مختوما بخاتمه،

ويجيء الفرح هاربا في ثياب

وردة تكاد أن تذبل

لكل نجمة طبل والفجر ناي مكسور".

ويقول حلمي سالم في قصيدة "التين والزيتون":

"يهبط الخضر على كاهل الفتاة ساعة الغروب،

فتوزع الماعز على عشب السهول.

والمرأة التي اشتق الإله جلدها من الخمر

تطعم القطط حين انتصاف الليل

قبل أن تتلاشى روح سندريللا

وتقيس حديقة الليل بأكمام القميص".


فلسفة الصورة الشعرية واحدة في النماذج الثلاثة، تقوم على المجاز الذي يباعد ـ إلى أقصى مدى ـ بين المشبه والمشبه به، أو ـ كقولهم وقول نقادهم ومنظريهم ـ تبحث عن المؤتلف في المختلف: فالفجر ينسج عناكب الترقب ويجلو نار الحرائق عند مطر، وللحلمِ ضبابٌ والنداءات (جمع نداء) بصيرةٌ تبصرُ. والفجرُ ـ نفسُهُ ـ نايٌ مكسورٌ عند أدونيس، والأنهارُ تحكُّ ضفافها بالموسيقى، والياسمين يدور في الأزقة حافياً. والخضر ـ عند حلمي سالم ـ يهبط على كاهلِ فتاةٍ فتوزِّعُ الماعزَ على العشب، والمرأة اشْتُقُّ جلدُهَا من الخمر وتقيس حديقة الليل بأكمام القميص. فبأيِّ منطقٍ يضعون قصيدة مطر في خانة ما يسمونه "قصيدة التفعيلة"، بينما يضعون قصائد أدونيس وحلمي سالم في خانة "قصيدة النثر؟!
النقطة الأخيرة التي تتعلق بالأوهام حول "قصيدة النثر" تتمثل في البحث المستمر عن الشعري في النثري! وهو أكبر الأوهام ـ في نظري ـ على الإطلاق، وأخطرها، ذلك أن الغالبية العظمى من شعراء "قصيدة النثر" ينساقون خلف خصومهم بلا وعي، يحاولون إثبات أن هذا النوع يقدم شعراً أيضاً، فيحاولون إقحام صورٍ شعرية تقليدية ضمن سياق قصائدهم النثرية، تنتمي ـ غالباً ـ إلى منطق "قصيدة التفعيلة" في تجليها الأخير الذي يطلقون عليه اسم "القصيدة الحداثية"، ويقفون ـ دون دراية ـ على نفس الأرض مع التقليديين حين يتعلق الأمر بتفسير ما هو شعري وما هو غير شعري.
يقولالشاعر المصري محمود قرني في إحدى قصائد ديوانه "أوقات مثالية لمحبة الأعداء" الصادر عن دار ميريت:

"الوطن الآن ينام قرير العين

بينما شخيره يُضجر الملائكة

الوطن ينام دون عساكر الدرك

دون نوبات حراسة

حيث لم يعد هناك

ما يخشى عليه

لقد أصبح عارياً كما ولدته أمه

وليس هناك من يستر عورته".


والشاعر الكويتي صلاح دبشة يقول في إحدى قصائد ديوانه "سيد الهواء":

"خطاي تهف على الأرض

نحوكِ

تتقاطع حولها دوامات هواء وأغبرة

على تدحرج ثمرة مشوهة

من نقر العصافير

أتفوق على الأحجار والهواجس

وجسمي يرفع ظلال الأجسام عن الطريق".

فالوطنُ ينام دون عساكر درك عند قرني، وله شخير يضجر الملائكة، والخطى تهفُّ على تدحرج ثمرة مشوهة عند صلاح دبشة.. أليس هذا منطق الصورة التقليدية ذاته؟.
لقد أضاع شعراء "قصيدة النثر" وقتاً طويلاً في البحث عن الشعري في النثري.. فاجتهدوا في بث عناصر البلاغة التقليدية في قصائدهم، وأضاعوا وقتاً طويلاً ـ كذلك ـ في إثبات أن لشعرهم إيقاعه الخاص الذي يعد بديلاً عن الإيقاع الخليلي، فأجهدوا أنفسهم في (اقتراح) أشكال إيقاعية جديدة، كتكرار حرف بعينه أو جملة بعينها.. بينما ليس مطلوباً من أي تغيير أن يثبت جدارته بأدوات القديم الذي جاء أساساً لتغييره والثورة عليه. إنهم يهاجمون حجازي ويفعلون فعله، حين كتب قصيدة عمودية في هجاء العقاد!
جماليات "قصيدة النثر":
قبل أن أتحدث عن جماليات "قصيدة النثر" كما أراها، أود أولاً أن أجيب عن سؤال مهم، هو: هل "قصيدة النثر" نوع أدبي عربي؟ والحقيقة أن هذا السؤال على سذاجته سؤال مهم جداً، ذلك أن كل خصوم "قصيدة النثر" يُجْهِدُونَ أنفسَهُمْ لانتزاع اعتراف بأنها نوعٌ أدبيٌ مستوردٌ ليست له جذور عربية، ويعتقدون أن هذه النتيجة تريحهم، إذ تُخرجها من ملف الشعر العربي نهائياً، ناسين ـ أو متناسين ـ أن كون الرواية فن مستورد لم يمنع من وجود روائيين عرب كبار يضيفون إلى النوع، ويقفون إلى جوار ـ بل يتقدمون على ـ كبار الروائيين العالميين، وليس حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الرواية هو الدليل الوحيد. والأمر نفسه ينطبق على كُتَّاب المسرح والسينما والقصة القصيرة.. الخ.
أنا ـ بالفعل ـ أميل إلى كون "قصيدة النثر" شكل شعري أجنبي.. لكن ذلك لا يخرجها من ملف الشعر العربي كما يريدون، ذلك أنها ـ كما أسلفت ـ تُكتب باللغة العربية المحملة بدلالات تاريخية عميقة يصعب الفكاك منها، إلى جانب أن من يكتبها (شعراء) عرب، يحملون ثقافة وتراث وأوجاع المواطن العربي الذي يعبرون عنه.
الفارق الجوهري ـ إذن ـ بين "قصيدة النثر" وقصيدة التفعيلة ليس الوزن الخليلي، فقد أوردتُ قصائد موزونة وأخرى غير موزونة وبينتُ عدم وجود فروق فنية بينها، لكن الفرق يكمن ـ كما أعتقد ـ في عدة سمات تتصل بجماليات الشعر نفسها.. منها:
أولاً: أن "قصيدة النثر" مكثفة جداً، لا مجال فيها للإفراط في استخدام اللغة وتداعياتها، تصل إلى قارئها من أقصر الطرق وباستخدام أقل عدد ممكن من الألفاظ، فهي بناء محكم يستمد جماله من نظامه المتماسك الذي يصعب العبث فيه بالحذف أو الإضافة، بعكس البناء الفني المنبسط للقصيدة الكلاسيكية التي غالباً ما تصل رسالتها من سطورها الأولى، ثم تستمرئ الإطالة بهدف جلب متعة أكبر للمتلقي ـ أو هكذا يعتقد فرسانها ـ من خلال مزيد من الصور الفنية الفارقة، أو الألاعيب اللغوية المدهشة.
فإذا قرأت ـ مثلاً ـ قصيدة شوقي: "تكليل أنقرة وعزل الآستانة"، وأنا اخترتها بشكل عشوائي، ستجد أن ثمانية أبيات متتالية تصف الآستانة (ويسميها فروقُ) بشكل استاتيكي، لا يراكم البيت الشعري فوق الذي يليه سوى اقتراح صور شعرية لا وظيفة لها، يقول:

"مني لعهـدكِ يا (فروقُ) تحيـةٌ

كعيون مـائكِ، أو ربـى واديكِ

أو كالنسيم غدا عليكِ، وراح من

فوف الرياض، ووشيها المحبوكِ

أو كالأصيـلِ جرى عليك عقيقهُ

أو سـال من عقيـانه شـاطيك

تلك الخمـائل والعيون، اختارها

لك من رُبَـى جنـاته بـاريك".. الخ.
ويقول محمود درويش في قصيدة "مقهى وأنت مع الجريدة" من ديوان "كزهر اللوز أو أبعد":



"كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!

فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،

لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك،

أو يدقق في ضبابك إن نظرت

إلى فتاة وانكسرت أمامها..

كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي

في هذا الزحام بلا رقيب منك أو

من قارئ!

فاصنع بنفسك ما تشاء، اخلع

قميصك أو حذاءك إن أردت، فأنت

منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك

أو لوجهك ههنا عمل ضروريٌ. تكون

كما تكون.. فلا صديق ولا عدو

يراقب هنا ذكرياتك".. الخ.



القصيدة التي انكشفت من سطرها الأول: "كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي"، لكنها استمرت في التنويع على هذا المعنى بتراكم صور وحالات شعرية لا تفيد الرسالة كثيراً.
في المقابل تتخلى "قصيدة النثر" كلياً عن هذا التداعي الحر، ففي قصيدة بعنوان "تشخيص" ـ وأنا هنا أوردها كاملةً ـ من ديوانه الأول "ضد رغبتي" يقول الشاعر المصري أحمد المريخي:

".. وعندما فتحتُ قميصَ حبيبتي

لم تكن هناك مفاتنٌ

كان الجيلُ الذي يعيش هزيمةً حقيقيةً

يواجه الجيلَ الذي يندد بانتصاراته

فلا/ تلوموا حبيبتي

عندما أفتحُ قميصَهَا،

وتفتحُ قميصي،

ونحققُ معاركَ صغيرةً

لا تشبه الانتصار الزائف".


وفي قصيدة بعنوان "ثأر" ـ أوردها كاملة أيضاً ـ للشاعرة فاطمة ناعوت، من ديوانها "اسمي ليس صعباً"، تقول:

"القطة

لا تندهش

حين تبصر السيدة

تصفع وجه الطفلة الجميل

لمَّا كسرت الكوب

القطط لا تقدر أن تندهش

لكن

تقدر أن تتسلل في الليل

لتخمش تلك اليد".

ثانياً: أن "قصيدة النثر" استبدلت مجاز الصورة الشعرية بمجاز القطعة أو مجاز القصيدة. ففي الأمثلة السابقة سنجد أن أحمد شوقي ومحمود درويش، وكذلك محمد عفيفي مطر وأدونيس وحلمي سالم، يهتمون بالصورة الشعرية التي تأتي في سطر واحد أو عدة أسطر، وأحياناً في بعض سطر، باعتبار أن هذه الصورة هي عماد الشكل الشعري الذي يخلصون ـ جميعهم ـ له، سواء في الشكل العمودي أو التفعيلي: الموزون أو المكسور. بينما في قصيدتيْ أحمد المريخي وفاطمة ناعوت تجد لغة وظيفية منطقية تخلو تماماً من البلاغة القديمة، إذ يعتمد الشكل الذي يكتبانه على المفارقة التي يصنعها النص مع الموجودات حوله: الذات والآخر والكون بمفرداته والذاكرة والتاريخ.. الخ، ففي قصيدة أحمد المريخي ثمة يأسٌ من السجال السياسي المطروح على الساحة العربية ومن أطرافه على السواء، يجعل المواطن العربي يبحث عن انتصاراته تحت قميص حبيبته.. وفي قصيدة فاطمة ناعوت ثمة موازاة بين ضعف القطط مقابل الإنسان، وضعف العربي مقابل الأجنبي، فكما لا تملك القطة غير أن تباغت السيدة وهي نائمة لتخمش يدها، لا يملك العربي الأعزل إلا أن يباغت محتليه ويقذفهم بالطوب.. كما أن اللافت للنظر في القصيدتين اللتين أوردتهما ـ بالصدفة كذلك ـ أنهما تهتمان بالقضايا الكبرى، عكس اعتقاد الخطاب النقدي ـ التقليدي ـ الذي يتهم النماذج النثرية بأنها مغرقة في الذاتية لا تهتم إلا برصد المواقف الذاتية الصغيرة، وهو دليل جديد على أن النقد التقليدي لا يستطيع ـ مهما حاول الحياد ـ أن يرصد جماليات "قصيدة النثر".
ثالثاً: تقوم "قصيدة النثر" في أغلب نماذجها على ما يمكن أن نسميه "بناء المفارقة"، حيث يبدأ النص بجملة ما، ثم يبني عليها بناءه المنطقي فيظن القارئ أنه يأخذه إلى نهاية متوقعة، لكن النص يباغته وينتقل ـ فجأة ـ إلى جهة معاكسة ليحقق الدهشة الشعرية.
قصيدة "تشخصيص" لأحمد المريخي تبدأ بجملة ".. وعندما فتحت قميص حبيبتي"، النقطتان المتجاورتان، وواو العطف، يقولان ـ دون تزيُّدٍ ـ أن ثمة أحداث جرت قبل الكتابة يمكن استنتاجها، وهو شكل من أشكال توريط القارئ في كتابة الجزء الناقص من النص، ثم يكمل النص بناءه المنطقي: لم تكن هناك مفاتن، إنما كان هناك كذا وكذا.. فـ(السببية) لا تلوموا حبيبتي، ثم يعود النص إلى جملته الافتتاحية: عندما أفتح قميصها.. لكي ينطلق منه إلى اتجاه معاكس يحقق به المفارقة الشعرية: "نحقق معارك صغيرة/ لا تشبه الانتصار الزائف"، تلك المفارقة التي تحقق كمال الرسالة: هذا الجيل يحقق انتصاراته في الجنس لأنه يئس من الانتصار في المعارك الوطنية.
قصيدة "ثأر" لفاطمة ناعوت تحقق أيضاً هذه المفارقة، حيث يجد القارئ نفسه أمام بناء منطقي يبدأ من جملة ارتكاز: القطة لا تندهش، ثم تبدأ في البناء عليها.. متى؟: حين تبصر السيدة تصفع وجه الطفلة الجميل. لماذا: لما كسرت الكوب. ثم يعود النص إلى الجملة الأولى مرة أخرى: القطط لا تقدر أن تندهش.. في سبيله إلى إحداث المفارقة: لكن تقدر أن تتسلل في الليل لتخمش تلك اليد.
هناك بالطبع سمات أخرى كثيرة يمكن التوقف أمامها عندما نريد رصد جماليات "قصيدة النثر"، مثل خاصية السرد، ذلك أن هذه القصيدة استفادت كثيراً من تقنية السرد القصصي، ومن الحبكة القصصية، ومثل تشكيل الفراغ، حيث تهتم بالعلاقة بين الأبيض والأسود في فراع الصفحة، وهو إحدى خصائص الفن التشكيلي.. وغيرها.. وغيرها، هذه السمات جميعاً، مفردة ومجتمعة، هي التي تصنع إيقاع "قصيدة النثر" الذي يشبه الإيقاع السينمائي، لذلك فمن العبث ـ في رأيي ـ أن نبحث عن إيقاعها استناداً إلى الأشكال الإيقاعية في القصيدة التقليدية، فنجري وراء الحروف المتشابهة أو الكلمات المتكررة أو ـ حتى ـ تتابع السواكن والمتحركات، فهذا النوع لا يحتاج إلى هذه الأشكال القديمة.
هذا اجتهادي الذي لا أدعي أنه الصواب، فكل ما ورد فيه قابل للمناقشة والنقد.. بل والنقض، ولا أدعي أنه نهائي، فالقصيدة التي أتحدث عنها مازالت في طور التشكل، وهي تفاجئنا كل يوم بنص جديد، وشاعرٍ جديدٍ يمكن أن يقلبا رؤانا جميعاً، لكنه مجرد اجتهاد لتخليص "قصيدة النثر" من الأوهام والضلالات المحيطة بها، ومن أولئك المحسوبين عليها وما هم منها.

