سلسلة قراءات نقدية نبعية ( 1 )
عوض بديوي
كنت قد طبقت في إطروحتي على الشعر ، ووجدت أن من المناسب التطبيق على المسرح ؛ أهم الفنون ...
الموضوع :[b]الإيقاع الداخلي في مسرحية أوديب ملكا
ملخص البحث:
ما لفت نظري في المسرحية ، الاتكاء على الأسطورة ، وصياغتها بفن سردي موزون / شعرا ،من خلال الاشتغال الذهني على مسرحية أوديب ؛ اخترت رؤيا معاصرة : تطبيق على النظرية في الجانب المسرحي – " الحركة الخفية في حركة الإيقاع الداخلي في جانبه غير السمعي وزاوية رؤيا
الأسطورة وفلسفتها وتأثيرها في الدراما:
مما لا شك فيه أن : الأسطورة قادرة على تفسير العالم,والكون، كبديل فلسفي لكل الحضارات لان "العالم الروحي للديانة بأكمله في الطقوس,والأساطير,وأشكال التجسيد الإلهى"[1]فامتلأت ساحات المدن,ومعابدها بالطقوس البدائية,والنصوص الأسطورية,والدينية فكانت السبب الذي أدى إلى تطور المسرح في الحياة الاجتماعية الإغريقية,وأصبحت التراجيديا اليونانية، التي كانت تقام في الاحتفالات القومية للإغريق، أحد التعابير المتميزة للديمقراطية الآثينية، لأنها اعتنت بتطورها.
ثم أن المسرح خرج من عباءة الطقوس الدينية؛ إذ لم يكن وليد للحظة فكرية, بل تطور مخاضةعبر صيرورة الأساطير, وكانتمجموعة من الطقوس الاحتفالية,كالرقص، والغناء، والمرح، والتعبد، وهي المكونة لعناصر "ما قبل مسرحية,من خلال ما توظفه من ملابس, وشخصيات إنسانية,وحيوانات وأدوات، وكذا من خلال ما تقوم عليه من ترميز لفضاء مقدس,أو زمن كوني أسطوري"[2].
وبهذا فإن تلك الاحتفالات,تشكل بذلك فضاءً دينياً,يمكن الاستدلال عليه من خلال المحتفلين,وأفعالهم,وتصرفاتهم,وعلاقاتهم في إطار الحدث الديني، وبذلك كان الإنسان مطبوعاً بطابع الروحانية، وفي نفس الوقت اتخذت شكل فرجة مسرحية,"كفرجة شاملة يشارك فيها الفرد عن طواعية بجسمه,وروحه دون أن ينسى أنه يشاهد واقعاًممثلاًينعكس عبر الصور,والرموز"[3] فكل هذه المقومات تضافرت,لتشكل كيانًا,يمثل عقيدة الإنسان الإغريقي, ومنحته وعياً متجاوزاً,يجد في المسرح إنجازاًمهما.
والمناسبات امتلأت بكثير من الخطوب,وبكثير من الأحداث السارة، وكان ذبول الأوراق في الخريف,والشتاء رمز لموته,فتكثر الأحزان، كما كانت عودة الأزهار وتفتح البراعم,ثم الحصاد في الربيع,رمز لبعث الإله من جديد,فتقام الاحتفالات, والمهرجانات الأناشيد الديثورامبية,التي نشأت منها التراجيديا.
كيف بدأت المأساة :
وبدأت بذور المأساة تتكون في المدن اليونانية سيكورون,وكورينثة؛إلا أنها استقرت أخيراً في أتيكا,حيث اكتملت عناصرها الفنية، واتخذت صورتها النهائية.
فهنا تحول القاص إلى ممثل بالمعنى الصحيح، وأصبح رئيس الجوقة، يقوم بالدور الرئيسي فيمثل شخصية الإله، كما يقوم بسائر الأدوار بأن يدخل خيمة,ويغير من ملامحه,وملابسه.وكان كل مرة يخاطب أفراد الجوقة في موضوع مختلف، وبذا امتلأت المأساة حياة, وحركة بفضل تنوع مهمته.
المرحلة المهمة التي مرت بها المأساة ، حينما تتناول موضوعاً مفصلاً متعدد الحوادث، بعد أن كانت مجرد مجموعة من الأناشيد,تنشد تكريما للإله, فاتخذت من الأساطير القديمة موضوعها، بعد أن كانت مقصورة على الإنشاد, وصارت المأساة تعالج الموضوعات التاريخية,إلى جانب الأساطير القديمة, واهتمتبكافة المشاكل الإنسانية.
و من هنا استلهم شعراء المأساة الثلاثة,إسخيلوس,وسوفوكليس, ويوربيدس موضوعات مسرحياتهم,من الأساطير اليونانية القديمة,الزاخرة بقصص ذات مخزي عن آثام بنى البشر، وعن اللعنه المتوارثة التي "اعتقد الإغريق أنها تحل بأفراد ينتمون إلى أسرة شهيرة في الماضي الغابر بسبب الأوزار التي اقترفها أحد أسلافهم, ومن أشهر هذه الأساطير,أسطورة آل أتريوس التي إستلهم منها إسخيلوس ثلاثيته المعروفه,باسم الأورستيا,كما إستلهمها سوفكليس,في عدة من مسرحيات منها أوديب ملكا"[4].
ولعل طقوس المؤلفين إلى عالم الأساطير التخيلي,هو اتجاةما يبررة , فالأساطيرعالم رحب من الأحداث الإنسانية,التي تتسم بصفة العمومية, والتي يستطيع الكاتب من خلالها التحرك بحرية, واستخدام أدواتهالفنية من رموز, وإسقاطات على عالمة المعاصر؛الذي هو بطبيعتة بالغ الخصوصية, ومحدود المجال,وفضلاً عن ذلك فإن الأسطورة هي وليدة الخيال المؤسس على التصور العقلي, وهى بمثابة الابنة الشرعية لحلم الإنسانية,كما إنها "تجسد رغبة الإنسان,في الوصول إلى عالم يخلو من الخلل, ومن المصادمات,التي يزخر بها الواقع في كل لحظة"[5].
وحيث أن الأساطير كانت "عالماً غنياً زاخراً بشخوصه,ومواقفه,ومعيناً لا ينضب من المادة الخام,التي يتطلبها لبناء موضوعه"[6]، يرى الباحث أن الجو الأسطورى فى المسرح الأغريقى بدأمن النصوص الدرامية الأولى,التي أفرزت، والتى اعتمدت في مجملها على لغة الشعر المرسل، أقرب إلى اللغة المقدسة الهوميرية، فكانوا ينطقونلغة شعرية نظمية سامية وأحياناً ينطقون شعراً غنائياً,أقرب إلى موقف المتصوفة، ووضعواقناعاً,يخفي ملامح الوجوه, ويمنح طابع القداسة، وارتدواالأزياء الأنيقة،وحشوا بطونهم,وصدرهم,بالأقمشة,ليبدوا من بعيد عمالقهً,ليتناسب ذلك مع الشخصيات التي يؤدوها، إذ لا يجوز أن يكون الإله,أو الملك قزماً ضعيفاً، وانتعلواحذاءً طويلاً عالياً، واتخذواالديكور معبداً, أو قصراً, أو واجهة من كليهما، وظل الطقسالديني مسيطراً على العرض, أو على الأقل على الدنيوي، ولم يستطع الخروج من سيطرة المعبد نهائيا,إلا مع تضاؤل دور الجوقة في نصوص يوربيدس, حتى أصبح التمثيل أكثر إنسانية, وأكثر واقعية, وأكثر تقرباً من الحياة، فقد بدأت العقلانية تتسرب إلى المتفرج رغم رواسب الروحانيات فيه، لكن فيما بعد تغير كل شيء فأصبح المتفرج حسياً, ومتطفلاً أيضاً.
ويربط أرسطوبين "نشأة التراجيديا, والاحتفالات الدينية، للموازنة بين صورة المأساة,ومضمونها الروحي,وبين الشعائر الدينية فكانت فكرة محاكاة الفعلالتي جاء بها في كتابه فن الشعر"[7].
وفى الوقت الذي كان يقدم فيه زعماء المسرح نتاجهم، تغير خلالها تفكير الجماعة ومطامحها, وآمالها, وازدادوا أدركا للوجود من حولهم.
