لم يزل بندول الساعة في سجنه الابدي، داخل صندوق الساعة القديمة المتهالكة، التي يكاد نبض دقاتها بالكاد يصل إلى مسامعه التي هرمت، جميع الأشياء المحيطة به في صومعته تبدو هي الأخرى قد تجاوزت عمرها الافتراضي، لكنه ما زال يحتفظ بها، لأنها تذكره بالسبعين سنة التي عاش نصفها وهو مدفوع لحروب ليس له يد في اشعالها، وقبع سنين بين أربعة جدران داخل زنزانة، وخاض تجارب حبّ جميلة تارة، وأخرى عاصفة وقاسية دفع نفسه داخل اتونها المحرقة عنوة، اختلس نظرة خاطفة نحو بندول الساعة الحائطية الذي بلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحاول العودة ثانية إلى الجهة التي انطلق منها، احتوى المكان من حوله ليستقر نظره على الساعة المنضدية التي ما زال عمرها يافعا، فقد أهداها له صديقه (مهدي القصاب) لتذكره بالزمن الحقيقي، ولكي يشعر ايضا بأن في صومعته شيء من الحداثة، اخذ شهيقا عميقا، نفثه في الهواء حارا كالجمر، شعر بعطش شديد، نهض من سريره الحديدي الذي اصدر ازيزا موحشا كأنه آتٍ من مجاهل سحيقة، فتح الثلاجة الهرمة، سحب (سراحية) الماء، احس فجأة بحرارة لامست يده وتوزعت بسرعة هائلة على أنحاء جسده، رفعها إلى فمه، ليشرب، ألقى الماء من فيه على الأرض، وتمتم غاضبا:
-اللعنة.. كأنه خرج للتو من نار جهنم.
أعاد الماء للثلاجة التي يعرف جيدا بأنها عاطلة، ولكنه يداجي معرفته، احس بجوع مرَّ ثقيلا على معدته الفارغة منذ يومين:
-لا بأس.. لم يبقَ على راتب الرعاية الاجتماعية وراتب التقاعد إلا ايام.
راحت افكاره المتسارعة تمرق بسرعة فائقة على ذهنه المشوش، إنهى ذلك الحوار مع دواخله:
-طبعا لا يمكن الانتظار، وتحمل الجوع إلى موعد الراتب.
سار بعض خطوات نحو باب صومعته القائضة كقبر، احتذى نعله البلاستيكي المُهترِئ، فتح الباب الداخلي، سار بعض خطوات في الزقاق المؤدي الى الفرن، تذكر إنه لا يملك شيئا ليشتري الخبز:
-سأقول لجاسم الخباز.. سجل المبلغ على حساب راتب الرعاية.
قبل ان يصل الى الفرن، رأى (تسواهن) بائعة الخضرة، تقدم نحوها بعض خطوات خجلة:
-اعطني خضرة.. وسجلي المبلغ على موعد راتبي التقاعدي.
ضحكت (تسواهن) ضحكة مجلّلة، راح صداها تتردّده جدران الزقاق، قال لها بهمس:
-صوت المرأة عورة يا امرأة!.
ابتسمت ابتسامة ماكرة، لفّت له عدة باقات من الخضرة، ورأس من البصل، وثلاث حبات من الطماطم، وضعتها في كيس وأعطته اياه، ابتسم بوجهها ابتسامة وديعة، وغادر المكان، قبل أن يصل إلى الفرن، سمع صوتا ليس غريبا:
-استاذ نادر.. من رخصتك؟
اتجه نحو محل (مهدي القصاب) الذي نادى عليه:
-ها مهدي.. شوراك.
-هايه عظام غنم، وياهن شوية لحم، سوي عليهن تشريب.
تناول الكيس من يد (مهدي القصاب) وهو يودعه بذات الابتسامة الوديعة، اقترب من الفرن نادى على (جاسم الخباز) صاحب الفرن، بصوت اجش، وبثقة عالية:
-جاسم الخباز، انطيني بألف صمون، وسجلها على راتب الرعاية أو التقاعد.
أطلق (جاسم الخباز) ضحكة مدوية ملأت أرجاء الفرن، ثم أردف قائلا بعد أن هدأت موجة سعاله:
-صار استاذ نادر.. تدلل.
جمع الصمون والعظام والخضرة في كيس واحد، وراح يتمختر بمشيته مزهوا، فرك صدغه متذكرا:
-بعد ربع قالب ثلج، واتصير السالفة مال اوادم.
أخرج من جيب دشداشته الرثة، عقب سيجارة كان قد دخن نصفها في الصباح، ودس نصفها الاخر في جيبه، اشعل القطف، وراح ينفث دخانه في الفضاء، فجأة سمع صوت (ستوتة) تتقدم نحو جسده الهزيل بسرعة فائقة، رفعته من الأرض إلى السماء، وألقت به ثانية إلى الارض، حتى شعر بإنه تخلص من ادميته المقيتة وأصبح طيرا، اجتمع المارة حوله، وهو ينظر اليهم نظرات مريبة، وكأنه في عوالم اخرى، شعر بأنه خفيف كريشة، وان اعضاء جسده مفصولة عن بعضها، وقد اعتراه نحول مهول، وصداع شديد، لاحت له نظرة لصديقه (مهدي القصاب) الجالس بجانبه، والذي كان رفيقه في نفس الزنزانة، مسك بيده بقوة، شعر برعشة برد كأنه في تشرين، حدق بوجه مهدي مليا، ثم ايقن أخيرا بأنه لا يملك لا راتبا تقاعديا ولا راتبا من الرعاية الاجتماعية، ولم يتقاضى في حياته أي راتب من الحكومات المتعاقبة، لأنه كان يعيش وحيدا مع اشياءه القديمة داخل غربة ذاته المريعة، عاد وامسك بيد (مهدي القصاب) بكلتا يديه، ثم اغمض عينيه، وغرق بنوم هادئ.