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
 .......  في نهاية  هذه  المحاضرة

 
اكتب قصيدة نثرية تتجلى فيها لواعجك الشخصية في حالات هذيانك
اترك عنانك للقلم ........ والورق هنا مرآة ناطقة على شتفيك







ودعني أنا  أطرب ........

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
هذيَانْ.....



شَرْقَ خِيّامِنَا

هُنَاكْـ

 خَلْفَ تِلْكَـــ التّلّهْ

حَيْثُ هُدُوءْ هَدِيرِ

أمْواجِ الطَّبيعه 

أحْمِلُ لَوْحَ خيَالي

وَريشةَ الخَاطِرة

وأنْسُجُ منْ خَيْطِ 

زَقْزَقَاتِ الْعَصافير

قَصِيدة نَثْرْ

وعَلي أنْغامِ

 هَسِيسٍ خَافِتْ

لِحِقّةٍ تَمْدَغُ عُشْبًا 

أُرَقِّصُهَا

حدّ تَبَخُّرِ ماءِ التّوتُرْ

مِنْ بينِ ثَنَايَاهَا..

وتشْخَصُ بأعليَ

جَبَلِ النّقْدْ مُبْتَسِمَهْ

فِي وَجْهِ سيّدتي شرينْ..

تُسَائِلُها كَاَنّها مِرْآةْ

هَلْ الْكُحْلُ

 فِي

 حُرُوفِ عيُونِي فَاتِنْ؟!


وَهَلْ لإيقَاعِ شَعْرِي مُوسيقَي؟!

أنَا يَا سِّيَّدَتِي أريدُ أنْ أفْتِنَهْ ..

وَبِوَجْنَتَا سَرْدِي

 أحْرِقُ خيطَ تَسَائُلِهْ ..


سَأنْسِفُ بِرِيّاحِ

صمْتِ صُراخي ضَبَابَ


ذُهولِ ذأكَ الْوَسَيمِ الْمُطَالِعْ

 أنَا يَاسَيّدتِي 


تٌيِّمْتُهْ!!

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
القديرة 


شيرين كامل


دورة ثرية جدا بما تحمله من استيعاب شمولي لاهم قضايا قصيدة النثر فحقا كانت باكورة لتاسيس ممنهج لهذا الفن 


بروقنا اللامعة


اتمنى لكم توفيقا خدمة لادبنا العربي


تقديري

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
محمد سوادي العتابي كتب:
القديرة 


شيرين كامل


دورة ثرية جدا بما تحمله من استيعاب شمولي لاهم قضايا قصيدة النثر فحقا كانت باكورة لتاسيس ممنهج لهذا الفن 


بروقنا اللامعة


اتمنى لكم توفيقا خدمة لادبنا العربي


تقديري



عميد البرق  محمد سوادي العتابي
 
عودة رائعة وحضور ألمعي

أرجو أن تعم الإفادة  لكل موهبة واعدة تنطلق من سماء برق الضاد الأدبي
 
كل التحايا العبقة من برق الضاد     إدارة ومشرفين وأعضاء لسموك أيها النبيل

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
  تحية برقية أعزائي مواهب  دورة النثر التخصصية
اليوم  أكمل معكم في هذه الدورة في محاضرتها  الرابعة عن مفهوم قصيدة النثر

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
ظهر مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي في مجلة شعر سنة 1960 للدلالة على شكل تعبيري جديد انتهت إليه الكثير من الأشكال التجريبية التي جربها جيل النصف الأول من القرن العشرين، كالنثر الشعري والشعر المنثور والشعر الحر. ويعد في مرحلته بمثابة الثورة الأخيرة على عمود الشعر العربي في بعده الإيقاعي خاصة. وقد اعتمد كل من أدونيس وأنسي الحاج في دراستيهما التأسيسيتين على كتاب سوزان برنارد " قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" إلى درجة القول: إن ما كتبه هذان الباحثان الشاعران لا يعدو أن يكون مجرد تركيب لمقاطع من هذا الكتاب. وقد أرجع أدونيس ظهور هذا المصطلح ونجاحه في الشعر الحديث إلى ما يلي:
ـ التحرر من نظام العروض الخليلي الذي ظل حاجزا نفسيا يقف ضد كل تجديد أو تطوير في الشعر العربي، وهذا التحرر قرب المسافة الفاصلة بين الخطابين النثري والشعري.
ـ الرغبة الجامحة في التخلص من كل ما يمت إلى الأشكال والقواعد الموروثة بصلة، والبحث الجدي عن بديل لما تم هدمه وتجاوزه .
ـ التوراة والتراث الأدبي القديم في مصر وبلدان الهلال الخصيب ، وهو تراث يتميز بكتاباته النثرية ذات النفس الشعري .
ـ ترجمة الشعر الغربي، فالقارئ العربي يعده شعرا على الرغم من تحرره من الوزن والقافية ، ويتحسس أبعاده الشعرية المتولدة عن الصورة ووحدة الانفعال.
ـ اختمار الأشكال التجريبية ما قبل قصيدة النثر، وآخرها النثر الشعري. والفرق بين هذين الشكلين في تصور أدونيس هو نفسه الفرق بين الشعر والنثر، فالنثر الشعري هو نثر قبل كل شيء يتسم بما يتسم به كل خطاب نثري من "استرسال واستسلام للشعور دون قاعدة فنية ومنهج شكلي بنائي وسير في خط مستقيم ليس له نهاية، لذلك فهو روائي أو وصفي يتجه غالبا إلى التأمل الأخلاقي أوالمناجاة الغنائية أو السرد الانفعالي، ولذلك يمتلئ بالاستطرادات والتفاصيل، وتنفخ فيه وحدة التناغم والانسجام. أما قصيدة النثر، فهي شعر، لذلك فهي ذات شكل، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خط مستقيم.. وبشكل عام، فإن النثر الشعري نثر يستخدم الشعر لغايات نثرية خالصة، أما قصيدة النثر فهي شعر يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة.
يضاف إلى هذه الخصائص خاصية أخرى أهملها أدونيس وربما تعد الأهم في ظهور هذا الشكل الشعري وانتشاره في الثقافة العربية، ألا وهي: ظهور هذا الشكل التعبيري في الغرب منذ أمد بعيد، والتأسيس له نظريا وتجريبه نصيا، واعتباره أحد الأشكال الأساسية التي اعتمدتها الحداثة الغربية. والدليل على ذلك أن هذا المصطلح لم يظهر في الثقافة العربية إلا بعد الاطلاع على كتاب سوزان برنارد، بل إن ما كتب عنه ـ كما أشرنا ـ لم يتعد التلخيص المبتسر لما ورد في هذا الكتاب. ولم يتحدث لا أدونيس ولا أنسي الحاج عن أي مصدر آخر ديني أو عربي.
وقد حددت سوزان برنارد لهذا الشكل الشعري ثلاثة خصائص تبناها كل من الباحثين العربيين وهي :
أ ـ الوحدة العضوية، فقصيدة النثر بناء يصدر عن إرادة واعية، وليس مجرد مادة متراكمة تراكما غفلا، إنها كل غير قابل للتجزيء أو الحذف أو التقديم أو التأخير بين مكوناته .
ب ـ المجانية: فهذا الشكل، شكل جديد لا علاقة له بكل أشكال الكتابة المعروفة من نثر وشعر، ورواية ومسرحية، حتى ولو وظف تقنيات هذه الأشكال، فهو شكل جديد لا غاية له خارج عالمه المغلق، أي، أنه مجاني ولا زماني .
ج ـ الكثافــة: يبتعد هذا الشكل الجديد عن كل خصائص النثر من استطراد وإيضاح وشرح وإطناب، وتكمن خاصيته الشعرية في كثافته وإشراقه، وبعبارة أدونيس انه " كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات قادرة على أن تهز كياننا في أعماقه، إنها عالم من العلائق".
1
ـ قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة : لم يكن الفرق بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة التي سبقتها إلى الوجود فرقا في البناء الخارجي، أو فرقا في الدرجة، لا ولا في حضور الوزن وعدم حضوره، وإنما يكمن في أعمق من ذلك. إنه فرق في لاحقية الشكل، وأولوية التجربة الشعرية على البناء، ورفض البناء على نمط واحد يتكرر. فقصيدة التفعيلة بعد سنوات معدودة نحت نحو التقعيد خصوصا مع نازك الملائكة، وسنت لنفسها حرية مقيدة تتنفس داخلها، وأشكالا بنائية تتكرر في كل قصيدة. أما قصيدة النثر، فقد فتحت باب التجريب كليا، ونفت كل القوانين، ودفعت بالتجربة إلى أمامية القول. وتميز فيها سوزان برنارد بين قطبين: قطب الهدم وقطب البناء.
والمصطلح نفسه يوحي بهذا التعارض الثنائي، فمصطلح قصيدة يعني البناء والتنظيم، ومصطلح نثر يعني الهدم والاسترسال في الكلام دون اعتبار لأي بناء فني. من هنا، ففي كل قصيدة نثر قوتان:قوة فوضوية هدامة تعمل على نفي الأشكال القائمة وتخطيها، وقوة منظمة تنزع إلى بناء كل شعري. فالبعد النثري تمرد ضد كل الأشكال، والبعد الشعري سعي إلى البناء. وقد ميزت سوزان برنارد بين نوعين من قصيدة النثر حسب هيمنة هذه القوة أو تلك، النوع الأول : القصيدة الشكلية، ومثلت لها بقصائد الوازوس برتراند، والنوع الثاني: القصيدة الفوضوية، ومثلت له بإشراقات رامبو..
والملاحظ أن الكتابات العربية لم تميز بين قصيدتين، وإنما تحدثت عن قصيدة نثر واحدة تتأرجح بين الهدم والبناء، إلا أنه في ما يبدو نظريا يهيمن على تفكير أدونيس النوع الشكلي، في حين يهيمن على تفكير أنسي الحاج النوع الفوضوي.
2
ـ حضور القصيدة الشكلية في قصيدة النثر العربية: يقول أدونيس:" أما قصيدة النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خط مستقيم، هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد منتظم الأجزاء متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية وتقودها وتوجهها، إن قصيدة النثر تتبلور قبل أن تكون نثرا، أي أنها وحدة عضوية وكثافة وتوتر قبل أن تكون جملا وكلمات.".
واضح من هذا القول حضور الشكل والنظام في قصيدة النثر كما نظر لها أدونيس، فهي ذات بنية دائرية، وهذه البنية تنبني أساسا على التكرار بمختلف أشكاله وأنواعه. وقد حصرت سوزان برنارد ـ المرجع النظري الوحيد لقصيدة النثر العربية ـ أنواعه التي وظفها الشعر الفرنسي في أربعة أنواع:

ـ إعادة اللازمة عبر مسافات منتظمة لجعل الثابت محسوسا.
ـ تكرار بداية الجملة في النهاية لإغلاق القصيدة وتدويرها .
ـ تكرار الكلمات والانطباعات لاسيما في بداية المقاطع أو نهايتها.
ـ تكرار الأصوات .
ويرى أدونيس أن هذا الشكل الجديد ينبني على الجملة اللغوية بوصفها وحدة لغوية صغرى بدل البيت أو التفعيلة التي بنيت عليه الأشكال السابقة. وتتميز هذه الوحدة المتموجة بتنوعها حسب التجربة، فهناك الجملة النافرة المتضادة المفاجئة للتعبير عن الصدمة، والجملة الموجية للتعبير عن الحلم والرؤيا، والجملة الغنائية للتعبير عن الألم والفرح والمشاعر الكثيفة.
وتستمد قصيدة النثر عند أدونيس إيقاعها من طريقة بناء الجملة، " وهو إيقاع متنوع يتجلى في التوازي والتكرار والنبرة والصوت وحروف المد وتزاوج الحروف وغيرها. وبذلك تفرض على النثر هيكلا منظما ، وتدخل الحياة والزمن في أشكال دائرية .
3
ـ قصيدة النثر العربية والقصيدة الفوضوية: ترى سوزان برنارد أن القصيدة الفوضوية كما كتبها رامبو تتمرد على كل القوانين لتتجه كلية نحو الأشكال الأكثر فوضوية، والأقل قياسية، وبذلك يقطع الشعر أي علاقة له بوظيفة الاتصال بين الشاعر والقارئ ليصبح آلة جهنمية يرفعها الفرد ضد الكون والثقافة والعقل وآلياته من أجل بناء عالم آخر أكثر بريقا وأشد صفاء.
فالشاعر الإشراقي كما يراه إلوارد ـ أحد مصادر مجلة شعر ـ يأخذ على كاهله العناصر الخام والساكنة التي يحملها إليه اللاوعي وتشويش الحواس، فيتضمنها في نظام متصل بالبنية الداخلية لعالم الكلمات، وبهذا النظام يصبح موقف الشاعر تجاه اللغة والحلم اتجاها إيجابيا وخلاقا، إنه يهدم ويزرع الفوضى في كل ما هو مشترك وعام، وفي الآن نفسه يعزز سلطة الفرد الساخطة وتنظيمه الجديد للكون. وبذلك تكون الفوضى هي النظام الذي يود إقامته على نظام الأشياء القائمة ليتولد عنها شكل أدبي لا اجتماعي جديد.
وإذا كانت القصيدة الشكلية تسيطر على الزمن بصبه في أشكال دائرية ، فإن القصيدة الفوضوية الإشراقية تتوخى بلوغ اللازمنية بنفي الزمن والتحرر منه وذلك بالقفز على المقولات الزمنية لتحقيق الاندفاع اللاشعوري اللانهائي. ويتضمن هذا الشكل الشعري نوعين من الزمن: الزمن الواقعي والزمن الممثل، وبقدر ما يتقلص الزمن الأول إلى حده الأدنى لوضع القصيدة تحت شكل الكل الموجز قصد التأثير في القارئ تأثيرا فوريا مكثفا، بقدر ما يتسع الزمن الممثل كإشعاع صادر من نقطة مضيئة ذات بريق آني ولامع. وتصطلح سوزان برنارد على هذا النوع من الزمن "بالشكل من الدرجة الثانية" الذي يلغي الزمن كليا، وذلك إما بإلغاء المقولات الزمنية لتصبح القصيدة بمعزل عن الزمان والمكان، أو بتقليص الديمومة واحتضان القرون في نظرة واحدة. وكما يتقلص الزمن تتقلص المسافات فتقترب الأشياء المتباينة والمتباعدة في ما بينها، وتنتفي المفاهيم المنطقية المرتبطة بمفهومي الزمان والمكان، وبذلك يتولد الحدس بعالم آخر غريب ومتوهج يسيطر فيه الإنسان على المادة بدلا من أن يخضع لها.
إن نفي الزمان والمكان وما يرتبط بهما من مفاهيم منطقية ينتج عنه بالضرورة هدم الأسلوب والترتيب الفني وتسلسل الأفكار وترابطها لتمنح الأولوية للكلمة بشكل عام، وللاسم منها شكل خاص، لأنه دلالة على الشيء وإيحاء له في جوهره اللازمني. كما تتمتع الكلمة بكينونتها المستقلة التي لا تذعن لمنطق النحو، إذ " لم تعد تندرج في تنظيم الجملة لكي يعبر فيها المعنى كما يعبر التيار في سلك كهربائي، فإذا هي تلمع ببريقها الخاص الكوكبي المنعزل ".
وعلى الرغم من أن النثر لا يسمح بهذه العزلة والاستقلالية للكلمة، فإن أدوات الترقيم (خطوط صغيرة وبياض وتعيين الكلمات ونقط التعجب ...) وسائل تفصل الكلمات عن السياق وتطبعها بنوع من الدلالة الخاصة إلى جانب دلالتها السياقية في الجملة. يضاف إلى ذلك تفكيك الجمل، والعطف، والتكرار الذي يؤدي إلى نفس الأثر. إلا أن التنظيم الشعري الحاضر بالقوة في قصيدة النثر يخلق ترابطا خاصا بين الكلمات وفق قوانين كونية خاصة بكل قصيدة يحكمها منطق داخلي خاص.
4
ـ البعد الإشراقي(الفوضوي)في كتابات أدونيس: إن مفاهيم الرؤيا والحدس والتخييل والبحث عن الخفي والمجهول والكشف ونشدان المطلق، كلها مفاهيم ترتبط بالقصيدة الإشراقية، بل إن قصيدة النثر كما يراها أدونيس تبنى خارج سلطة العقل ورقابة الوعي، وذلك قصد النفاذ إلى الدواخل وعيش حالة إشراق بالاعتماد على التلقائية كما نظرت لها السوريالية في بياناتها. وفي هذا الصدد يقول أدونيس: " إني لا أبحث عن الواقع الآخر، لكن أغيب خارج الواقع في الخيال والحلم والرؤيا. إنني استعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي أعانق وأخفي الآخر، ولا أعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة ".
نخلص مما سبق إلى أن أدونيس قام بعملية انتقاء من خصائص القصيدة الشكلية وخصائص القصيدة الفوضوية، وتركيب ما تم انتقاؤه في قصيدة النثر العربية. وقد تعرضت هذه العملية لانتقادات متعددة سواء من طرف القوميين الذين يرون في قصيدة النثر شيئا آخر غريبا عن الثقافة العربية، أو بعض الحداثيين أنفسهم الذين رأوا في أدونيس منتحلا لآراء الغير ومتبنيا لها.
5
ـ قصيدة النثر ومفهوم الكتابة: تعد مرحلة الكتابة الجديدة المرحلة الثالثة من مراحل تطور الإبداع عند أدونيس، بعد قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. وهي مرحلة مختلفة عن المرحلتين السابقتين، اللتين احتل فيهما الشكل الشعري مركز الاهتمام بسبب الصراع الذي خاضه الجيل الجديد ضد القوانين الشعرية الموروثة، أما في هذه المرحلة، فقد تحول الاهتمام أساسا إلى نوع الكتابة.
وقد ميز أدونيس بين مفهومين: مفهوم الخطابة، ومفهوم الكتابة. فالأول ذو طبيعة شفوية، ويستلزم خطيبا وجمهورا متلقيا وعلاقة مباشرة بينهما تنبني على الإثارة والتحريض والاستجابة والإقناع. وتقتضي الوضوح وقوة البرهان والدليل وحسن الأداء البلاغي. وتكون وظيفته الدعوة إلى الرأي أو العقيدة أو الأيديولوجيا. وينبني الشعر القديم في معظمه على هذه الأسس مدحا كان أم هجاء أم رثاء أم غزلا، كما أنها ظلت حاضرة في القصيدة العربية المعاصرة خصوصا وأن المرحلة مرحلة مد قومي، وازداد حضورها بقوة بعد 1965 في شعر المقاومة الفلسطينية.
أما المفهوم الثاني ، فقد حصر البيان ملامحه في ما يلي:
أ ـ
الإبداع دخول في المجهول لا في المعلوم .
ب ـ إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية .
ج ـ خلق زمن ثقافي بدل الزمن الشعري .
د ـ التركيز على فعل الإنتاج لا على ما تم إنجازه .
هـ ـ الكتابة خلق وإبداع لا استعادة واجترار.
و ـ الكتابة تساؤل لا جواب.
إن هذه الملامح ليست جديدة كل الجدة عما سبق أن نظر له أدونيس، فباستثناء الملمح الثاني، فإن باقي الملامح الأخرى تتحدث عنها بياناته السابقة، وتشترك فيها الكتابة والقصيدة الجديدتان. ويبقى الفرق بينهما في تعدد الأساليب والأجناس داخل الكتابة، وصفاء القصيدة من هذا التعدد
.

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
قصيدة النثر

المفهوم و الجماليات

مقال

الدكتور مصطفى عطية جمعة*





( 1 )
قصيدة النثر ، هذا الشكل الفني الذي بات يحتل مساحة كبيرة في النتاج الشعري العالمي عامة ، وفي المشهد الشعري العربي المعاصر خاصة . ولعل الكثيرين يعترضون على المسمى المطروح " قصيدة النثر " ، ويرون أنه يحمل التناقض في بنيته ، فكيف يكون قصيدة ؟! وكيف يكون نثرا ؟! وهذا مؤسس على قناعة أن القصيدة ، وفقا للموروث الثقافي الإنساني ، لابد أن تؤلف على أوزان وإيقاعات ، وأن النثر يخلو من هذا الوزن . وهذا يعود بنا إلى التفرقة البسيطة بين الشعر والنثر ، فالشعر موزون ، والنثر يضاده . أي وفقا لتعريف قدامة بن جعفر المتوارث للشعر بأنه : " كلام موزون مقفى " ، وهو تعريف مختلف عليه كثيرا من قبل النقاد القدامى والمحدثين .
ومن ثم يكون التساؤل : لماذا نعد مصطلح قصيدة النثر يحمل التناقض ؟ لماذا لا يحمل التقارب ؟ لماذا لا يكون الجمع بين هاتين الكلمتين وسيلة لجمع ما يميز القصيد وما يميز النثر ؟
هذا السؤال يتناول القضية بطريقة معكوسة ، فبدلا من الاختلاف الذي يحمله طرفا المصطلح ، سيكون النقاش دائرا في دلالة الإضافة في هذا المصطلح بين الكلمتين . أي أن هذا الشكل الأدبي يجمع جماليات شكل القصيدة الممثلة في : الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة وتوهج اللفظة وعمق الرؤيا وشفافيتها. وجماليات النثر الممثلة في : التحرر من أسر الوزن الشعري ، والانطلاق في آفاق التحرر اللفظي والتركيبي ؛ فالنثر فيه الكثير من الحرية الرؤيوية واللفظية .
( 2 )
لقد خالف النقاد العرب القدامى تعريف قدامة بن جعفر الذي يحدد الوزن والقافية كإطارين مميزين للشعر ، وهذا هو الناقد العظيم " عبد القاهر الجرجاني " يورد في كتابه دلائل الإعجاز واقعة حوار حسان بن ثابت ( رضي الله عنه ) مع ابنه ، حيث سأل حسان ولده : ما الذي يبكيك ؟ فقال الابن : لسعني طائر كأنه ملتف في بردى حبرة . فقال حسان : لقد قلتَ الشعر ورب الكعبة .
ويورد – عبد القاهر – أيضا واقعة الأعرابي الذي سئل : لمَ تحب حبيبتك ؟ فأجاب : لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس .
ويستخلص عبد القاهر من هذا الموقف : أن الشعر يمكن أن يوجد دون أوزان. أي أن الشعرية الحقة لا تتوقف عند الوزن ، بل هي التخييل المعبر عن أحاسيس متقدة ، ورؤيا نافذة ، شديدة العمق ، ويكون التعبير الجميل مطيتها .
فمن خصائص الشعر : التخييل ، الأحاسيس ، جماليات الكلمة والتركيب ، الرؤية الشفافة .
( 3 )
لقد أضافت سوزان برنار في كتابها المرجع " قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن " خصائص عدة لقصيدة النثر وهي :
- الإيجاز : وتعني : الكثافة في استخدام اللفظ سياقيا وتركيبيا .
- التوهج : وتعني الإشراق ، أي يكون اللفظ في استخدامه متألقا في سياقه ، كأنه مصباح مضاء ، إذا استبدلناه بغيره ينطفئ بعض البريق في الدلالة العامة وفي الجمال التركيبي النصي .
- المجانية : وتعني اللازمنية ، أي يكون اللفظ غير محدد بزمن معين ، فالدلالة متغيرة ، حسب السياق والرؤية والتركيب ، وتكون قصيدة النثر ذات دلالة مفتوحة ، يمكن أن تفهم على مستويات عدة .
- الوحدة العضوية : وتعني أن يكون النص كلا واحدا ، ونترك وحدة البيت، ويكون النص كله وحدة واحدة ، لا يمكن أن يقرأ بمعزل عن أي جزء من أجزائه .
إذن " قصيدة النثر " تتخلى عن موسيقية الوزن والإيقاع ، لصالح بناء جماليات جديدة ، وأساس هذه الجماليات : تجنب الاستطرادات والإيضاحات والشروح ، وهي ما نجده في الأشكال النثرية الأخرى ، وتبقي على قوة اللفظ وإشراقه ، فقصيدة النثر : تؤلف عناصر من الواقع المادي ( المنظور ) حسب الرؤية الفكرية للشاعر ، وتكون هناك علاقات جديدة بين ألفاظ النص وتراكيبه ، هذه العلاقات مبنية على وحدة النص وحدة واحدة ، ذات جماليات مبتكرة تعتمد على رؤية الشاعر للواقع المادي الخارجي بمنظور جديد ، تنعكس هذه الرؤية على علاقات الألفاظ ، وبنية التراكيب ، وقوة التخييل ، وجدة الرمز .
وهذا ما يقود في النهاية إلى إثارة الصدمة الشعرية – كما تصفها سوزان برنار- ، هذه الصدمة ناتجة عن التلقي للنص الشعري ، واللذة في هذا التلقي الناتج عن التأمل في بنية النص ، وروعة جمالياته ، ورؤياه الجديدة .
( 4 )
إن مصطلح " الصدمة الشعرية " يطرح آلية جديدة في فهم قصيدة النثر وتلقيها، ذلك أنه يتناول قصيدة النثر من منظور المتلقي ، هذا المتلقي هو المستهدف الأول للمبدع . فيكون السؤال : لماذا نعشق الشعر ؟ وتكون الإجابة : إن الشعر يدخلنا في حالة من الوجل النفسي ، ناتجة عن جماليات النص ، وشفافية المشاعر ، وروعة الأسلوب ، والنغمية المتولدة في الألفاظ والتراكيب وتلك العلاقات الجديدة التي أبدعها الشاعر بين الألفاظ والتراكيب . وهذا ما تحققه قصيدة النثر ، بدليل أنها امتلكت الكثير من المشروعية والقبول لدى المتلقين في العالم منذ ما يزيد على قرن ونصف القرن .
وتكون " الصدمة الشعرية " إحدى أبرز المعايير في تلقي قصيدة النثر ، حتى لا يعد أي هذيان أو افتعال أو تراص لفظي ، قصيدةً نثريةً كما يفعل البعض ، فقصيدة النثر شكل أدبي ، يحقق الدهشة أو الصدمة ، وهذا يتوقف على إجادة الشاعر في التقاط رؤية جديدة ، مصاغة ببنية جديدة ، قوامها الصور والرموز والتوهج اللفظي والتركيبي .
( 5 )
ومن المهم التأكيد على أن مصطلح " قصيدة النثر " يخالف بعض الشيء مسمى الشعر المنثور ، فقصيدة النثر شكل أدبي اكتسب رسوخا ، وتنظيرا واضحا، استقرت معه الكثير من الأطر الجمالية . أما الشعر المنثور فيختلف عنه، فهو عبارة عن كتابة الشعر دون وزن ، وهو الأساس لقصيدة النثر المعاصرة ، ويكاد تعريفه يتوقف عند ملامح بعينها أبرزها : التخلي عن الوزن والقافية ، والإبقاء على روح الشعر المتمثلة في الإحساس المتقد ، والصورة الخلابة ، واللفظ المنغّم . وهي محاولات تعود إلى أشكال مصاحبة للمدرسة الرومانسية للشعر ، التي ظهرت في مطلع القرن العشرين ، واستوت على يد جماعة أبوللو الشعرية ، وقد كان الشعر المنثور أو النثر المشعور أحد أشكالها ، وقد امتاز بكونه مكتوبا على هيئة الشعر ، ويعتمد على وحدة البيت ، ونغم الألفاظ ، وجمال الصورة ، وتألق العاطفة ، أي نفس مفاهيم الشعر الرومانسي وآلياته . وهو بلا شك الأب الشرعي لقصيدة النثر في الأدب العربي المعاصر ، ومن المهم قراءة تطور قصيدة النثر في ضوء تجربة الشعر المنثور السابقة .
ويجدر بالذكر أن الشعر المنثور ، يخالف بكل شكل من الأشكال ما يدونه البعض من الخواطر المكتوبة ، فالشعر المنثور نص عالي الشاعرية ، يدور حول رؤية جديدة أساسها الوجدان المتقد والجمال النصي ، أما الخاطرة فهي نثرية الطابع ، تعتمد على وصف لحظة نفسية ما ، عبر جمل وتراكيب تمتاز بالإسهاب وتخلو من الشعرية في اللفظ ، وقد تغرق في الوصف البصري لما هو مادي .