وبحكم التحول الاجتماعي الاقتصادي الذي عرفته أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، كدولة ذات مقومات, وتقاليد حضارية.
وبالرغم من ذلك بقيت الطقوسية طاغية على الحياة الاجتماعية,فكان للكاهن الرئيسي الدور الآمر, والناهي فهو يتزعم موكب الاستغفار, وممارسة التعاويذ العلنية لطرد الأرواح الشريرة,والأشباح وكان يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع اليوناني,فهو الفيلسوف, والمصلح الاجتماعي, والعالم, والطبيب, وقد امتدت صلاحياته إلى عقد القران,بين الأزواج في موكب طقوسي,يكسوه المرح,والفرح لما له من دلالة,رمزية للإخصاب,والحياة، كما أن وظيفته هذه المتعددة,تخول له أيضا الإشراف على المواكب الجنائزية,وهو الحاكم الحريص على التدين, والإيمان للقيام بالواجب الطقوسي, وكل ما جاء بالأساطير, والقصص الشبه خرافية على لسانه كخطاب ديني توجيهي معززاً للقيم الأخلاقية, والعلاقات الاجتماعية.
ومن ثم "نشأ المفهوم الدرامي عبر المحاكاة للمواضيع ذات الصيغة الخرافية الشبه دينية، وكان "مؤلفو التراجيديا يستمدون موضوعات مسرحياتهم في معظم الأحيان من الأساطير,التي كانت تراثاً معروفاً لمواطنيهم, ولأن المسرح الإغريقيارتبط منذ نشأتهبالدين, أو العقيدة,كان لزاماً أن ترتبط موضوعات التراجيديا بالعقيدة الإغريقية ممثلة في التراث الأسطوري, ذلك أن الأساطير,كانت لدى الإغريق,بمثابة الكتاب المقدس بالنسبة للأديان السماوية"[8]،فكانت الأساطير موضع إلهام للكثير من الشعراء الذين انتقلوا بها من ميدان الاحتفال الطقوسي على شرف الإله ديونسيس,إلى ساحة العرض المسرحي,فبلغ الفن الدرامي,وقتئذ,قمة لا مثيل لها قدموا فيها الأساطير, وما يتناسب مع حسهم الدرامي.
لقد كانت الأساطير,ولازالت,مصدر إلهام للأدباء والشعراء,والمسرحيين والفنانين,ومعيناً لاينضب,وإن "كان المسرح الإغريقيالقديم قد وصل إلى قمة شامخة,فلا ينبغي عليننا أن ننسى أن قدراً كبيراً من هذا الفكر الدرامي,كان كامناً في تلك الأساطير,حتى نسج منها كتاب المسرح أعمالهم المسرحية الخالدةٍٍ"[9].
تقنيات التناص مع الأسطورة في المسرح:
استمدت الحداثة المسرحية أشكالها, وتصوراتها من التراث كهوية ممكنة للثورة ضد الثبات, والجمود، من أجل توليد أشكال, ونماذج مغايرة في إيجاد هوية خاصة بها، بعيداً عن منجز الآخر، فالتفت المسرحيون العرب إلى التراث,بخاصة في السبعينيات,لتغير بنية الخطاب المسرحي العربي المعاصر.
فلم يقتصر تأثير الفكر الأسطوري على الدراسات الأنثروبولوجية, والاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون عامة, والمسرح على وجه الخصوص, واستفادوا من الأسطورة رمزياً, وإشارياً، واستطاعوا أن يشكّلوا منها حالات رؤيوية,تفاوتت بين الاستخدام الإبداعي، والاستخدام الوظيفي النصّيّ حسب درجات ثقافتهم,ومواهبهم، وكيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري.
ونظراً للامتداد والشمولية للأسطورة في الآداب العالمية,لجأ الكتاب إلى التناص معها,بالرغم من الخلاف على تحديد ماهيتها.
لكن الرؤى الإبداعية التي تمّ توظيفها في الخطاب المسرحي العربي المعاصر,جعل مفهوم الأسطورة عند بعض الكتاب المعاصرين قابلاً لمزيد من الابتكار، إذ تنزاح في أحيان كثيرة عن موقعها الرمزي, والدلالي لتأخذ دلالات جديدة أخرى,يبتكرها الكاتب بعيداً عن دلالاتها المعرفية,لدى الأقوام والشعوب.
وما إن نبدأ بقراءة نص مسرحي,لعربي معاصر من جيل الرواد,أو من الجيل المعاصر الذي يليه، حتى يطالعنا من الصفحات الأولى,سيلٌ من الأساطير البابلية, والإغريقية, والفينيقية التي تنتشر لتغطي فضاءات الكتابة المسرحية، بحيث تبدو هذه الفضاءات مستغلقة,نتيجة لتداخل الرموز, وغموضها, وإبهامها، وتوظيفها توظيفاً غائيّاً,بقصد المباهاهبمعرفتها، فيأتي هذا التوظيف - في كثير من الأحيان كمّاً تراكميًاً,يُفقد المسرحية قدرتها على الإيحاء العميق للدلالات، وعلى فهم الموقف الأسطوري فهماً جمالياً, ورؤيوياً، ويغدو النص من خلاله استعراضا معرفياً، وتشكيلة صناعية زخرفية,لمجموعة من الأنساق الميثولوجية التي تُفرض على فضاء النص، دون أن تكون قادرة على إبراز الموقف التاريخي, والحضاري, والإنساني الذي يريد الكاتب التأكيد عليه, إذ أن هذا الموقف,هو الشرط الأساس الذي يجب استنفاره من جرّاء استخدام الأسطورة.
وللتناص مع الأسطورة يجب مراعاه ألا يكون من أجل أن تغطى فضاءات الكتابة المسرحية بفضاءات مستغلقه نتيجة لتداخل الرموز، وغموضها، وابهامها، وتوظيفها توظيفاً غائياً، بقصد المباهاه بمعرفتها، فيكون التوظيف كماً تراكمياً، يفقد المسرحية قدرتها على الإيحاء، وعلى فهم الموقف الأسطورى فهماً جمالياً، ورؤيوياً، فيغدو النص استعراضاً معرفياً، وتشكيلة زخرفية لمجموعة من الأنساق الميثولوحية التى تفرض على فضاء النص، بل، لابد للمبدع أن يكون قادراً على إبراز الموقف التاريحى، والحضارى، والانسانى الذى يريد التأكيد عليه؛ إذ أن الموقف هو الشرط الذى يجب استنفاره من جراء استخدام الأسطورة.
كما أنه من الضرورى على المبدع، أن يتعمق في فهم الإرث الثقافي الأسطوري بدلالاته, وأبعاده الرمزيّة، وعلاقته بروح,وفكر الشعوب التي أنتجته, لأنّ توظيف الأسطورة رؤية فنية إبداعية,لا يستطيع الكاتب الوصول إليها,إلا من خلال الجودة, والإبداع، والموهبة الحقيقية، هذه الموهية التي "تكمن في قدرة الكاتب على الغوص في الشرط الإنساني الكامن في أعماقه, وأعماق من حوله, وعلى استنفار هذا الشرط, وعلى خلق الأداة الفنية, وتطويعها لمعاناته"[10].
إنّ توليد الأسطورة والنظر إليها برؤيا العصر، وتعديل صياغتها، رؤية فنيّة,وجمالية، حاول كثير من الكتاب المعاصرين إدخالها إلى بنية الخطاب المسرحي العربي المعاصر، فمثلاً يصبح شهريار,أي حاكم مستبد، ويمثّل السندباد,توق الإنسان المعاصر للبحث,والكشف,والمغامرة، والخروج عمّا هو سائد,ومألوف,ورتيب في الحياة العربية المعاصرة.
إنّ توظيف الأسطورة ليس عودة إلى الماضي,بقدر ما هو تجربة شخصية عميقة,تنطلق من معاناة الذات الفاعلة المبدعة,لتصبّ في التجارب الإنسانية، سواء أكانت هذه التجارب قد حدثت في الماضي, أم في الحاضر, ليبقى الإبداع وعياً فرديا,ً وجمعياً يتشكّل بالمثاقفة الحضارية, والفكرية مع مشارب مختلفة، ولا يعني تحديداً إلى الماضي، بالرغم من أهمية هذا الماضي, ودوره في تشكيل كثير من الأعمال الإبداعية الجديدة.
فإذا كان الماضي بعلاقاته, ومساراته التاريخية الطويلة شكّل الأسطورة,وعايشها في مقولاته الفكرية, وسلوكه العام، فإنّ اللجوء إلى الأسطورة في الخطاب المسرحي المعاصر,لا يعني التغذي من تربة الماضي، والتنفس من هوائه.
إن النص الأصيل فناً,وإبداعاً هو القادر على تخطي حدود الماضي,ومفارقة أطلاله، والتجربة المسرحية الحيّة الفعالة,هي التي تقفز بالحاضر,قفزة جريئة لتغيّر هذا الحاضر، و تسهم في صنع المستقبل, وإذا كان بعض الباحثين,والنقّاد قد تطرّقوا إلى دراسة الفكر الأسطوري,وعلاقته بالخطاب المسرحي العربي المعاصر، فإنّ الموضوع يشكّل نواةً,يمكن أن تتشعب,وتنمو في أكثر من اتجاه.
ولذا فإنّ البحث في هذا الموضوع لا ينضب, ولا يمكن أن ينضب، وهو بحاجة إلى مزيد من الدرس والسبب يكمن في أنّ موضوع الأساطير,وعلاقتها بالآداب بعامة، والمسرح بخاصة، ثرٌّى بدلالاته, وأبعاده الفكرية, والجمالية، متباين بتباين رؤى أصحابها المتشعبة,ولأن الأساطير بها خفايا,والمسرح يسعى إلى الغوص في تلك الأساطير لاستكشاف تلك الخفايا, وربطها بالموضوعات السياسية, والاجتماعية, والتاريخية, والحضارية التي يتمُ طرحها من خلال استنفار طاقة الرمز الأسطوري إيحائيا,، ودلالياً.
والمسرح هو السبيل المباشر للأسطورة,وابنها الشرعي,باعتبارهما يلتقيان,في كون ما ينقلانها من الإيحاء,لا الإملاء، وعبر الإشارة,والتضمين، لا عبر التعليم,أوالشرح،اوالتلقين, لذا بدأ المسرح مرتبطاً بالأسطورة.
والوقائع الأسطورية هي وسيلة من وسائل التعبير الفنية,مثلها فى ذلك مثل استخدام أدوات التأليف المسرحي الأخرى,فالأسطورة تمكن الكاتب من الخروج من النمطية,إلى التجريب,والتحول من التقريرية,والخطابية المباشرة,إلى الغموض,والإيحاء، ومن مستوى الرؤية إلى مستوى الرؤيا، وبالتالي الانتقال بالنص من نص مغلق,إلى نص مفتوح.
أوديب سيفوكليس:
بالرغم من أن التقديم الأولي للملك أوديب لا يمكن أن يحدد تاريخة لا ريب، إلا أن معظم المؤرخين يفترضون أن المسرحية قدمت على المسرح فى أثينا عام 427 ق.م
علام قام النص في مسرحية أوديب:
حينما شرع سوفوكليس فى كتابة مسرحيته كانت في متناوله أسطورة أوديب ليبدأ منها "فقد تلقى لايوس وجوكاستا ملك طيبة وملكتها نبوءة تقول إن ابنهما سيشب ليقتل أباه ويتزوج أمه...."
سوفوكليس حين رسم خطة عقدة المسرحية بدأ من نهاية القصة ،حين حل الوباء بمدينة طيبة حيث كان أوديب وجوكاستا يتوليان حكمها بنجاح كبيرلسنين عدة,ويستغرق موضوع المسرحية أقل من يوم واحد ،يدور حول بحث أوديب عن قاتل لايوس :آى استطلاعه نبوءة ابوللو،وسؤاله العراف تيرسياس وعددا من الشهود منتهيا بالراعى العجوز الذى سلم أوديب إلى ملك كورنثه وملكتها .وتنتهى المسرحية عندما ينكشف أمره بما لا يدع مجالا للشك فى أنه هو المذنب.
ولكن قارئ المسرحية عندما ينتهى من قرأتها،سرعان ماتدور فى ذهنه العديد من الأسئلة منها : هل أوديب مذنبٌ بالفعل؟ أم أنه مجرد ضحية للآلهة ، أم لعقدته النفسية الشهيرة ،أم للقدر, أم للخطيئة الأصل ، أم لإمرٍ آخر؟ هذا ما سيحاول التطبيق الإجابة عليه:
تحدثت في النماذج السابقة عن فنون الشعر والقصة والرواية ؛ قديمها وحديثها ، ووجدت أنه من المناسب التطبق على المسرح التراجيدي ( المأساة ) قبل الحديث عن مسرح الكوميديا (الملهاة ) والساخرة والسوداء...الخ فأسطورة اوديب تثير موضوع القدرية أو الجبرية القاسية المحتومة التي لا خيار فيها لا ريب ؛ الأمر الذي يثقل كاهل كل إنسان قبل ميلاده ولا يأل الواحد منا في محاولة الخلاص من هذا القدر الذي لا مناص منه. غير أن زاوية الرؤية خاصتي تنفلت من أبعاد مختلفة،وعليه كان عليّ استعراض نماذج مختلفة لنص ( أوديب )
ففي ميثولوجيا أوديب ، وفي زمن يعد مبكرا في تاريخ الإنسانية انفجرت عبقرية الشعوب لتجسد ذلك الصراع السرمدي/الأزلي للإنسان الفرد وهو يصارع قدره محاولا تخطيه ، بيد أنه بحسب الاسطورة لا جدوى فما دلالة ذلك .. ؟!!
كُتبت هذه الاسطورة في زمن ضارب في القدم ، نصآ أدبيا (مسرحيا) و أولهم اليونانيون: [13]اسنخيلوس ويوربيدس وسوفوكلس والروماني سنيك...ثم تحدثت بها الأوديسا في جوقتها الحادية عشرة ثم كان لهيرودوت أثره في شيوع هذه الأسطورة القصة وصار لها حضور في أساطير الفراعنة والفرس، ثم اقام أرسطو أسسه النظرية للتراجيديا عليها في كتابه فن الشعر، ثم كتبها مجموعة من الشعراء في أوروبا من مثل : الشاعر كورني وفرليتر وسان جورج وجان كوكتو وأندريه جيدا ، وترجمها كل من نجيب حداد وطه حسين وعلي احمد باكثير وفرح انطوان ,
وكتب توفيق الحكيم مسرحية ( الملك اوديب ) في عالمنا العربي ؛ لتتحول هذه الاسطورة / المسرحية إلى درس في الاشتغال الذهني ، اجتماعيا ودينيا وسياسيا ...الخ وإحداث فارق [14]مختلف كلٌّ حسب توجهه الفكري ، في المسارح العالمية الكثيرة لتنسجم مع الواقع الإنساني ومعاناته وهمومه كلٌّ حسب عصره ورؤيته لواقع مجتمعه المختلفة...
وتعد مسرحياتسوفوكليس أفضل مصدر لمأساة أوديب، وأكثرها جمالا مقارنة بالمسرحيات اليونانية القديمة التي ما زالت تقرأ إلى يومنا هذا، فقد أُلفت خلال فترة زمنية تفوق ال( 450ق.م). حيث صنفها أرسطوفي كتابه ( الشعر ) بأنها الإنموذج الأفضل لمأساة عرفها الإنسان في فن التراجيديا / المأساة.
الفصل الثاني ، الجانب التطبيقي :
الإيقاع الداخلي في المسرحية :
أشرت في ملخص الدراسة إلى اتكاء الناص على الأسطورة ، وصياغتها بسردية ماتعة ، شعرا موزونا ، هذا جانب ، ومن جانب آخر إضافته الملية على خشبة المسرح ؛ وزيادة عدد
الجوقة ، وهو بذلك يركز على العنصر الجمالي ، وبهذا يحدث فارقا نوعيا في هذا الابتكار البنائي في مستويين :
- النص من خلال صياغته الأسطورية بشكل مبتكر...