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
أتابع معكم  أحبائي في دورة النثر التخصصية في المحاضرة الخامســــــــــــــة وذلك لتعويض النقص القسري الذي حدث في هذه الدورة

محبتي لكم وكل التقدير


descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz

آراء في قصيدة النثر

أثار مصطلح قصيدة النثر منذ مولده أو بالأحرى اجتلابه إلى البيئة العربية العديد من النقد أبرزه ملاحظة التناقض بين طرفي المصطلح، إن هذا المصطلح يثير مفارقة واضحة بين طرفي القصيدة والنثر فيقول: (وقد أثارت المفارقة الواضحة بين طرفي المصطلح) القصيدة والنثر ( وما زالت تثير- كثيرا من الجدل).
وأرى أن على النقد تخطي ذلك الجدل؛ لأن هذا اصطلاح، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح كما علمنا علماؤنا الأوائل.
كما يجب ألا ننسى أن الشعر الحر أيضا قام على مصطلح غير دقيق، ولم ينته الشعر الحر بسبب ذلك.وقد نشأت مصطلحات أخرى مهدت في العربية لهذا النوع مثل:
الشعر المنثور الذي يعرفه أمين الريحاني قائلا: (يدعى هذا النوع من الشعر الجديد. بالإفرنسية(Vers Libres) وبالإنكليزية(Free Verse) أي الشعر الحر الطليق - وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج وبالأخص عند الإنكليز والأمريكيين. فشكسبير أطلق الشعر الإنكليزي من قيود القافية. وولت وتمن(Walt Waiman)الأمريكي أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر الطليق وزنا جديدا مخصوصا وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة.
لاحظ أنه يتحدث عنه بصيغة الحديث عن آخر صيحة!
ولتوفيق الحكيم تجربة يعبر عنها قائل: (ولقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن وأنا في باريس بالشروع في المحاولة، فكتبت بضع قصائد شعرية نثرية من هذا النوع، وهو لا يتقيد بنظم ولا بقالب معروف).
أما حسين عفيف فقد عرفه بأنه: (يجري وفق قوالب عفوية يصبها ويستنفدها أولا بأول، لا يتوخى موسيقى الوزن ولكنه يستمد نغمته من ذات نفسه. لا يشرح ومع ذلك يوحي عبر إيجازه بمعان لم يقلها، ليس كشعر القصيد ولا كنثر المقال ولكنه أسلوب ثالث.
وفي تعريف آخر له يقول: (الشعر المنثور يتحرر من الأوزان الموضوعة ولكن لا، ليجنح إلى الفوضى، وإنما ليسير وفق أوزان مختلفة يضعها الشاعر عفو الساعة ومن نسجه وحده، أوزان تتلاحق في خاطره ولكن لا تطرد، غير أنها برغم تباين وحداتها، تتساوق في مجموعها وتؤلف من نفسها في النهاية هارمونيا واحدة، تلك التي تكون مسيطرة عليه أثناء الكتابة).
لكن أنسي الحاج يفرق بين المصطلحين فيقول: (لكن هذا لا يعني أن الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر، إلا أنهما- والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر- عنصر أولي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع). أما البداية الفعلية فترجع إلى جماعة مجلة شعر التي أسست في بيروت 1957م بريادة كل من يوسف الخال، وخليل حاوي، ونذير العظمة، وأدونيس، ثم انضم إليها: شوقي أبو شقرا وأنسي الحاج، ودعمها من خارجها جبرا إبراهيم جبرا و سلمى الجيوسي ويصرح أنسي الحاج بأنه:
ا(صاحب أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة بالعربية، ديوان (لن) هو الكتاب الأول المعرف نفسه بقصيدة النثر والمكتوب بهذه الصفة تحديدا. والمتبني لهذا النوع تبنيا مطلقا).
فماذا قال في مقدمته التأريخية تلك؟
قال: (هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر).
تعريف قصيدة النثر أوردت الموسوعة العربية العالمية تعريفا منصفا لها، يتضمن أغلب مقولات أنصارها، حيث عرفتها بأنها:
(جنس فني يستكشف ما في لغة النثر من قيم شعرية، ويستغلها لخلق مناخ يعبر عن تجربة ومعاناة، من خلال صور شعرية عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صياغية تحسُّ ولا تُقاس).
موقف من التراث
وبينما كان رواد الشعر الحر(التفعيلة) معنيين بصلتهم الوثقى بالتراث الشعري والعروضي العربي، فإن من رواد قصيدة النثر من لم يهتم بهذه الصلة، بل إن منهم من صرح بالاغتراب عن هذا التراث العربي، يقول أنسي الحاج:
(أشعر بالغربة في المقروء العربي، قراءة العربية تصيبني بملل لاحد له، وما أبحث عنه أجده في اللغة الفرنسية؛ لأن الفرنسية هي لغة (الانتهاك) بينما العربية لغة (مقدسات)).
وهذا تعميم غير علمي وشبهة مردودة، فاللغة - أي لغة - قادرة على أن تعبر عن المقدس وغير المقدس.
ومنهم من عد الاهتمام بالبحث عن جذور أو أصل في التراث خللا كالشاعر قاسم حداد؛ إذ يقول: (ثمة خلل في الصدور عن إحساس بضرورة تأصيل كل ظاهرة فنية لمرجعية محددة، كأن تكون الكتابة، خارج الوزن، معطى منسوخا عن تجربة - قصيدة النثر الغربية، أو أن يكون لهذه الكتابة أسلاف في التراث العربي ).
وفي المقابل حاول نفر منهم تعويض النشأة الأجنبية لقصيدة النثر اصطلاحا وتعريفا وشروطا قائمة كلها على نماذج من الأدب الفرنسي، فلجأوا إلى التراث العربي القريب ناسبين قصيدة النثر إلى جبران ومصطفى صادق الرافعي والبعيد، مفتشين عن نماذج لابن حزم، أبي حيان الأندلسي، وابن عربي.
أما على مستوى التنظير فلجأوا إلى بعض النصوص التراثية للاستئناس بها لقواعد سوزان برنار، مثل النص الذي أورده عبد القاهر: (حين رجع عبد الرحمن بن حسّان إلى أبيه حسَّان وهو صبيّ، يبكي ويقول لَسَعَني طائر، فقال حسان: صِفْهُ يا بُنيَّ، فقال: كأنه مُلْتَفٌّ في بُرْدَىْ حِبرَة، وكان لسعَهُ زُنْبُور، فقال حسّان قال ابنِي الشِّعر وربِّ الكعبة، أفلا تراه جَعل هذا التشبيه مما يُستدَلُّ به على مقدار قُوّة الطبعِ، ويُجْعَل معِياراً في الفَرْق بين الذهن المستعدّ للشعر وغير المستعدّ له). وليس في نص الجرجاني دليل على أن الشعر يكون بغير وزن لأن تسمية حسان ما قاله ابنه شعر تسمية مجازية توحي بقوة استعداد ابنه للشعر فيما بعد كما هو واضح من تعليق عبد القاهر.
ومنهم من تمسك بقول الفارابي: إن (القول الشعري قد يكون غير موزون). ولم ينتبهوا أن القول الشعري للفارابي مختلف عن الشعر، فالمقصود به الحجة الشعرية في اصطلاح الفلاسفة.
موقف من الموسيقى
يعبر أدونيس عن موقف رواد قصيدة النثر من الموسيقى قائلا:
(الوزن/ القافية ظاهرة إيقاعية - تشكيلية ليست خاصة بالشعر العربي وحده وإنما هي ظاهرة عامة في الشعر الذي كتب ويكتب بلغات أخرى، لكن على تنويم وتمايز. الزعم إذن، بأن هذه الظاهرة خصوصية نوعية لا تقوم اللغة الشعرية العربية إلا بها، ولا تقوم إلا بدءا منها واستنادا إليها، إنما هو زعم واهٍ جدا وباطل).
يبدأ أدونيس بمقدمة سليمة، هي أن الوزن والقافية ظاهرة إيقاعية ليست خاصة بالشعر العربي وحده، وهذا صحيح قد بينه الزمخشري من قبل، لكنه يقفز إلى نتيجة خاطئة هي رفض ألا تقوم اللغة الشعرية إلا بها.
فهل وجود الوزن والقافية في شعر لغات أخرى، ينفي أن يكونا عنصرين من عناصر بناء الشعر العربي؟
وكذلك فإن عدم وجودهما في شعر لغة من اللغات (ليس مما يسلب الشعر كله من موسيقاه)، كما يقول الدكتور أنيس.
بدائل الموسيقى
بعد أن اتفق أصحاب هذا الاتجاه إهدار عنصر الموسيقى راحوا يبحثون عن بدائل للتعويض، فتوصلوا إلى عمود لقصيدة النثر مستقى من تنظير برنار، قائم على شروط ثلاثة من دون أحدها يستحيل الحديث عن قصيدة نثر، وكل شرط من هذه الشروط يستدعي ملازما له على هذا النحو:
* الإيجاز: الكثافة
* التوهج: الإشراق
* المجانية: اللازمنية
مبدأ تعويض الموسيقى الغائبة:
وقد أشار أنسي الحاج إلى هذا القانون فقال عن قصيدة النثر: إنها ( تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق، الرؤيا التي تحمل أو تعمق التجربة الفذة، أي بالإشعاع الذي يرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذي تستوي القصيدة ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط). وهو يشير هنا إلى مبدأ الاستعاضة أو التعويض الذي نقله عن سوزان وتلقاه نقاد قصيدة النثر.
وقد بلور الدكتور صلاح فضل هذا القانون فقال: (إن قصيدة النثر تعتمد الجمع بين الإجراءات المتناقضة، أي أنها تعتمد أساسا على فكرة التضاد، وتقوم على قانون التعويض الشعري).
وأنا أرى أن قانون التعويض هذا ملازم لقصيدة النثر وأصحابها في أكثر من مستوى بدءا من المصطلح (قصيدة) ومرورا بكتابة كلمة شعر على نصوصهم ودواوينهم، وإلحاح بعضهم، لا سيما الماغوط،على الإكثار من مفردات (شعر وقصيدة) في نصوصهم.
والذي يعنيني هنا مبدأ التعويض عن عنصر الموسيقى، وأرى أنه قائم على مفارقة عجيبة.
فالتعويض إنما يكون عما يفقده الإنسان لا بإرادة منه، فحينئذ يلجأ إلى تعويض ما خسره، أما في حالة قصيدة النثر فإن إهدار الموسيقى متعمد، فما معنى التعويض؟

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
قصيدة النثر ومنظومة الحس العربي

د. ميلاد متى




ما توقفت قصيدة النثر عن إرباك القراء و الناقدين معا ً ، منذ ظهورها " رسميا ً " في القرن التاسع عشر في فرنسا مع شارل بودلير ، حين نشر Paris Spleen سنة 1869، كقصيدة نثر ، و التي قال فيها M.Riffaterre : " نوع أدبي يحمل إردافا ً خُلفيا ً كإسم " .

و مع ذلك فإن بودلير نفسه شاء أن يقدّم التعريف الأول لهذا النوع " كأعجوبة النثر الشعري ، موسيقي ّ ، و مع ذلك دون وزن ، و من دون قافية . مِطواع ، إلا أنه صارم ٌ و عاصف ٌ إلى حد يتماثل فيه مع نبضات الروح العاطفية ، مع اليقظة الحالمة في مدّها و جزرها ، و مع وخزات الضمير " .

و يبدو أن بودلير بعد هذا التعريف الرومانسي المبهم ، قد فتح الباب لنـزعة أدبية سيعزّها و يدللها شعراء في الشرق و الغرب ، كنوع مثالي به يملأون رغبتهم القوية في تعقيدات تركيبية و تأنقات أسلوبية ، حتى أن أية محاولة تعريف واحد كلي ٍّ لهذا النوع ستنتهي بالفشل .


أما تعريفRiffaterre فيحمل إشكالية الشعر و النثر منذ أن ظهر الشعر و النثر . فيتضارب مفهوماهما المعجميان التقليديان في أسئلةٍ أقلّها : كيف يكون النثر شعرا ً ؟ و العكس : كيف يكون الشعر نثرا ً ؟ والأصح : كيف نستخرج من النثر شعرا ً ؟ .

هذا إذا سلّمنا أننا نملك معايير النثر و الشعر و مفاهيمهما المحددة . وإذا سلّمنا أننا نمسك بناصية الأدب الذي لا يزال غامضا ً ، حتى أن أحداً اليوم ، لم يعد يكلّف نفسه مشقة البحث عن تعريفات جديدة له .

يقول ميخائيل نعيمة : " اللغة في القاموس مومياء . أما على ألسنه الناس و شفاههم فكيان حي يزخر بأمواج الأفكار و الخيالات ، و يلتهب بكل أصناف الميول و الإحساسات " فلا عجب إذا ً ، إذا قرأنا عن النحو في قصيدة هي ألفية ابن مالك الشهيرة . و لا عجب إذا عرف القارئ أن طبيباً لبنانياً كتب أطروحته في الأمراض الجلدية شعرا ً ، و باللغة التشيكية ، وزنا ً و قافية ً .

الشعر و النثر صنعتان كلاميتان تتقاطعان و تتمازجان ، تنـزلقان باستمرار الواحدة نحو الأخرى , كمن عقباهما على قشرة موز. و حتى لا نغالي في استحالة التعريف ، فإننا نستطيع القول أن قصيدة النثر تبدو للوهلة الأولى مركّباً يستطيع أن يحتوي بعض أو كل ميزات الغنائية . عدا أنه مكتوب ٌ نثرا ً – بالرغم من أنه لا يُعد ّ كذلك – على مساحة الصفحة . هذا المركّب يختلف عن النثر الشعري بقصره و تضامّه . و عن النثر الحر بانعدام الوقفات (=الانقطاعات ) في السطر الواحد ( باعتباره بديلا ً عن البيت أو الجملة ) ، و عن المقطع النثري القصير بما فيه من ايقاعات واضحة ، و تأثيرات صوتية و مجاز و تخيّلات و كثافة في التعبير . و قد يحمل أحيانا ً قوافي داخلية و تعاقب إيقاعات ٍ ( = أوزان ) سريعة . و يمتد طوله عامة ، من نصف صفحة ( مقطع أو مقطعين ) ، إلى صفحتين أو ثلاثة.

هذه الميزات تنطبق على القصيدة النثرية الغربية كما تنطبق على القصيدة النثرية العربية ، و التي سمّاها بعض الدارسين بـ " شعر الحداثة " ، أو " الشعر المعاصر " . و هما تسميتان طغيا إبّان و بعد الإخفاقات و الانكسارات و النكسات العربية الكبرى سياسيا ً و اجتماعيا ً في أواخر الخمسينات و الستينات . فولدت قصيدة النثر العربية من رحِمَي ِ السياسة و المجتمع المهترئين العقيمين آنذاك ، ثائرة ، رافضة ، فاضحة ، هاجمة ، مدمّرة ، محطمة الشكل اللغوي و المضمون التراثي . تغذّيها الثقافة الغربية ولا سيما الفرنسية كما عند أنسي الحاج و بول شاوول .

و برزت رؤيوية سريالية . و أحيانا ً كثيرة ً ، هلوسية ، هذرية ، فوضوية عابثة ، لا تهدف إلى شيء ، سوى ربما ، إلى جمالية الغريب و المألوف و اللامنطق .

إلا أن قصيدة النثر العربية اليوم ، وبعد تجربة دامت أكثر من أربعين سنة ، تبدو أكثر نضجا ً و التصاقا ً بالحياة ، تبدو أكثر شفافية ً و هدوءاً . تغلب عليها المعاناة الغنائية من دون أن تتخلى عن نبرتها الثورية المبطنة بالألم ، حيث تتداخل فيها التأثيرات الحضارية و الثقافية .

لقد باتت ملاذا ً لطالبي المساحات الحرة ، حيث لا قوانين و لا معايير تعبيرية مُلتزمة و مُلزمة . هي ملاذ يوافق الحس العربي من حيث :

1- أيدولوجية الفوضى : فوضى في السياسة و المجتمع والاقتصاد . و حتى في الفنون ، و أهمها فوضى الغناء و انحطاطه ، فحدّث ولا حرج .

يقابلها فوضى القصيدة : التراكم و الغموض و الإغراب . و فوضى الشكل : كتابة أفقية ثم عامودية ، ثم انحدارية مائلة ، متقطّعة :

هل يذكر النهر ؟

كانوا يسمونه وردة الميتين

و يمشون خلف المياه

إلى

آخر

العمر

ها هو يمضي بطيئا ً

إنها – أي القصيدة – شِعر ٌ أشعث ، كالشعر الأشعث : مغبرّة ، متغيرة ، متلبدة و منتشرة .

2- الضغط : و منه الاقتصادي و الديني و الذكوري . يقابله كبت ٌ كلامي و انقطاع فجائي أحيانا ً ، و ضغط في المعاني و عدم اكتمال الصورة .

3- الرفض : الداخلي غير المُعلن و مخالفة الواقع . فالقصيدة رفضية ، غاضبة ، مغلّفة بالانزياح نحو الممنوع و المُحرّم بلغة اللبس و الإبهام تارة ً ، و بالجرأة و الوقاحة و العُجمة و السوقية طورا ً Vulgarism حتى في قصائد النساء الشاعرات اللواتي سفرن عن وجوههن و لغتهن ّ في آن ٍ معا ً .

4- حال العُدم (= الفقدان ) و العَدَم ( ضد الوجود ) ، لحلّ معضلة الإنسان العربي . أنتجت قصيدة العبثية و اللامنطق و الهلوسة . متخذة ً من الدفق الخيالي و الرؤيوي ركيزة الإبداع .

كل هذا و أكثر ساهم و رفد قصيدة النثر . و عندنا ، أن البحث عن مبررات و عوامل خارجية لتعريف هذا النوع الأدبي ، لا يكفي و لا يمكن تعميمه . فإن بعض كتّاب قصيدة النثر ، ممن خلقوا لأنفسهم عالما ً خارج عالم السياسة و الاقتصاد و الدين ، قدّموا إبداعات ٍ يمكن تصنيفها في باب الفن للفن ، و شعارهم النـزعة الجمالية .

و على هذا ، فإن أفضل مقاربة علمية عملية لقصيدة النثر ، هي تلك المبنية على تعاليم الألسنية ، بحيث يتفكك هذا المركّب إلى عناصره اللغوية الأساسية : من الأصوات ( = الإيقاعات ) ، إلى الحقول المعجمية ، إلى الوظائف الكلامية ، إلى الأنماط النصية ...

و في رأينا أن هذا النوع Genre تمكن دراسته من خلال المقارنة بين الأنواع الكلامية الأخرى : النثر و الشعر و النثر الشعري و الشعر الحر . لأن قصيدة النثر توصّلت إلى التعبير عن روح الشعر متخطية ً القواعد الشكلية المتعارف عليها للنظم التقليدي .

و يُنظر ُ من حيث التخصص - في : كتابة المقطع و الكلام المنقطع ( = غير المُنهى ) ، و استقلالية النص الذاتية . كما يُبحث ُ في التماسك ووحدة المقطع ، و الكثافة و الفعل الشعري القوي . و الهندسة المشغولة : البناء – التطوّر – التوازي – الأصداء و تأثير الانغلاق .

و تنوّع الأنماط الكلامية و أشكال الكتابة : السردي ، الوصفي ، الحواري و التأملي ... و أيضا ً في تنوّع التصنيف: الغنائي و الملحمي و الخارق . ولا ننسى الكتابة الشعرية ( = الأسلوب ) : الصور و الإيماء و الإيجاز و الغموض ، و اللمح و المجاز و عدم الملاءمة الدلالية ، و القيمة الرمزية و التشكيلية ...

و بعد ُ ، فإننا نستذكر قول ستيفان مالارمي Stephane Mallarme وقد أحسن الإصابة : " الشعر في كل مكان من اللغة ، في كل مكان حيث الإيقاع ، ففي ما نسميه النثر ، شعر من كل إيقاع ٍ يمكن تصوّره ، و بعضه رائع ٌ . و في الواقع ليس هناك من نثر : هناك الألف باء ، ثم الأشكال الشعرية ، أقل أو أكثر صرامة ً ، و أقل أو أكثر إطنابا ً . ففي كل محاولة تعبيرية ( = أسلوب ) أصول شعرية ".

قصيدة النثر هي هذا الشعر في لغة ما . هي حاضرة حضور الأنواع الأخرى التي سبقت و لا تزال . و ستكون أنواعٌ أخر لشعرٍ آخر في لغةٍ أخرى . ما دام هناك مادةٌ هي اللغة ، و ما دام هناك صانع ٌ / شاعرٌ / فنانٌ / ثائرٌ .


descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz

* أنا أكتب نصوصا, ولن أغضب إذا قيل إنني لست شاعرا, وانما كاتب نصوص.

محمد الماغوط

* (القصدية)- ليست إجبارية للفعل الابداعي, يكفي أن نتذكر المرات الكثيرة التي كان فيها الدادائيون والسورياليون يتركون صناعة الأشعار- للصدفة.

ياكوبسون

* الديمقراطية هي أن تقهر نفسك, عندما تكون قادرا على قهر الآخرين.

عزالدين المناصرة

القسم الأول:

1 - مقدمة: الشبيه بقصيدة النثر:

مازال مصطلح (قصيدة النثر) هو الأكثر استعمالا وشيوعا في النقد المعاصر من غيره من المصطلحات التي اطلقت على النمط الكتابي الشبيه بالشعر والنثر معا. وهذه بعض الأسماء التي أطلقت على قصيدة النثر منذ نشأة الشبيه عام 1905 حين كتب أمين الريحاني أول نص من نوع (الشعر المنثور) وحتى عام 2001:

1 - الشعر المنثور 2- النثر الفني 3- الخاطرة الشعرية

4 - الكتابة الخاطراتية 5- قطع فنية 6- النثر المركز

7- قصيدة النثر 8- الكتابة الحرة 9- القصيدة الحرة

01- شذرات شعرية 11- الكتابة خارج الوزن 12- القصيدة خارج التفعيلة

13- النص المفتوح 14- الشعر بالنثر 15- النثر بالشعر

16- الكتابة النثرية- شعرا 17- الكتابة الشعرية- نثرا 18- كتابة خنثى

19- الجنس الثالث 20- النثيرة 21- غير العمودي والحر

22- القول الشعري 23- النثر الشعري 24- قصيدة الكتلة

25- الشعر الأجد

وبتقديري أن هذا الخطأ الشائع, خير من الصحيح الهامشي الثانوي الفرعي, كما أن الخطأ خير من التعميمات الشمولية المتناقضة, لهذا أرى أن مصطلح (قصيدة النثر), اصبح اكثر شيوعا ووضوحا واستعمالا في النصف الثاني من القرن العشرين, بينما سيطر مصطلح (الشعر المنثور) ومصطلح (النثر الشعري) على النصف الأول من القرن العشرين للدلالة على قصيدة النثر في مرحلتها الاولى, دون أن يتطابقا تماما.

صدرت أول مجموعة عربية من نوع (الشعر المنثور) عام 1910م, وهي بعنوان (هتاف الأودية) لأمين الريحاني, اشتملت على النصوص التالية (ريح سموم- رماد ونجوم- الثورة- غريبان- عند مهد الربيع- هتاف الأودية- غصن ورد- معبدي في الوادي- عشية رأس السنة- الى الله- هجروها- بلبل ورياح- المليك الشحاذ- الزنبقة الذاوية- الى المصلوب- أنا الشرق- ابنة فرعون- دجلة- النجوى- الى أبي العلاء- رفيقتي- عود الى الوادي- حجارة باريس- الى جبران- حصاد الزمان- البعث- النسر العربي- طريقان).

وقد كتب أمين الريحاني مقدمة لمجموعته ننقلها كاملة, (يدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالفرنسية Vers Libres, وبالانجليزية - - Free Verse أي الشعر الحر الطليق, وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الافرنج وبالأخص عند الانجليز والامريكيين. فشكسبير أطلق الشعر الانجليزي من قيود القافية. أما والت ويتمان - Walt Witman فقد أطلقه من قيود العروض كالأوزان والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر الطليق وزنا جديدا مخصوصا. وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة ومتنوعة. والت ويتمان هو مبتكر هذه الطريقة وزعيمها. وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أمريكا وأوروبا العصريين. وفي الولايات المتحدة اليوم, جمعيات (وتمنية), بين أعضائها فريق من الأدباء المغالين بمحاسن المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية, المتشيعين لفلسفته الأمريكية, اذ أن مزايا شعره, لا تنحصر بقالبه الغريب الجديد فقط بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو اغرب وأجد).