- خشبة المسرح من خلال فهمه ورؤيته فيما يؤثر في الجمهور ، بمثيرات عدة ؛ سمعية وبصرية وحركية...الخ
ولعل هذا الجانب لم يتوقف عنده الباحثون والنقاد في سر نجاح سوفكليس ، وتفوقه على سابقيه ، ثم ديمومة النص إلى يومنا هذا ، وقد أشار أرسطو بشكل خفي ، في كتابه فن الشعر ، غير أنه لم يتوسع في ذلك كما يجب ، بوصفه تقنية عالية في البناء المسرحي..تتبع حركة الإيقاع الداخلي في جوانية النص ، يساعد على فهم زاوية الرؤية التي تحدثت عنها ؛ وذلك من خلال رصد
*
يعد الوزن الشعري من بحور وتفعيلات وقوافٍ...الخ ،وهذا جانب من الإيقاع الموسيقي في جانبه السمعي / الصوتي ، وثمة إيقاع داخلي موسيقي يتمثل في اختيار الألفاظ المموسقة من جناس وطباق وسجع..الخ لتحقيق الإيقاع..غير أن الإيقاع الداخلي الذي أتحدث عنه يختلف ويزيد من جماليات النص لا بل يكشف خباياه الداخلية وشبكة علاقاته ؛ فهو : حركة خفية داخل النص ، تتحقق تتنامى من خلال التكرار ، عند كل تكرار ثمة إضافة جديدة على الفكرة الأساسية / هذا التكرار يحقق للنص نسيجا داخليا في البنية العميقة للنص ، فيتحقق إيقاع داخلي غير سمعي جوانية النص وقد حققت مسرحية أوديب عشر دورات إيقاعية كالتالي :
1- اسم المسرحية أوديب التي معناها باليونانية القديمة المصفد بالأغلال أو الأرجل المتورمة-> وهذا العنوان يتوقف عنده الباحث في الحركة الخفية التي قد تفسر الجبرية القسرية التي أراد المؤلف بث رسالته من خلالها 2-> الناص بدأ المسرحية من حيث ما انتهت – على طريقة الارتداد – وذلك بتحقق النبوءة بالفعل وحصول الخطيئة ثم التطهير3 -> إخفاء النبوءة عن أوديب من كل من عرفها 4 -> التخلص من أوديب وبدلا من أن يلقيه في الجبل ليموت تركه لراعي قابله في هذا الجبل.ولقد 5-> أشفق الراعى على الطفل وأخذه لملك وملكة كورنثة فهما لاينجبان وأعطاهم أياه 6 -> وتربى أوديب مع الملك والملكة وهو معتقد بأنهم أبواه حتى شب وأصبح يافعا 7-> بعد رحيله وزواجه من أمه الحقيقية طمأنته زوجته( أُمه ) أن النبوءات تكذب وتخدع، فلقد جاءت لها ولزوجها ملك طيبة نفس النبوءة وتركوا ابنهم يموت في الجبال 8-> استقصى أوديب خبر الراعي رغم تحذيرات زوجته ونصائحها ولكن حبه للمعرفة وللحقيقة جعله يأتي بالرسول، ولقد حاول الأخير ألا يخبره إلا أنه وبعد ضغط أخبره أنه بالفعل أعطى طفلا وليدا ذا قدم متورمة لرجل من كورنثة ولم ينفذ كلام لايوس بأن يقتله 9->واستفسر عن الطريق الذي مات فيه لايوس فكان الطريق نفسه الذى قتل فيه أوديب الرجل
وهنا انكشفت لأوديب الحقيقة 10->يفقأ أوديب عينيه ، ويبحث عن منفى خارج طيبة . فى الملك أوديب مثلما فى العديد من التراجيديات الإغريقية يرتبط الناس بصورة مأساوية للمكان ، يكتسب الملك أوديب المعرفة بذاته عن طريق معرفته بمكانه الحقيقى فى أسرته ومدينته وفى العالم الإغريقى .
هل أوديب مذنبٌ بالفعل ؟ أم أنه مجرد ضحية للآلهة ، أم لعقدته النفسية الشهيرة ،أم للقدر, أم للخطيئة الأصل ، أم لإمرٍ آخر ؟المتتبع للحركة الخفية في جوانية المسرحية ، يلاحظ أن الناص قد فتح نص المسرحية على التأويل ، وترك لكل سؤال مفتاحا للإجابة عليه .
في الحركة / الفكرة الأولى كأني بالناص يقول : كل فرد ماض لقدره قسرا ( العنوان ) وفي الحركة الخفية الثانية يضيف تأكيدا على رؤيته بحدوث المأساة ؛ حيث شتقت الأم نفسها ، وفقأ أوديب عينيه ، ويتبين لنا ذكاء الناص في الاشتغال الذهني بإخفاء النبوءة أصلا عن أوديب ليفتح فهما وتأويلا جديدا ، ويتمظهر ذلك في الحركة الرابعة فلِمَ لم يتأكد والد أوديب من ممات ولده ..؟!! ثم لماذا أشفق الراعي على أودي ورباه في الحركة الخفية الخامسة ؟! الحركة السادسة متقنة واعية فأوديب ينشأ في أسرة ولدا لملكين ، الأمر الذي جعل من أمه الحقيقية تطمأنه بعد رحيله في رحلة البحث عن الحقيقة في الحركة السابعة الخفية ..غير أن الأمر اختلف في محاولة أمه اقناعه في الحركة الثامنة وكأنه يقول : من حقي أن أعرف من أنا لذلك ضغط على الراعي وعرف الحقيقة ويتضح هذا الأمر في الحركة التاسعة وكانت المأساة في الحركة الخفية العاشرة..!!
وهكذ أراد سوفكليكس وبذكاء عجيب أن يفتح النص للقراءة الإنطوسيكولوجيا في تعدد الرؤى.
ومسرحية أوديب إلى حد ما قد تتحدث عن الحاجة للزعامة وسط الأزمة السياسية . المسرحية عن الجذور أيضا . ففى سعيه وراء الحقيقة يقابل أوديب شخصيات من أماكن عديدة من ماضيه ويكتشف المكان الذى ولد فيه . معتقدا فى البداية أنه ولد فى كورنثة ،يدرك أوديب أنه ولد فى طيبة أن زوجته يوكاستا هى أيضا والدته ، وعندما أدرك افتقاده للبصيرة أو الرؤية الحقيقية ، يفقأ أوديب عينيه ، ويبحث عن منفى خارج طيبة . فى الملك أوديب مثلما فى العديد من التراجيديات الإغريقية يرتبط الناس بصورة مأساوية للمكان ، يكتسب الملك أوديب المعرفة بذاته عن طريق معرفته بمكانه الحقيقى فى أسرته ومدينته وفى العالم الإغريقى .
خاتمة البحث
إن مسرحية الملك أوديب مثل فريد على المسرحية إن لم تكن هى المسرحية الوحيدة التى تمثل هذا الفن (الدراما) فى طبيعته الأساسية .ومرد أهميتها هذه هو من ناحية أن أرسطو بنى عليها تعريفاته ، ومن ناحية آخرى انها ظلت منذ عهد أرسطو تقلد وتعاد كتابتها وتناقش على مر الأجيال.إن سبب شهرة مسرحية الملك أوديب ليس فقط لاعجاب المعلم الأول(أرسطو) بها ،وإنما أيضا لحقيقة أن كثيرا من النقاد يعتبرون سوفوكليس أكثرالشعراء التراجيديين تعبيرا عن روح أثينا فى عصرها الذهبى.
[/b]
عوض بديوي
كنت قد طبقت في إطروحتي على الشعر ، ووجدت أن من المناسب التطبيق على المسرح ؛ أهم الفنون ...
الموضوع :[b]الإيقاع الداخلي في مسرحية أوديب ملكا
ملخص البحث:
ما لفت نظري في المسرحية ، الاتكاء على الأسطورة ، وصياغتها بفن سردي موزون / شعرا ،من خلال الاشتغال الذهني على مسرحية أوديب ؛ اخترت رؤيا معاصرة : تطبيق على النظرية في الجانب المسرحي – " الحركة الخفية في حركة الإيقاع الداخلي في جانبه غير السمعي وزاوية رؤيا
الأسطورة وفلسفتها وتأثيرها في الدراما:
مما لا شك فيه أن : الأسطورة قادرة على تفسير العالم,والكون، كبديل فلسفي لكل الحضارات لان "العالم الروحي للديانة بأكمله في الطقوس,والأساطير,وأشكال التجسيد الإلهى"[1]فامتلأت ساحات المدن,ومعابدها بالطقوس البدائية,والنصوص الأسطورية,والدينية فكانت السبب الذي أدى إلى تطور المسرح في الحياة الاجتماعية الإغريقية,وأصبحت التراجيديا اليونانية، التي كانت تقام في الاحتفالات القومية للإغريق، أحد التعابير المتميزة للديمقراطية الآثينية، لأنها اعتنت بتطورها.
ثم أن المسرح خرج من عباءة الطقوس الدينية؛ إذ لم يكن وليد للحظة فكرية, بل تطور مخاضةعبر صيرورة الأساطير, وكانتمجموعة من الطقوس الاحتفالية,كالرقص، والغناء، والمرح، والتعبد، وهي المكونة لعناصر "ما قبل مسرحية,من خلال ما توظفه من ملابس, وشخصيات إنسانية,وحيوانات وأدوات، وكذا من خلال ما تقوم عليه من ترميز لفضاء مقدس,أو زمن كوني أسطوري"[2].
وبهذا فإن تلك الاحتفالات,تشكل بذلك فضاءً دينياً,يمكن الاستدلال عليه من خلال المحتفلين,وأفعالهم,وتصرفاتهم,وعلاقاتهم في إطار الحدث الديني، وبذلك كان الإنسان مطبوعاً بطابع الروحانية، وفي نفس الوقت اتخذت شكل فرجة مسرحية,"كفرجة شاملة يشارك فيها الفرد عن طواعية بجسمه,وروحه دون أن ينسى أنه يشاهد واقعاًممثلاًينعكس عبر الصور,والرموز"[3] فكل هذه المقومات تضافرت,لتشكل كيانًا,يمثل عقيدة الإنسان الإغريقي, ومنحته وعياً متجاوزاً,يجد في المسرح إنجازاًمهما.
والمناسبات امتلأت بكثير من الخطوب,وبكثير من الأحداث السارة، وكان ذبول الأوراق في الخريف,والشتاء رمز لموته,فتكثر الأحزان، كما كانت عودة الأزهار وتفتح البراعم,ثم الحصاد في الربيع,رمز لبعث الإله من جديد,فتقام الاحتفالات, والمهرجانات الأناشيد الديثورامبية,التي نشأت منها التراجيديا.
كيف بدأت المأساة :
وبدأت بذور المأساة تتكون في المدن اليونانية سيكورون,وكورينثة؛إلا أنها استقرت أخيراً في أتيكا,حيث اكتملت عناصرها الفنية، واتخذت صورتها النهائية.
فهنا تحول القاص إلى ممثل بالمعنى الصحيح، وأصبح رئيس الجوقة، يقوم بالدور الرئيسي فيمثل شخصية الإله، كما يقوم بسائر الأدوار بأن يدخل خيمة,ويغير من ملامحه,وملابسه.وكان كل مرة يخاطب أفراد الجوقة في موضوع مختلف، وبذا امتلأت المأساة حياة, وحركة بفضل تنوع مهمته.
المرحلة المهمة التي مرت بها المأساة ، حينما تتناول موضوعاً مفصلاً متعدد الحوادث، بعد أن كانت مجرد مجموعة من الأناشيد,تنشد تكريما للإله, فاتخذت من الأساطير القديمة موضوعها، بعد أن كانت مقصورة على الإنشاد, وصارت المأساة تعالج الموضوعات التاريخية,إلى جانب الأساطير القديمة, واهتمتبكافة المشاكل الإنسانية.
و من هنا استلهم شعراء المأساة الثلاثة,إسخيلوس,وسوفوكليس, ويوربيدس موضوعات مسرحياتهم,من الأساطير اليونانية القديمة,الزاخرة بقصص ذات مخزي عن آثام بنى البشر، وعن اللعنه المتوارثة التي "اعتقد الإغريق أنها تحل بأفراد ينتمون إلى أسرة شهيرة في الماضي الغابر بسبب الأوزار التي اقترفها أحد أسلافهم, ومن أشهر هذه الأساطير,أسطورة آل أتريوس التي إستلهم منها إسخيلوس ثلاثيته المعروفه,باسم الأورستيا,كما إستلهمها سوفكليس,في عدة من مسرحيات منها أوديب ملكا"[4].
ولعل طقوس المؤلفين إلى عالم الأساطير التخيلي,هو اتجاةما يبررة , فالأساطيرعالم رحب من الأحداث الإنسانية,التي تتسم بصفة العمومية, والتي يستطيع الكاتب من خلالها التحرك بحرية, واستخدام أدواتهالفنية من رموز, وإسقاطات على عالمة المعاصر؛الذي هو بطبيعتة بالغ الخصوصية, ومحدود المجال,وفضلاً عن ذلك فإن الأسطورة هي وليدة الخيال المؤسس على التصور العقلي, وهى بمثابة الابنة الشرعية لحلم الإنسانية,كما إنها "تجسد رغبة الإنسان,في الوصول إلى عالم يخلو من الخلل, ومن المصادمات,التي يزخر بها الواقع في كل لحظة"[5].
وحيث أن الأساطير كانت "عالماً غنياً زاخراً بشخوصه,ومواقفه,ومعيناً لا ينضب من المادة الخام,التي يتطلبها لبناء موضوعه"[6]، يرى الباحث أن الجو الأسطورى فى المسرح الأغريقى بدأمن النصوص الدرامية الأولى,التي أفرزت، والتى اعتمدت في مجملها على لغة الشعر المرسل، أقرب إلى اللغة المقدسة الهوميرية، فكانوا ينطقونلغة شعرية نظمية سامية وأحياناً ينطقون شعراً غنائياً,أقرب إلى موقف المتصوفة، ووضعواقناعاً,يخفي ملامح الوجوه, ويمنح طابع القداسة، وارتدواالأزياء الأنيقة،وحشوا بطونهم,وصدرهم,بالأقمشة,ليبدوا من بعيد عمالقهً,ليتناسب ذلك مع الشخصيات التي يؤدوها، إذ لا يجوز أن يكون الإله,أو الملك قزماً ضعيفاً، وانتعلواحذاءً طويلاً عالياً، واتخذواالديكور معبداً, أو قصراً, أو واجهة من كليهما، وظل الطقسالديني مسيطراً على العرض, أو على الأقل على الدنيوي، ولم يستطع الخروج من سيطرة المعبد نهائيا,إلا مع تضاؤل دور الجوقة في نصوص يوربيدس, حتى أصبح التمثيل أكثر إنسانية, وأكثر واقعية, وأكثر تقرباً من الحياة، فقد بدأت العقلانية تتسرب إلى المتفرج رغم رواسب الروحانيات فيه، لكن فيما بعد تغير كل شيء فأصبح المتفرج حسياً, ومتطفلاً أيضاً.
ويربط أرسطوبين "نشأة التراجيديا, والاحتفالات الدينية، للموازنة بين صورة المأساة,ومضمونها الروحي,وبين الشعائر الدينية فكانت فكرة محاكاة الفعلالتي جاء بها في كتابه فن الشعر"[7].
وفى الوقت الذي كان يقدم فيه زعماء المسرح نتاجهم، تغير خلالها تفكير الجماعة ومطامحها, وآمالها, وازدادوا أدركا للوجود من حولهم.
وبحكم التحول الاجتماعي الاقتصادي الذي عرفته أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، كدولة ذات مقومات, وتقاليد حضارية.
وبالرغم من ذلك بقيت الطقوسية طاغية على الحياة الاجتماعية,فكان للكاهن الرئيسي الدور الآمر, والناهي فهو يتزعم موكب الاستغفار, وممارسة التعاويذ العلنية لطرد الأرواح الشريرة,والأشباح وكان يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع اليوناني,فهو الفيلسوف, والمصلح الاجتماعي, والعالم, والطبيب, وقد امتدت صلاحياته إلى عقد القران,بين الأزواج في موكب طقوسي,يكسوه المرح,والفرح لما له من دلالة,رمزية للإخصاب,والحياة، كما أن وظيفته هذه المتعددة,تخول له أيضا الإشراف على المواكب الجنائزية,وهو الحاكم الحريص على التدين, والإيمان للقيام بالواجب الطقوسي, وكل ما جاء بالأساطير, والقصص الشبه خرافية على لسانه كخطاب ديني توجيهي معززاً للقيم الأخلاقية, والعلاقات الاجتماعية.