لنأخذ من مجموعة الريحاني, النص التالي وهو بعنوان (إلى جبران) على سبيل المثال:

على شاطئ البحر الأبيض

بين مصب النهر وجبيل

رأيت نسوة ثلاثا يتطلعن إلى المشرق

الشمس كالجلنار

تنبثق من ثلج يكلل الجبل

امرأة في ثوب أسود

وقد قبل التهكم فمها الباسم

امرأة في جلباب أبيض

نطق الحنان في عينها الدامعة

امرأة ترفل بالأرجوان

في صدرها للشهوات, نار تتأجج

ثلاث نسوة يندبن تموز

يسألن الفجر: هل عاد يا ترى, هل عاد!!

رأيته في باريس مدينة النور

يحيي الليالي على نور سراج ضئيل

رأيت بنات تموز, نسوة الخيال

يطفن حوله, في سميرات باريسيات

ورفيقات أمريكيات

يزدنه بهجة, شوقا, ألما ووجدا

البيضاء الجلباب

تفتح له أبواب الفن والجمال

السوداء الثوب

تقلب صفحات قلبه

تطويها بأنامل ناعمة باردة

الأرجوانية الوشاح تقف بين الاثنتين

أفرغت الكأس

كانت الروح مستيقظة... الخ- (1)

أولا: يستخدم الريحاني في مجموعته (هتاف الأودية) عدة أنماط كتابية, فهو يستخدم القافية في بعض النصوص وينثرها بحرية على السطور الشعرية أو قد لا يستخدمها إطلاقا, وهو أحيانا يشطب الوزن والقافية تماما, كما في نص (الى جبران), وهو لا يستخدم نظام الشطرين إطلاقا في المجموعة, لكنه أطلق صفة (الشعر المنثور) على المجموعة كلها, مما يؤكد أن مفهوم الشعر المنثور لديه يعني (ما يشبه قصيدة النثر) ويعني التحرر من نظام القافية ونظام الشطرين المعروف في الشعر العربي, لكنه يستخدم أوزانا مختلفة في القصيدة الواحدة.

ثانيا: يبدو لي أن مقدمة المجموعة كانت تعني بالشعر المنثور من الناحية النظرية (قصيدة النثر), رغم انه يسميه (الشعر الحر) انطلاقا من ترجمة المصطلحين الانجليزي والفرنسي. ولهذا فهو لم يخطئ في الترجمة, ومما يؤكد ذلك انه يقدم قصيدة النثر (الشعر المنثور) عند والت ويتمان بصفتها النموذج (أطلقه من قيود العروض كالأوزان والأبحر العرفية), ومعنى هذا انه يقصد مواصفات قصيدة النثر ولا يقصد غيرها من أنواع أخرى من الناحية النظرية.

ثالثا: تكمن الاشكالية في الفارق بين نصوص مجموعته التي تجمع بين قصيدة النثر بكل مواصفاتها كما في نص (إلى جبران) حيث التحرر تماما من الوزن والقافية وبين نصوص أخرى تشتمل على بعض الأوزان السطرية وبعض القوافي المتناثرة. فهو بالتأكيد لم يكتب شعرا عموديا, في هذه المجموعة.

والخلاصة هي أن مجموعة هتاف الأودية مزيج من قصيدة النثر ونوع آخر ربما مهد لقصيدة النثر, والمرجعية هنا هي الشعر الأمريكي والانجليزي والفرنسي. أما المصطلح (الشعر المنثور) فقد أخذه من مواصفات قصيدة النثر عند ويتمان, لكنه تجاهل مصطلح (الشعر الحر) في التسمية التي اعتمدها وان لم يتجاهله في المقدمة النظرية (الشعر الحر المنثور). أي انه وازن بين المواصفات وبين المصطلح الحرفي فاختار المواصفات مرجعية له, أي (الشعر المنثور), ليكون مطابقا - نظريا- مع مصطلح قصيدة النثر اللاحق, دون قصدية.

رابعا: طبق أمين الريحاني في نص (الى جبران) القصدية من النوع المستعمل, وطبق القصدية في المقدمة النظرية, فهو يقصد قصيدة النثر بالذات لكنه سماها (الشعر المنثور), لأن مواصفاته هي التحرر من الوزن والقافية.

خامسا: انطلاقا من الجدل المتأخر بعد قرن كامل حول (عدم القصدية) لدى كتاب قصيدة النثر في النصف الأول من القرن العشرين ورغم وضوح القصدية من خلال المواصفات, لا التسمية, نقول: ما كتب في النصف الأول من القرن العشرين يعبر عن قصيدة النثر (في مرحلتها الأولى). كما لدى أمين الريحاني, اضافة لشعرنة النثر المكثف لدى جبران خليل جبران, وبتقديري أن جبران هو الأب الروحي الحقيقي لعملية التجسير بين النثر والشعر, ثم جاء آخرون ليكتبوا ما يسمى بالنثر الشعري (مصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيان والمنفلوطي) مثلا. وبتقديري أن القصدية ليست نية الإعلان, بل هي ما اسميه (المتحقق النصي).

في العراق ينشر (رشيد الشعر باق) مقالة عام 1928 عن (الشعر المنثور)- (2)- حيث يرى أن الشعر الحر أو المطلق لا يشترط فيه ان يأتي من وزن واحد وقافية واحدة بل إن يأتي من مختلف الأوزان. أما الذي يشترط فيه- كما يقول كاتب المقال- فهو صوغ الجمل من الألفاظ, تلك الألفاظ التي يأتلف بعضها الى بعض في الأوزان الشعرية حتى تكون الجملة منسجمة فيه فواصل الجمل. أي أن تكون الجملة مستقلة في رسم الخط ويستحسن فيه ربط الجمل بأن يؤتي بعد كل جملة أو جملتين أو ثلاث بجملة صغيرة متكررة لتجلب الأذهان- كما يقول ويرى كاتب المقال أن نموذج الشعر المنثور منتشر عند العبرانيين كما في الأسفار التوراتية, خصوصا نشيد الأناشيد. ويقرر الكاتب أن (من يرى أسلوب سفر نشيد الأناشيد وتوقيع نغماته يحكم بلا تتردد أن ما يأتيه أدباء عصرنا مثل: جبران ومفرج ومي وغيرهم, منسوج على منواله ومفرغ في قوالبه ومضروب على غراره), ويرى أن الأسفار العبرية كتبت أصلا بدون قافية أو وزن, ويقول: إن العرب منذ الجاهلية كتبوا الشعر المنثور ثم كتبه المتنبي في نثره وكتبه المعري في (الأيك والغصون) و(ملقى السبيل) وكتبه ابن الخلفة في القرن الرابع عشر وسماه (البند). ويعلق (محرر مجلة لغة العرب) قائلا بأن رشيد أفندي الشعر باق يقول بأن أول من تعاطى الشعر المنثور في عصرنا هو أمين الريحاني. لكن الشعر المنثور هو ما تلتزم فيه القافية ولا يلتزم فيه الوزن. وأول من أبدع الشعر المرسل عندنا هو جميل صدقي الزهاوي في جريدة المؤيد القاهرية. وله قصيدة من الشعر المرسل في ديوانه (الكلم المنظوم) نشرت سنة 1908م. إذن ثبت- يقول المحرر- أنه لم يسبق أحد الأستاذ الزهاوي في ابداع الشعر المرسل). أمام هذه الوثيقة- المقال نتأكد أن أمين الريحاني كتب في مجموعته (هتاف الأودية)- الشعر المرسل والشعر المنثور. أما الزهاوي فقد كتب الشعر المرسل (وزن بلا قافية) عام 1908, لكن (مجلة الأوديسية) اللبنانية تقول (عام 1905 كتب أمين الريحاني اول قصيدة من الشعر المنثور, سرت مثالا لحركة شعرية ازدهرت بعد نصف قرن- قصيدة النثر- في الشعر العربي)(3).

كذلك تشير الوثيقة الى أن الشعر المنثور هو ما يكتبه جبران ومي زيادة وكما في سفر نشيد الأناشيد التوراتي وكما في (البند) لابن الخلفة. وهكذا يتضح أمامنا الطريق:

أولا: الشعر المنثور بلا وزن لكنه قد يلتزم ببعض القوافي المنثورة في نهايات بعض السطور وقد لا يلتزم بها إطلاقا كما في نص (إلى جبران) للريحاني.

ثانيا: الشعر المرسل هو شعر عمودي لا تلتزم فيه القوافي كما كتبه الزهاوي, ومعنى ذلك أن مرجعية الزهاوي عربية أما مرجعية أمين الريحاني فهي أورو أمريكية, لأن التحديث الشكلي في الشعر المرسل جاء من داخله, أما الشعر المنثور فهو تفاعل مع الآخر, مع هذا تعرض- الشعر المرسل- للانقراض.

أما لويس عوض في مقدمة كتابه (بلوتو لاند وقصائد أخرى) الصادر عام 1947م فيقول (الشعر المرسل منتظم الموسيقى لكنه يخلو من القافية, أما الشعر المنثور فهو حر الموسيقى وخال من القافية معا) (4). كذلك يكتب أورخان ميسر مقدمة كتاب سوريال الصادر عام 1947, الذي احتوى كتابات من الشعر المنثور, لكن المقدمة تركز على المذهب السوريالي في الشعر (اندريه بريتون وجماعته) (5)- وكأن الشعر المنثور مصدره ومرجعيته الأوروبية هي السوريالية. ونقرأ ما نشرته مجلة الأديب في نهايات الأربعينات من نصوص (الشعر المنثور) لكثيرين من بينهم ألبير أديب وثريا ملحس والياس زخريا ونقولا قربان, فنجد أن هذه النصوص تنتمي للشعر المنثور. نقرأ مثلا (قلق) لألبير أديب (6)- فنجد نصا بلا وزن لكنه يستخدم بعض القوافي المتناثرة في نهاية السطور الشعرية (الضياء- الحكماء- الكرماء- الجهلاء- السمحاء- الصلداء- الكساء- السماء- البلهاء- البخلاء).وقد أوحت هذه القوافي بركاكة النص من حيث التركيب الأسلوبي مثلا:

متعب أنا يا أختاه

مسح جبيني

وأظلم عيني الضياء

من قارورة النفس

وهبت أمتي

كما يهب الحكماء

صحيح أن هناك ايقاعا موسيقيا في النص لكنه غير منتظم, رغم أن (الرجز) هو السائد في النص كله لكن النص لا يلتزم به كأنه (شعر تفعيلة مكسور)- وهذا يدلل أن استعمال القافية في الشعر المنثور يوحي بالركاكة والضعف. ولو تخلص من القوافي لتحول النص الى قصيدة نثر. ونص ألبير أديب- كما نلاحظ- يختلف عن نص (إلى جبران) للريحاني.

لكن الريحاني أيضا كتب شعرا منثورا مليئا بالقوافي- الجديد هنا هو- ولادة (السطر الشعري) بدلا من نظام الشطرين.

خلاصة الأمر أن (الشعر المنثور), بعيدا عن القصدية او عدمها, أي انطلاقا من (المتحقق النصي), انتج شكل السطر الشعري واستخدم بعض القوافي أحيانا, ولكنه أيضا قدم (ما يشبه) قصيدة النثر أي بلا وزن أو قافية. أما المنظور الرؤيوي فهو مرتبط بكاتب النص وزمانه. وهكذا كان (الشعر المنثور), مرحلة اولى من التمهيد لقصيدة النثر من حيث المواصفات النظرية, لكن الريحاني ترجم مصطلح (Free verse) الى (الشعر المنثور) و(الشعر الحر) واستعمل الأول للدلالة على نصوصه, وهذا يذكرني بمطالبة بعض كتاب قصيدة النثر في التسعينات بضرورة العودة الى مصطلح (القصيدة الحرة), لأنه الترجمة الصحيحة الموازية لمواصفات قصيدة النثر.. كذلك تم إنجاز (النثر الشعري) في كتابات جبران, بما يشبه- قصيدة الكتلة المدورة تدويرا كاملا, لكن المسألة لا تتعلق بصراع أسماء ومصطلحات, لقد انتبه جبرا ابراهيم جبرا, أحد رواد قصيدة النثر إلى مصطلح القصيدة الحرة منذ الخمسينات, يقول جبرا (وقد سميت هذا الشعر منذ البداية - شعرا حرا, وفق مفهومي للشعر الحر وهو مفهوم اختلفت فيه مع العديدين. وعرف عني رفضي لنزوع الكثيرين من دارسي الشعر على تسمية هذه القصيدة بقصيدة نثر) (7) طبعا انطلاقا من المرجعية الانجليزية, يصر جبرا على التسمية (الشعر الحر) ويبدو أن صراع التسميات هذا قد جاء نتيجة لمسألتين:

أولا: تنافس مثقفي المرجعيتين الفرنسية والانجليزية على استعراض درجة معرفة المواصفات في الأصول الأوروبية.

ثانيا: تنافس كتاب قصيدة النثر مع شعراء حركة التفعيلة.