ومن ثم "نشأ المفهوم الدرامي عبر المحاكاة للمواضيع ذات الصيغة الخرافية الشبه دينية، وكان "مؤلفو التراجيديا يستمدون موضوعات مسرحياتهم في معظم الأحيان من الأساطير,التي كانت تراثاً معروفاً لمواطنيهم, ولأن المسرح الإغريقيارتبط منذ نشأتهبالدين, أو العقيدة,كان لزاماً أن ترتبط موضوعات التراجيديا بالعقيدة الإغريقية ممثلة في التراث الأسطوري, ذلك أن الأساطير,كانت لدى الإغريق,بمثابة الكتاب المقدس بالنسبة للأديان السماوية"[8]،فكانت الأساطير موضع إلهام للكثير من الشعراء الذين انتقلوا بها من ميدان الاحتفال الطقوسي على شرف الإله ديونسيس,إلى ساحة العرض المسرحي,فبلغ الفن الدرامي,وقتئذ,قمة لا مثيل لها قدموا فيها الأساطير, وما يتناسب مع حسهم الدرامي.
لقد كانت الأساطير,ولازالت,مصدر إلهام للأدباء والشعراء,والمسرحيين والفنانين,ومعيناً لاينضب,وإن "كان المسرح الإغريقيالقديم قد وصل إلى قمة شامخة,فلا ينبغي عليننا أن ننسى أن قدراً كبيراً من هذا الفكر الدرامي,كان كامناً في تلك الأساطير,حتى نسج منها كتاب المسرح أعمالهم المسرحية الخالدةٍٍ"[9].
تقنيات التناص مع الأسطورة في المسرح:
استمدت الحداثة المسرحية أشكالها, وتصوراتها من التراث كهوية ممكنة للثورة ضد الثبات, والجمود، من أجل توليد أشكال, ونماذج مغايرة في إيجاد هوية خاصة بها، بعيداً عن منجز الآخر، فالتفت المسرحيون العرب إلى التراث,بخاصة في السبعينيات,لتغير بنية الخطاب المسرحي العربي المعاصر.
فلم يقتصر تأثير الفكر الأسطوري على الدراسات الأنثروبولوجية, والاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون عامة, والمسرح على وجه الخصوص, واستفادوا من الأسطورة رمزياً, وإشارياً، واستطاعوا أن يشكّلوا منها حالات رؤيوية,تفاوتت بين الاستخدام الإبداعي، والاستخدام الوظيفي النصّيّ حسب درجات ثقافتهم,ومواهبهم، وكيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري.
ونظراً للامتداد والشمولية للأسطورة في الآداب العالمية,لجأ الكتاب إلى التناص معها,بالرغم من الخلاف على تحديد ماهيتها.
لكن الرؤى الإبداعية التي تمّ توظيفها في الخطاب المسرحي العربي المعاصر,جعل مفهوم الأسطورة عند بعض الكتاب المعاصرين قابلاً لمزيد من الابتكار، إذ تنزاح في أحيان كثيرة عن موقعها الرمزي, والدلالي لتأخذ دلالات جديدة أخرى,يبتكرها الكاتب بعيداً عن دلالاتها المعرفية,لدى الأقوام والشعوب.
وما إن نبدأ بقراءة نص مسرحي,لعربي معاصر من جيل الرواد,أو من الجيل المعاصر الذي يليه، حتى يطالعنا من الصفحات الأولى,سيلٌ من الأساطير البابلية, والإغريقية, والفينيقية التي تنتشر لتغطي فضاءات الكتابة المسرحية، بحيث تبدو هذه الفضاءات مستغلقة,نتيجة لتداخل الرموز, وغموضها, وإبهامها، وتوظيفها توظيفاً غائيّاً,بقصد المباهاهبمعرفتها، فيأتي هذا التوظيف - في كثير من الأحيان كمّاً تراكميًاً,يُفقد المسرحية قدرتها على الإيحاء العميق للدلالات، وعلى فهم الموقف الأسطوري فهماً جمالياً, ورؤيوياً، ويغدو النص من خلاله استعراضا معرفياً، وتشكيلة صناعية زخرفية,لمجموعة من الأنساق الميثولوجية التي تُفرض على فضاء النص، دون أن تكون قادرة على إبراز الموقف التاريخي, والحضاري, والإنساني الذي يريد الكاتب التأكيد عليه, إذ أن هذا الموقف,هو الشرط الأساس الذي يجب استنفاره من جرّاء استخدام الأسطورة.
وللتناص مع الأسطورة يجب مراعاه ألا يكون من أجل أن تغطى فضاءات الكتابة المسرحية بفضاءات مستغلقه نتيجة لتداخل الرموز، وغموضها، وابهامها، وتوظيفها توظيفاً غائياً، بقصد المباهاه بمعرفتها، فيكون التوظيف كماً تراكمياً، يفقد المسرحية قدرتها على الإيحاء، وعلى فهم الموقف الأسطورى فهماً جمالياً، ورؤيوياً، فيغدو النص استعراضاً معرفياً، وتشكيلة زخرفية لمجموعة من الأنساق الميثولوحية التى تفرض على فضاء النص، بل، لابد للمبدع أن يكون قادراً على إبراز الموقف التاريحى، والحضارى، والانسانى الذى يريد التأكيد عليه؛ إذ أن الموقف هو الشرط الذى يجب استنفاره من جراء استخدام الأسطورة.
كما أنه من الضرورى على المبدع، أن يتعمق في فهم الإرث الثقافي الأسطوري بدلالاته, وأبعاده الرمزيّة، وعلاقته بروح,وفكر الشعوب التي أنتجته, لأنّ توظيف الأسطورة رؤية فنية إبداعية,لا يستطيع الكاتب الوصول إليها,إلا من خلال الجودة, والإبداع، والموهبة الحقيقية، هذه الموهية التي "تكمن في قدرة الكاتب على الغوص في الشرط الإنساني الكامن في أعماقه, وأعماق من حوله, وعلى استنفار هذا الشرط, وعلى خلق الأداة الفنية, وتطويعها لمعاناته"[10].
إنّ توليد الأسطورة والنظر إليها برؤيا العصر، وتعديل صياغتها، رؤية فنيّة,وجمالية، حاول كثير من الكتاب المعاصرين إدخالها إلى بنية الخطاب المسرحي العربي المعاصر، فمثلاً يصبح شهريار,أي حاكم مستبد، ويمثّل السندباد,توق الإنسان المعاصر للبحث,والكشف,والمغامرة، والخروج عمّا هو سائد,ومألوف,ورتيب في الحياة العربية المعاصرة.
إنّ توظيف الأسطورة ليس عودة إلى الماضي,بقدر ما هو تجربة شخصية عميقة,تنطلق من معاناة الذات الفاعلة المبدعة,لتصبّ في التجارب الإنسانية، سواء أكانت هذه التجارب قد حدثت في الماضي, أم في الحاضر, ليبقى الإبداع وعياً فرديا,ً وجمعياً يتشكّل بالمثاقفة الحضارية, والفكرية مع مشارب مختلفة، ولا يعني تحديداً إلى الماضي، بالرغم من أهمية هذا الماضي, ودوره في تشكيل كثير من الأعمال الإبداعية الجديدة.
فإذا كان الماضي بعلاقاته, ومساراته التاريخية الطويلة شكّل الأسطورة,وعايشها في مقولاته الفكرية, وسلوكه العام، فإنّ اللجوء إلى الأسطورة في الخطاب المسرحي المعاصر,لا يعني التغذي من تربة الماضي، والتنفس من هوائه.
إن النص الأصيل فناً,وإبداعاً هو القادر على تخطي حدود الماضي,ومفارقة أطلاله، والتجربة المسرحية الحيّة الفعالة,هي التي تقفز بالحاضر,قفزة جريئة لتغيّر هذا الحاضر، و تسهم في صنع المستقبل, وإذا كان بعض الباحثين,والنقّاد قد تطرّقوا إلى دراسة الفكر الأسطوري,وعلاقته بالخطاب المسرحي العربي المعاصر، فإنّ الموضوع يشكّل نواةً,يمكن أن تتشعب,وتنمو في أكثر من اتجاه.
ولذا فإنّ البحث في هذا الموضوع لا ينضب, ولا يمكن أن ينضب، وهو بحاجة إلى مزيد من الدرس والسبب يكمن في أنّ موضوع الأساطير,وعلاقتها بالآداب بعامة، والمسرح بخاصة، ثرٌّى بدلالاته, وأبعاده الفكرية, والجمالية، متباين بتباين رؤى أصحابها المتشعبة,ولأن الأساطير بها خفايا,والمسرح يسعى إلى الغوص في تلك الأساطير لاستكشاف تلك الخفايا, وربطها بالموضوعات السياسية, والاجتماعية, والتاريخية, والحضارية التي يتمُ طرحها من خلال استنفار طاقة الرمز الأسطوري إيحائيا,، ودلالياً.
والمسرح هو السبيل المباشر للأسطورة,وابنها الشرعي,باعتبارهما يلتقيان,في كون ما ينقلانها من الإيحاء,لا الإملاء، وعبر الإشارة,والتضمين، لا عبر التعليم,أوالشرح،اوالتلقين, لذا بدأ المسرح مرتبطاً بالأسطورة.
والوقائع الأسطورية هي وسيلة من وسائل التعبير الفنية,مثلها فى ذلك مثل استخدام أدوات التأليف المسرحي الأخرى,فالأسطورة تمكن الكاتب من الخروج من النمطية,إلى التجريب,والتحول من التقريرية,والخطابية المباشرة,إلى الغموض,والإيحاء، ومن مستوى الرؤية إلى مستوى الرؤيا، وبالتالي الانتقال بالنص من نص مغلق,إلى نص مفتوح.
أوديب سيفوكليس:
بالرغم من أن التقديم الأولي للملك أوديب لا يمكن أن يحدد تاريخة لا ريب، إلا أن معظم المؤرخين يفترضون أن المسرحية قدمت على المسرح فى أثينا عام 427 ق.م
علام قام النص في مسرحية أوديب:
حينما شرع سوفوكليس فى كتابة مسرحيته كانت في متناوله أسطورة أوديب ليبدأ منها "فقد تلقى لايوس وجوكاستا ملك طيبة وملكتها نبوءة تقول إن ابنهما سيشب ليقتل أباه ويتزوج أمه...."
سوفوكليس حين رسم خطة عقدة المسرحية بدأ من نهاية القصة ،حين حل الوباء بمدينة طيبة حيث كان أوديب وجوكاستا يتوليان حكمها بنجاح كبيرلسنين عدة,ويستغرق موضوع المسرحية أقل من يوم واحد ،يدور حول بحث أوديب عن قاتل لايوس :آى استطلاعه نبوءة ابوللو،وسؤاله العراف تيرسياس وعددا من الشهود منتهيا بالراعى العجوز الذى سلم أوديب إلى ملك كورنثه وملكتها .وتنتهى المسرحية عندما ينكشف أمره بما لا يدع مجالا للشك فى أنه هو المذنب.
ولكن قارئ المسرحية عندما ينتهى من قرأتها،سرعان ماتدور فى ذهنه العديد من الأسئلة منها : هل أوديب مذنبٌ بالفعل؟ أم أنه مجرد ضحية للآلهة ، أم لعقدته النفسية الشهيرة ،أم للقدر, أم للخطيئة الأصل ، أم لإمرٍ آخر؟ هذا ما سيحاول التطبيق الإجابة عليه:
تحدثت في النماذج السابقة عن فنون الشعر والقصة والرواية ؛ قديمها وحديثها ، ووجدت أنه من المناسب التطبق على المسرح التراجيدي ( المأساة ) قبل الحديث عن مسرح الكوميديا (الملهاة ) والساخرة والسوداء...الخ فأسطورة اوديب تثير موضوع القدرية أو الجبرية القاسية المحتومة التي لا خيار فيها لا ريب ؛ الأمر الذي يثقل كاهل كل إنسان قبل ميلاده ولا يأل الواحد منا في محاولة الخلاص من هذا القدر الذي لا مناص منه. غير أن زاوية الرؤية خاصتي تنفلت من أبعاد مختلفة،وعليه كان عليّ استعراض نماذج مختلفة لنص ( أوديب )
ففي ميثولوجيا أوديب ، وفي زمن يعد مبكرا في تاريخ الإنسانية انفجرت عبقرية الشعوب لتجسد ذلك الصراع السرمدي/الأزلي للإنسان الفرد وهو يصارع قدره محاولا تخطيه ، بيد أنه بحسب الاسطورة لا جدوى فما دلالة ذلك .. ؟!!
كُتبت هذه الاسطورة في زمن ضارب في القدم ، نصآ أدبيا (مسرحيا) و أولهم اليونانيون: [13]اسنخيلوس ويوربيدس وسوفوكلس والروماني سنيك...ثم تحدثت بها الأوديسا في جوقتها الحادية عشرة ثم كان لهيرودوت أثره في شيوع هذه الأسطورة القصة وصار لها حضور في أساطير الفراعنة والفرس، ثم اقام أرسطو أسسه النظرية للتراجيديا عليها في كتابه فن الشعر، ثم كتبها مجموعة من الشعراء في أوروبا من مثل : الشاعر كورني وفرليتر وسان جورج وجان كوكتو وأندريه جيدا ، وترجمها كل من نجيب حداد وطه حسين وعلي احمد باكثير وفرح انطوان ,
وكتب توفيق الحكيم مسرحية ( الملك اوديب ) في عالمنا العربي ؛ لتتحول هذه الاسطورة / المسرحية إلى درس في الاشتغال الذهني ، اجتماعيا ودينيا وسياسيا ...الخ وإحداث فارق [14]مختلف كلٌّ حسب توجهه الفكري ، في المسارح العالمية الكثيرة لتنسجم مع الواقع الإنساني ومعاناته وهمومه كلٌّ حسب عصره ورؤيته لواقع مجتمعه المختلفة...
وتعد مسرحياتسوفوكليس أفضل مصدر لمأساة أوديب، وأكثرها جمالا مقارنة بالمسرحيات اليونانية القديمة التي ما زالت تقرأ إلى يومنا هذا، فقد أُلفت خلال فترة زمنية تفوق ال( 450ق.م). حيث صنفها أرسطوفي كتابه ( الشعر ) بأنها الإنموذج الأفضل لمأساة عرفها الإنسان في فن التراجيديا / المأساة.
الفصل الثاني ، الجانب التطبيقي :
الإيقاع الداخلي في المسرحية :
أشرت في ملخص الدراسة إلى اتكاء الناص على الأسطورة ، وصياغتها بسردية ماتعة ، شعرا موزونا ، هذا جانب ، ومن جانب آخر إضافته الملية على خشبة المسرح ؛ وزيادة عدد
الجوقة ، وهو بذلك يركز على العنصر الجمالي ، وبهذا يحدث فارقا نوعيا في هذا الابتكار البنائي في مستويين :
- النص من خلال صياغته الأسطورية بشكل مبتكر...
- خشبة المسرح من خلال فهمه ورؤيته فيما يؤثر في الجمهور ، بمثيرات عدة ؛ سمعية وبصرية وحركية...الخ
ولعل هذا الجانب لم يتوقف عنده الباحثون والنقاد في سر نجاح سوفكليس ، وتفوقه على سابقيه ، ثم ديمومة النص إلى يومنا هذا ، وقد أشار أرسطو بشكل خفي ، في كتابه فن الشعر ، غير أنه لم يتوسع في ذلك كما يجب ، بوصفه تقنية عالية في البناء المسرحي..تتبع حركة الإيقاع الداخلي في جوانية النص ، يساعد على فهم زاوية الرؤية التي تحدثت عنها ؛ وذلك من خلال رصد
*
يعد الوزن الشعري من بحور وتفعيلات وقوافٍ...الخ ،وهذا جانب من الإيقاع الموسيقي في جانبه السمعي / الصوتي ، وثمة إيقاع داخلي موسيقي يتمثل في اختيار الألفاظ المموسقة من جناس وطباق وسجع..الخ لتحقيق الإيقاع..غير أن الإيقاع الداخلي الذي أتحدث عنه يختلف ويزيد من جماليات النص لا بل يكشف خباياه الداخلية وشبكة علاقاته ؛ فهو : حركة خفية داخل النص ، تتحقق تتنامى من خلال التكرار ، عند كل تكرار ثمة إضافة جديدة على الفكرة الأساسية / هذا التكرار يحقق للنص نسيجا داخليا في البنية العميقة للنص ، فيتحقق إيقاع داخلي غير سمعي جوانية النص وقد حققت مسرحية أوديب عشر دورات إيقاعية كالتالي :
1- اسم المسرحية أوديب التي معناها باليونانية القديمة المصفد بالأغلال أو الأرجل المتورمة-> وهذا العنوان يتوقف عنده الباحث في الحركة الخفية التي قد تفسر الجبرية القسرية التي أراد المؤلف بث رسالته من خلالها 2-> الناص بدأ المسرحية من حيث ما انتهت – على طريقة الارتداد – وذلك بتحقق النبوءة بالفعل وحصول الخطيئة ثم التطهير3 -> إخفاء النبوءة عن أوديب من كل من عرفها 4 -> التخلص من أوديب وبدلا من أن يلقيه في الجبل ليموت تركه لراعي قابله في هذا الجبل.ولقد 5-> أشفق الراعى على الطفل وأخذه لملك وملكة كورنثة فهما لاينجبان وأعطاهم أياه 6 -> وتربى أوديب مع الملك والملكة وهو معتقد بأنهم أبواه حتى شب وأصبح يافعا 7-> بعد رحيله وزواجه من أمه الحقيقية طمأنته زوجته( أُمه ) أن النبوءات تكذب وتخدع، فلقد جاءت لها ولزوجها ملك طيبة نفس النبوءة وتركوا ابنهم يموت في الجبال 8-> استقصى أوديب خبر الراعي رغم تحذيرات زوجته ونصائحها ولكن حبه للمعرفة وللحقيقة جعله يأتي بالرسول، ولقد حاول الأخير ألا يخبره إلا أنه وبعد ضغط أخبره أنه بالفعل أعطى طفلا وليدا ذا قدم متورمة لرجل من كورنثة ولم ينفذ كلام لايوس بأن يقتله 9->واستفسر عن الطريق الذي مات فيه لايوس فكان الطريق نفسه الذى قتل فيه أوديب الرجل
وهنا انكشفت لأوديب الحقيقة 10->يفقأ أوديب عينيه ، ويبحث عن منفى خارج طيبة . فى الملك أوديب مثلما فى العديد من التراجيديات الإغريقية يرتبط الناس بصورة مأساوية للمكان ، يكتسب الملك أوديب المعرفة بذاته عن طريق معرفته بمكانه الحقيقى فى أسرته ومدينته وفى العالم الإغريقى .
هل أوديب مذنبٌ بالفعل ؟ أم أنه مجرد ضحية للآلهة ، أم لعقدته النفسية الشهيرة ،أم للقدر, أم للخطيئة الأصل ، أم لإمرٍ آخر ؟المتتبع للحركة الخفية في جوانية المسرحية ، يلاحظ أن الناص قد فتح نص المسرحية على التأويل ، وترك لكل سؤال مفتاحا للإجابة عليه .
في الحركة / الفكرة الأولى كأني بالناص يقول : كل فرد ماض لقدره قسرا ( العنوان ) وفي الحركة الخفية الثانية يضيف تأكيدا على رؤيته بحدوث المأساة ؛ حيث شتقت الأم نفسها ، وفقأ أوديب عينيه ، ويتبين لنا ذكاء الناص في الاشتغال الذهني بإخفاء النبوءة أصلا عن أوديب ليفتح فهما وتأويلا جديدا ، ويتمظهر ذلك في الحركة الرابعة فلِمَ لم يتأكد والد أوديب من ممات ولده ..؟!! ثم لماذا أشفق الراعي على أودي ورباه في الحركة الخفية الخامسة ؟! الحركة السادسة متقنة واعية فأوديب ينشأ في أسرة ولدا لملكين ، الأمر الذي جعل من أمه الحقيقية تطمأنه بعد رحيله في رحلة البحث عن الحقيقة في الحركة السابعة الخفية ..غير أن الأمر اختلف في محاولة أمه اقناعه في الحركة الثامنة وكأنه يقول : من حقي أن أعرف من أنا لذلك ضغط على الراعي وعرف الحقيقة ويتضح هذا الأمر في الحركة التاسعة وكانت المأساة في الحركة الخفية العاشرة..!!
وهكذ أراد سوفكليكس وبذكاء عجيب أن يفتح النص للقراءة الإنطوسيكولوجيا في تعدد الرؤى.
ومسرحية أوديب إلى حد ما قد تتحدث عن الحاجة للزعامة وسط الأزمة السياسية . المسرحية عن الجذور أيضا . ففى سعيه وراء الحقيقة يقابل أوديب شخصيات من أماكن عديدة من ماضيه ويكتشف المكان الذى ولد فيه . معتقدا فى البداية أنه ولد فى كورنثة ،يدرك أوديب أنه ولد فى طيبة أن زوجته يوكاستا هى أيضا والدته ، وعندما أدرك افتقاده للبصيرة أو الرؤية الحقيقية ، يفقأ أوديب عينيه ، ويبحث عن منفى خارج طيبة . فى الملك أوديب مثلما فى العديد من التراجيديات الإغريقية يرتبط الناس بصورة مأساوية للمكان ، يكتسب الملك أوديب المعرفة بذاته عن طريق معرفته بمكانه الحقيقى فى أسرته ومدينته وفى العالم الإغريقى .
خاتمة البحث
إن مسرحية الملك أوديب مثل فريد على المسرحية إن لم تكن هى المسرحية الوحيدة التى تمثل هذا الفن (الدراما) فى طبيعته الأساسية .ومرد أهميتها هذه هو من ناحية أن أرسطو بنى عليها تعريفاته ، ومن ناحية آخرى انها ظلت منذ عهد أرسطو تقلد وتعاد كتابتها وتناقش على مر الأجيال.إن سبب شهرة مسرحية الملك أوديب ليس فقط لاعجاب المعلم الأول(أرسطو) بها ،وإنما أيضا لحقيقة أن كثيرا من النقاد يعتبرون سوفوكليس أكثرالشعراء التراجيديين تعبيرا عن روح أثينا فى عصرها الذهبى.
[/b]
انتهى بحمد الله
__________________________________________________ _
المراجع
[b][1]الأسطورة والتراجيدا فى اليونان القديم تاليف بيير فرنان بيير فيدال ناكية ترجمة د حنان قصاب حسن الاهإلى سوريا 1972 ص 38.[2] دحسن المنيعي، «تقديم» كتاب حسن بحراوي، المسرح المغربي. دراسة في الأصول السوسيوثقافية، م. س.،
[3] نفسه، ص. 7.
[4]محمد حمدى إبراهيم: نظرية الدراما الأغريقية، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط1، 1994،ص 185.
[5]نفسه، ص 187
[6]نفسه، ص41
[7]محمد حمدى إبراهيم، مرجع سابق، ص 22.
[8] محمد حمدى إبراهيم، مرجع سابق، ص39.
[9] نفسه، ص7.
[10]جلال فاروق الشريف، الشعر العربي الحديث، الأصول الطبقية و التاريخية، دمشق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط 1، 1976 م، ص5.
[11]مسرحية اوديب ملكا لـ "سوفوكليس" ترجمة د. ابراهيم سكر:الهيئه المصرية العامة للكتاب :القاهرة | الطبعة الأولى | 1995
[12]مقدمة فى تاريخ المسرح /الجزء الأول :تحرير فيليب زاريللى ،بروس مكوناشى ،جارى جاى ويليامز ، كارول فيشر سور جنفرى / ترجمة د:سومية مظلوم / مراجعة أ.د:عبد المعطى شعراوى /مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى
[13] سوفوكليس / أوديب ملكا / ترجمة د:على حافظ / دار الكاتب العربى / القاهرة / نوفمبر1967
[14]المصادر الكلاسيكية لمسرح توفيق الحكيم/ د:أحمد عتمان / الشركة المصرية العالمية للنشر –لونجمان
* أطروحتنا الأولى : الإيقاع الداخلي في جانبه غير السمعي ، رؤيا معاصرة ، نظرية وتطبيق على الشعر ( من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث ) ، إشراف د. خالد سليمان - رحمه الله – جامعة اليرموك : 1996م .
تنويه : لا مانع عندي من تزويد من يحب الاطلاع بتزويده بنسخة رقمية بكل الود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القراءة القادمة بحوله تعالى لنص من نصوص برق الضاد - ليس من باب النفاق العلمي والاجتماعي...الخ لا بل من باب القناعة بالنص ثم الواجب ربك يستر ويسهل يا عوض شكلك وقعت ..آه والله ]
مودتي و محبتي للجميع[/b]