فلنعد الى المرجعية الأوروبية الانجليزية لتحديد بعض المصطلحات:

أولا: الوزن : rhyme للوزن وظيفتان أولاهما: تردد صدى الأصوات. وبذلك تكون الأصوات مصدرا للنشوة الجمالية, هناك متعة في الصوت بحد ذاته وفي توارد الأصوات مع بعضها البعض, وتقترن هذه المتعة الصوتية بالحس الموسيقي والايقاعي والنغمي, وهو الحس النابض الشائع لدى البشر, ويأتلف قسم من هذه المتعة, غالبا, من الدهشة التي يثيرها الوزن غير المتوقع والمتقن, وينطبق هذا بشكل خاص على الشعر الهزلي الساخر. حيث تخلق الأوزان غير المتناغمة, مساهمة بولادة الهزل. وثانيهما: يساعد الوزن في البنية الأساسية للشعر, فهو يساهم في توازن النص وفي انطلاقه بشكل تلقائي ومنحه الشعور بالخاتمة. وهو بذلك أداة ايقاعية لتكثيف المعنى وترابط الصياغة الشعرية. (Cool

ثانيا: الايقاع rhythm في الشعر والنثر, يكون الايقاع عبارة عن الحركة أو الاحساس بالحركة من خلال ترتيب المقاطع المنبورة والمسكنة ومدى هذه المقاطع. وفي الشعر يعتمد الايقاع على النموذج الشعري المقفى, كما يكون الايقاع في الشعر منتظما, أما في النثر فقد يكون منتظما أو لا يكون.(9)

ثالثا: النثر بالشعر: Prose Poem قطعة كتاب بطريقة نثرية, لكنها متميزة بعناصر تتوافر في الشعر مثل: الايقاعات المنتظمة بشكل واضح, الأساليب البلاغية, الوزن الداخلي, السجع, تناغم الأصوات, والصور المجنحة, ويبدو أن برتراند (1807- 1914) كان من أوائل الكتاب الذين أسسوا لقصيدة النثر, كجنس أدبي ثانوي في مجموعته (Gaspard de La Nuit جسبار الليل( عام 1842م, التي كانت عبارة عن حشد من الخيالات على طريقة رامبرانت وكالو, فقد كتبت بلغة زخرفية وايقاعية, كما تضمنت صورا مدهشة كثيرا, بعضها بالغ الغرائبية, وفيما بعد تأثر بودلير بهذا العمل كما يتضح في مجموعته (قصائد نثرية قصيرة, 1969), وعلى الأرجح أن كتاب برتران هذا قد ترك تأثيرا واسعا على الشعراء الرمزيين, والسورياليين, ومن الكتاب الذين كتبوا قصيدة النثر, رامبو, أوسكار وايلد, آمي لويل, ت.س اليوت, بيتر ردجروف وديفيد ويفل.(10)

رابعا: الإيقاع النثري: هو الذي يسميه درايدن (التناغم أو الانسجام مع الآخر في النثر, ويتميز بايقاعاته التي تتباين من كاتب الى آخر وفق طبيعة الكاتب وأسلوبه وموضوعه.

خامسا: الشعر الحر : Free Verse في مرجع آخر يقول: إنه نوع من الشعر المتحرر من النمط الثابت في الوزن والقافية. وبدلا من الوزن والقافية, يعتمد هذا الشعر على أساليب شعرية أخرى لتحقيق الوحدة والترابط. ويستعمل الصور الشعرية والبلاغية والقوافي المتناثرة. بتنظيم خاص في الفقرات لربط الأفكار ومن الممكن تحقيق تأثيرات ايقاعية متنوعة من خلال استعمال مفردات معينة, واشباه جمل مع ضبط طول السطر.. وبدلا من القافية, فان أساليب أخرى يمكن أن تسهم في صوت الشاعر الخاص, ومن هذه الأساليب: تكرار الحرف الساكن في بدايات الكلمات في نفس السطر, وتكرار الكلمات: نفسها وتكرار القصيدة بالإيقاع وأساليب شعرية أخرى.(11)

سادسا: الشعر المرسل : Blank Verse غير مقفى, يكون على وزن الايامب, حيث يتكون سطر الإيامب من عشرة مقاطع مع النبرات على المقاطع (الثاني والرابع والسادس والثامن والعاشر), كما عند شكسبير ومالرو, مع الأخذ بعين الاعتبار لعلامات الترقيم وتراكيب الجمل. وقد يبتعد سطر من هذا الشهر من وزن الايامب المنتظم. وهذه النقلة في الوزن تعتبر تنوعا, تسمح للشاعر بتحقيق أهداف درامية معينة.(12)

نستنتج من هذه التعريفات الانجليزية ما يلي:

أولا: الوزن بحد ذاته ليس مشكلة فوظيفة الوزن صوتية أي لاثارة المتعة من خلال حاسة الأذن, لكن المشكلة في تقليد هذه الأصوات حتى تصبح مكرورة, والتكرار بحد ذاته ليس مشكلة, لأن التكرار الصوتي المبتكر يخلق إشباعا للمتعة, لكن المشكلة هي في تكرار التكرار بحيث يصبح إيقاعا تقليديا.

ثانيا: الإيقاع في الشعر منتظم, أما الإيقاع النثري فهو غير منتظم وقد يكون منتظما, وننتبه لملاحظة درايدن (يتميز الايقاع النثري بايقاعات تتباين من كاتب إلى آخر وفق طبيعة الكاتب وأسلوبه وموضوعه), وهنا تبرز تعددية الأشكال.

ثالثا: لا أعتقد أن الجدل الشكلي حول مواصفات (الشعر المرسل- الشعر الحر- قصيدة النثر) مفيد, لأن المرجعية هنا أوروبية متعلقة بتقاليد النثر والشعر في أوروبا وهي تقاليد مختلفة.

رابعا: قصيدة النثر في التعريف الانجليزي والفرنسي هي (قطعة كتابية بطريقة نثرية لكنها متميزة بعناصر تتوافر في الشعر). وهذا التعريف الأوروبي يشبه الى حد بعيد مواصفات قصيدة النثر العربية, يقول شاكر لعيبي (كاتب قصيدة نثر عراقي): (علينا القبول بمصطلح قصيدة النثر طالما لا يوجد له شبيه في إرثنا الشعري وطالما تصير الحداثة مفهوما كونيا لا نخجل من استعارته من أوروبا وأمريكا).(13)

لكن الاشكالية تكمن في النقل الحرفي أحيانا لمنظور أوروبي إلى حداثة بدوية لا ترى من الحداثة الأوروبية سوى شكلها, المشكلة تقع في عقلية حرق المراحل على الأمام لدى كاتب قصيدة نثر شاب لا يعرف أية كلمة أجنبية ينطلق من غبار قريته أو مخيمه الى مجاهل الهروب الوجودي, حيث الحداثوية تعني (اصطناع الحداثة) أي مجرد صورة أو شكل خارجي, رغم انه يعيش مرحلة (ما قبل- قبل الحداثة), هذا التمظهر جعل بعض كتاب قصيدة النثر الناشئين يتوهم أن مجرد الدخول في نادي (خدم قداسة الشكل)!!, يمنحه عضوية نقابة قصيدة النثر. وقد سبق لي ان قلت ما قاله لعيبي حول قبول قصيدة النثر بصفتها شكلا أوروبيا, لكن هل صحيح ما يقوله حول مسألة (لا يوجد لقصيدة النثر أي شبيه في التراث العربي?), بعض كتاب قصيدة النثر يقولون كرد فعل على اتهامهم بالقطيعة مع الموروث بأن الشبيه موجود وأنه ينبغي اعادة قراءة هذا الموروث الشبيه بقصيدة النثر. والطريف أن التيارين (مقولة الانقطاع والتواصل) يتصارعان بنفس المستوى تماما كما هو التناقض في اسم (قصيدة النثر).. سأحاول اختيار مجموعة من النصوص التي تقترب من فكرة قصيدة النثر في التراث, فالشبه قائم ومتحقق بالفعل, باستثناء غياب القصدية في التسمية بل, تأثر بعض رواد قصيدة النثر بفكرة التشابه. (رغم أن ياكوبسون لا يشترط القصدية), مثلا أدونيس هو الذي أبرز النفري, وبعض كتاب قصيدة النثر في التسعينات عاد الى جلجامش والنصوص المصرية الفرعونية وأنسي الحاج عام 7691 يصوغ نشيد الأناشيد التوراتي ويسمي مقاطعه (القصيدة الأولى- القصيدة الثانية... الخ), لأنها (تشبه) قصيدة النثر. ونحن نقرأ النصوص انطلاقا من (المتحقق النصي) وليس انطلاقا من القصدية, أي النية والإعلان:

1- سطيح الكاهن: (14)

رأيت حممة,

خرجت من ظلمة,

فوقعت بأرض تهمة,

فأكلت منها كل ذات جمجمة

- أحلف بما بين الحرتين من حنش

- لتهبطن أرضكم الحبش

- فليملكن ما بين أبين الى جرش.

2 - قس بن ساعدة الإيادي: (15)

أيها الناس

اسمعوا وعوا

انظروا واذكروا

من عاش مات, ومن مات فات, وكل ما هو آت آت.

ليل داج, ونهار ساج وسماء ذات أبراج

ألا إن أبلغ العظات, السير في الفلوات, والنظر إلى محل الأموات

إن في السماء لخبرا, وإن في الأرض لعبرا

مالي أرى الناس يذهبون, فلا يرجعون?

أرضوا بالمقام فأقاموا? أم تركوا فناموا?

3 - أبويزيد البسطامي: (16)

للخلق أحوال

لا حال للعارف

لانه, محيت رسومه

فنيت هويته بهوية غيره

غيبت آثاره بآثار غيره.

4 - جلال الدين الرومي: (17)

يظهر الجمال الخاطف كل لحظة في صورة

فيحمل القلب ويختفي

في كل نفس يظهر ذلك الصديق في ثوب جديد

فشيخا تراه تارة وشابا تارة أخرى

ذلك الروح الغواص على المعاني

قد غاص إلى قلب الطينة الصلصالية.

5 - النفري: (18)

5. 1 - أوقفني في التيه وقال لي:

أقعد في ثقب الإبرة, لا تبرح

فإذا دخل الخيط في الإبرة

لا تمسكه

وإذا خرج, لا تمده وافرح

فإني أحب الفرحان.

5. 2 - يا عبد, الحرف ناري, الحرف قدري

الحرف خزانة سري

لو دخلت بقوة النار, يأكلكما نور الحرف

يا عبد , أنت لي وأنا أولى بك.

6 - الكاهن الكنعاني إيلي ملكو: (19)

زال من الوجود منزلي

سوف يكون قرب محبوبتي الأرض الجميلة

هكذا قال الشيطان الذي يجلب العمى

الذي يحمل الموت

مقامي سوف يكون قرب بعل

سقط ارضا, وسيموت السيد الأعظم

منزل سيد الأرض سيتعرض للنهب

هل يظهر له إله الجدود للتنبؤ

نزل عن العرش حيث كان يجلس إلى المنضدة

على الأرض يفرغ مكيالا من الحبوب

وعلى رأسه يذر الرماد حدادا

الفلسطيني أمسك به ورماه

سوف أدمر بقبضة من حجر

أوثانهم في الغابات

القصب مقيد, نموه توقف

لأن الظلام خيم على البستان

أيها السيد, مارست السلطة على الأرض

ومع ذلك خدعتك عناة وتألب عليك الأعداء

إكراما للحقول, تكريما للأرض

سوف تستريح قرب محبوبتك الأرض.

7 - كتاب الموتى الفرعوني المصري: (20)

عسى أن أنهض, أنا في العش مثل صقر من ذهب

يخرج من بيضته, عسى أن أطير وأحوم

كالصقر له سبع أذرع وأجنحة من زمرد الجنوب

عسى أن يحضر لي قلبي من جبل الشرق

عسى أن أحط على زورق

أن يأتوا إلي بجميع الذين في صحبته

يحنون رؤوسهم بينما يتقدمون للقائي

عسى أن أنهض واجمع شتات روحي

كما الصقر الذهبي الجميل برأس عنقاء

عسى أن أدخل الى حضرته كل يوم

لأسمع كلماته وأجلس بين آلهة عظيمة

عسى أن يكون مستقرا قد أعد لي

قرابين من طعام وشراب لتوضع أمامي

عسى أن أصبح منيرا ساطعا

عسى أن أشبع رغبات قلبي

عسى أن يمنح لي القمح السماوي

عسى أن أحرز بنفسي القوة على حارس رأسي

8 - جلجامش: (21)

غسل شعره المشعث الطويل عند رواحه

ولم يغب عن باله صقل سلاحه

وأرسل الشعر غدائر على منكبه الجليل

نضا ثيابه المعفرة

ثم ارتدى بردا مزركشا مهدبا وشده بزنار

تطلعت إليه بعينيها عشتار الربة الجليلة

لخيل مركباتك الصيت المعلى في السباق

خذني عروسا لك يا جلجامش

9 - نشيد الأناشيد: (22)

هو

ما أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير

دوائر فخذيك كحلي صاغتها يدا صناع

سرتك كأس مدورة مزاجها لا ينقص

بطنك صبرة حنطة يسيجها السوسن

ثدياك كخشفي ظبية توأمين

عنقك كبرج من العاج

عيناك كبركتي حشبون عند باب بنت

الجماعة

أنفك كبرج لبنان الناظر الى دمشق

رأسك عليك مثل الكرمل

وشعر رأسك كأرجوان ملك مربوط بخصل

ما أجملك أيتها الحبيبة

وما أشهاك في اللذات

قامتك مثل النخلة

وثدياك مثل العناقيد

قلت أصعد الى النخلة وأمسك بسعفها

فيكون لي ثدياك كعناقيد الكروم

وعرف أنفك كالتفاح

وحلقك كخمر طيبة.

يقول ميخائيل نعيمة في مقدمة الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران (بين 1903 و1908 أخذ جبران ينشر في جريدة المهاجر- مقالات من الشعر المنثور- تحت عنوان- دمعة وابتسامة- جمعت في كتاب عام 1914, فقد كان للتوراة في نصيها العربي والانجليزي أبعد الأثر على الأسلوب الذي اختاره جبران لنفسه فتفرد بين الكتاب العرب) (23)- يقول جبران: (هلمي يا محبوبتي نمش بين الطلول, فقد ذابت الثلوج, وهبت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات, سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد.. تعالي لنصعد الى أعالي الربى ونتأمل اخضرار السهول حولها. لنجلس قرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج ونتبادل قبلات المحبة).(34) يرى مارون عبود بأن (الشعر المنثور)- بناء بلا زوايا, فيه جمال مطلق له أعداء الداء حيث وجد, فعدوه لعبة يتلهى بها الذين لا يستطيعون كتابة الشعر وله أيضا أحباء أوفياء.(35) فنحن نلاحظ أن صفة (الشعر المنثور) أطلقت على كتاب (دمعة وابتسامة)- هذه الملاحظة تؤكد أن الميل كان قد اصبح واضحا باتجاه (شعرنة النثر), للخلاص من تقليدية اللغة. أما كلمة (مقالات) فتوحي بأن الشعر المنثور كان هدفه تثوير النثر, بما يوحي أيضا بالمقالة- الخاطرة الشعرية. كما نلاحظ أن نصوص جبران تمتلك الصورة الشعرية المكثفة واللغة الشعرية لكنها تلغي الوزن والقافية تماما مما يجعلها (شبيهة بقصيدة النثر) لاحقا, لأن الشعر المنثور في أحد اشكاله يستخدم السطور ليوزع بعض القوافي عليها, وهذا يعني أن هناك أشكالا عديدة للشعر المنثور (كأنه شعر تفعيلة مكسور الوزن). والسبب بتقديري يعود إلى أن أمين الريحاني كان يهدف لكتابة الشعر المنثور بمرجعيته الأمريكية كما لدى ويتمان. بينما كتب جبران- الشعر المنثور, انطلاقا من الخاطرة الشعرية, تحت تأثير ترجمة الأسفار التوراتية خصوصا: نشيد الأناشيد والمزامير, وقد لاحظنا أن رشيد الشعر باق قد أشار الى أن الأسفار التوراتية لم تكن موزونة فقد انطلق جبران من شاعرية الترجمة. ونفهم لماذا- لاحقا عام 1967 بالتحديد, قام أنسي الحاج باعادة صياغة نشيد الأناشيد وهو نفسه أي أنسي الحاج تأثر في نصوصه بهذه الأسفار. ثم أعاد طباعتها عام 2000م, وقد فسر الاهتمام بنشيد الأناشيد التوراتي تفسيرا سلبيا بعد عام 1967م وبعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000م, حيث اعتبر من (الاسرائيليات), بينما دافع ملحق جريدة النهار اللبنانية بأنه (تراث إنساني). والمسألة تعود إلى الربط في الكتاب المقدس بين التوراة والانجيل, مع أن كهنة المعبد اليهود هم الذين صلبوا المسيح وتآمروا عليه.

ويكتب جبرا ابراهيم جبرا مقالا عن مجموعة (ثلاثون قصيدة) لرائد قصيدة النثر توفيق صايغ الصادر عام 1954م يشير فيه الى ان مارون عبود قد قال (إنه لا يستطيع تسمية كتاب توفيق صايغ- شعرا!!) ويتابع جبرا قائلا (لكن السنوات القادمة, ستثبت أن هذا الديوان أجرأ وأعمق ما صدر في العربية من شعر. أما الجرأة فهي في اللغة والتجديد وسوق الألفاظ على غير ما يتوقع القارئ. أما العمق فهو في المعاني الكامنة وراء هذه الألفاظ) (26). ويرى المصري أحمد الشايب أن مسألة الوزن هي- على جمالها- تعد في الدرجة الثانية وهو يعتبر النثر الجميل- شعرا) (27) ويرى مختار الوكيل عام 1934 ان النثر الشعري كما في كتابات المنفلوطي والمازني- هو شعر, لأن الشعر هو كل كلام عاطفي خيالي يبحث جاهدا عن المثل الأعلى حتى لو لم يكن منظوما, أما النثر البحت فهو ما كان صفرا من كل ذلك- (28). أما حسين عفيف من مصر أيضا فقد عرف الشعر المنثور بأنه (يجري وفق قوالب عفوية يصبها ويستنفدها أولا بأول, لا يتوخى موسيقى الوزن ولكنه يستمد نغمته من ذات نفسه. لا يشرح ومع ذلك يوحي عبر ايجازه بمعان لم يقلها, ليس كشعر القصيد ولا كنثر المقال ولكنه أسلوب ثالث), وفي تعريف آخر له يقول (الشعر المنثور يتحرر من الأوزان الموضوعة ولكن لا, ليجنح الى الفوضى, وانما ليسير وفق أوزان مختلفة يضعها الشاعر عفو الساعة ومن نسجه وحده, أوزان تتلاحق في خاطره ولكن لا تط رد, غير أنها برغم تباين وحداتها, تتساوق في مجموعها وتؤلف من نفسها في النهاية هارمونيا واحدة, تلك التي تكون مسيطرة عليه أثناء الكتابة.(29)

ويلخص العراقي طراد الكبيسي الأشكال الكتابية التي سادت قبل ظهور (قصيدة النثر عام 1954) بما يلي: (30)

أولا: الشعر المرسل: هو شعر لا قافية له, يتكون من أبيات موزونة غير مقفاة واسمه في الانجليزية Blank verse كتب فيه شكسبير وملتون, أما في العربية فهناك ثلاثة أنواع منه:

1 - القصيدة ذات النمط التقليدي (الشطرين) ولكنه أحيانا بدون قافية موحدة كما كتبه الزهاوي. (وإسعاف النشاشيبي).

2 - القصيدة ذات النمط التقليدي أيضا ولكنها بقواف مزدوجة وقد كتب فيه توفيق البكري.

3 - النمط الثالث فهو أقرب الى نمط الشعر المرسل الأوروبي كما كتبه علي أحمد باكثير ومحمد فريد أبوحديد. وسماه لويس شيخو ونجيب الحداد (الشعر الأبيض).

ثانيا: الشعر الحر: عرفه إليوت (غياب الوزن, غياب القافية, غياب النموذج) ويمثله إليوت وازراباوند. أما الشعر الحر في العربية فله عدة أنماط كما عند أحمد زكي أبوشادي وخليل شيبوب ولويس عوض وكما لدى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة, أي ما يسمى (شعر التفعيلة) وأطلقت عليه أسماء منها: الشعر الحر- الشعر المنطلق- الشعر الحديث- الشعر الجديد.

ثالثا: الشعر المنثور: رائده أمين الريحاني وقد كتبه على طريقة ويتمان, وكتب فيه جبران ومي زيادة وخليل مطران والبير أديب وثريا ملحس وحسين مروان وغيرهم.

وفيما يلي بعض الملاحظات:

أولا: يرى كثيرون أن مصطلحات (الشعر المنثور) أو (النثر المشعرن) أو (قصيدة النثر) هي مسميات لاسم واحد تعني النص الذي يخلو من الوزن والقافية بشكل عام وهو يحتمل درجات من الشاعرية (الصورة واللغة) حسب النص المكتوب.

ثانيا: يرى كثيرون أن هذا النص- ليس شعرا وانما هو نثر فني (مارون عبود) ويرى بعضهم أنه اسلوب ثالث (حسين عفيف) ويرى آخرون انه- شعر يخرج على المعنى الكلاسيكي للشعر (جبرا والشايب والوكيل). ولعل أوضح التعريفات للشعر المنثور هو تعريف حسين عفيف, ولو حذفنا ما قاله عن الايقاع وأخذنا بالباقي لتشابه تعريفه مع قصيدة النثر. وهذا يؤكد كلامنا السابق بأن الشعر المنثور بمرجعيته الغربية او الشرقية هو تمهيد طبيعي ومرحلة اولى من مراحل قصيدة النثر, كان الهدف منها هو الخروج على مفهوم الوزن والقافية, اما المنظور الرؤيوي فهو يعتمد على الكاتب نفسه وعلى كتابته لأنه يختلف من كاتب لكاتب ومن زمن الى زمن آخر اما تعددية الاسماء والأشكال فهي تعريفات تخدم النظام الكلي لنمط توسع في القرن العشرين وله (شبيه) سابق في الموروث.

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
عودة السنونو


أنا لست هنا


رائعتان من روائع البرق نزفت حبرا وشوقا وإبداعا

 هي بين أيديكم  أمانة أدبية تنتظر تحليلكم  الرؤيؤي لها من خلال ما تم استعراضه من أفكار في المحاضرات السابقة

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
إتّسَمتْ القصيدتان با الروعة والوصف الكثيف ففي القصيده الأولي ينبعُ نهرُ الحنين في خيال الشاعر فببحثَ عن حبيبته في أعماق البحر وفي كل مكان في كل شيء جميل شاخصا في الغابات المرجانيه ويهمس الفراق له أنها بعيده بعيدةٌ جدأ ويبدع الشاعرْ حدّ التخضرمْ بوصفه للبعدْ بــ القرْبِ من الأفق الوردي ليناغمَ بين ضدّين(البعدْ)و(القرب)دون أن يقطع خيطَ المعنَى ليكِّفَ السردْ وهذه إحدي خصائل القصيدة النثريه.. وبعد توهانه في فيافي الحنين يرفرف طائرُ مفاتنِ الحبيبه في صالة وجدانه مزقزقًا بخصالها والتي تبدأ بكونها هبه من السماء وفوهه بندقية إلهامه ومن فرطِ تكاثرِ عقيق مامنحته يرنوالشاعر إلي البوحْ بوحشته في غيابها وكيف تقرعُ الرّيح زجاجَ نوافذه ربّما كــ عتاب الحبيب منه لا أعلم عموما تمادي في سرد مآسيه حدّ أنه تساقطتْ أوراقه .. رائعة ليس لها مثيل جاب فيها البطل ساحاتِ الإبداع فكثّف الوصفْ وناغم بين الأدضاد وروّضَ الكلمات وألجمها إلجاما ....

أمّا
القصيده الثّانيه فــ الشّاعرُ هنا صوّرَ المأْساة بأروع الصُّورْ من (الفقر) إلي (اللا حلم) إلي عدم وقع الخطي في حلمه وتختلف عن القصيدة السالفه بــ وقعها الموسيقي الكثيف حدّ إقترابها من الوزنْ وبـ تكرار الكلمات دون أن تأثرَ علي الإختصار والتكثيف فيها وأغري جموحُ خيال الشاعر نَايَ تسَائله فعزَفَ بشتّي الأسئله تاركةً لخيال القاريء العنان موقظًا قِوَى فضائاتِ تَطَلُّعِهْ وهنا يوصل الشاعر رسالته وينسج جبّةَ إبداعه من خيوطِ الفقرِ والقمامه والذُباب ومخْترقًا لِجِدارَ المنْطقَ ليرسو بـِ سفينته في ميناء الجديد المتطلعْ ..في اللّا مسْتَحيلْ الذي يمرِّرُ عبْرَ أنابيب الخيال الواقع المرير لا يمكنني الحصر لما قال كل مايمكنني قوله هوأنه أذهلني ....!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
إختلاف القصيدتين يصبُ في مجري توسُّع القصيده النثريه من التّكثيف والإختصار في الأولي إلي الموسيقي والتكرار المختصر في الثانيه مع أنهما مفعمتان بجموح الخيال وباالتملرد اللا محدود ..

دمتي بخير أستاذتي الفاضله وأرجو أن أكون قد وفقتْ

إ

descriptionالدورة التخصصية  الأولى لقصيدة النثر  - صفحة 2 Emptyرد: الدورة التخصصية الأولى لقصيدة النثر

more_horiz
المختار الطاهر كتب:
إتّسَمتْ القصيدتان با الروعة والوصف الكثيف ففي القصيده الأولي ينبعُ نهرُ الحنين في خيال الشاعر فببحثَ عن حبيبته في أعماق البحر وفي كل مكان في كل شيء جميل شاخصا في الغابات المرجانيه ويهمس الفراق له أنها بعيده بعيدةٌ جدأ ويبدع الشاعرْ حدّ التخضرمْ بوصفه للبعدْ بــ القرْبِ من الأفق الوردي ليناغمَ بين ضدّين(البعدْ)و(القرب)دون أن يقطع خيطَ المعنَى ليكِّفَ السردْ وهذه إحدي خصائل القصيدة النثريه.. وبعد توهانه في فيافي الحنين يرفرف طائرُ مفاتنِ الحبيبه في صالة وجدانه مزقزقًا بخصالها والتي تبدأ بكونها هبه من السماء وفوهه بندقية إلهامه ومن فرطِ تكاثرِ عقيق مامنحته يرنوالشاعر إلي البوحْ بوحشته في غيابها وكيف تقرعُ الرّيح زجاجَ نوافذه ربّما كــ عتاب الحبيب منه لا أعلم عموما تمادي في سرد مآسيه حدّ أنه تساقطتْ أوراقه .. رائعة ليس لها مثيل جاب فيها البطل ساحاتِ الإبداع فكثّف الوصفْ وناغم بين الأدضاد وروّضَ الكلمات وألجمها إلجاما ....

أمّا
القصيده الثّانيه فــ الشّاعرُ هنا صوّرَ المأْساة بأروع الصُّورْ من (الفقر) إلي (اللا حلم) إلي عدم وقع الخطي في حلمه وتختلف عن القصيدة السالفه بــ وقعها الموسيقي الكثيف حدّ إقترابها من الوزنْ وبـ تكرار الكلمات دون أن تأثرَ علي الإختصار والتكثيف فيها وأغري جموحُ خيال الشاعر نَايَ تسَائله فعزَفَ بشتّي الأسئله تاركةً لخيال القاريء العنان موقظًا قِوَى فضائاتِ تَطَلُّعِهْ وهنا يوصل الشاعر رسالته وينسج جبّةَ إبداعه من خيوطِ الفقرِ والقمامه والذُباب ومخْترقًا لِجِدارَ المنْطقَ ليرسو بـِ سفينته في ميناء الجديد المتطلعْ ..في اللّا مسْتَحيلْ الذي يمرِّرُ عبْرَ أنابيب الخيال الواقع المرير لا يمكنني الحصر لما قال كل مايمكنني قوله هوأنه أذهلني ....!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
إختلاف القصيدتين يصبُ في مجري توسُّع القصيده النثريه من التّكثيف والإختصار في الأولي إلي الموسيقي والتكرار المختصر في الثانيه مع أنهما مفعمتان بجموح الخيال وباالتملرد اللا محدود ..

دمتي بخير أستاذتي الفاضله وأرجو أن أكون قد وفقتْ


البرق اللامع المختار الطاهر
رؤية  أدبية  مفعمة بالجمال والتأني وفيها الكثير مما حملته القصيدتان من إبداع

تحيتي لك وألف امتنان لما قدمته من تفاعل وإجابة






privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى