قصة قصيرة_____ نعشُ الحب
_آه يا إلهي..نبيل ..أهذا أنت؟
أجابها بخشونة دون أن يرفع رأسه عن أوراقه :
_نعم إنه أنا كما ترين!
امتدت يد ذات بشرة بيضاء فوق أوراقه ترتدي خاتما ثمينا،رفع نبيل رأسه بصعوبة عابسا في وجه المرأة الخمسينية الجميلة وهو يصافحها ببرود،خلعت عفاف نظارتها بخفة واسترسلت قائلة:
_يحق لك ألا تتعرف عليّ..إنها ثلاثون سنة وهي أكثر من كافية لتفعل بي الأفاعيل !
ارتمت على أقرب كرسي وتابعت بحماس وهي تتأمله بشغف :
_أرى أنك أيضا تغيرت..شعرك صار رماديا وأصلع الجوانب،وكتفاك أظنهما تهدلتا ووجهك..
قاطعها نبيل بنفاذ صبر وهو يقلب إطار صورة فتاة تمسك باقة زهر وسط حقل مكسو بالعشب والأزهار.
_عفاف ! توقفي
صاحت هذه الأخيرة بابتهاج:
_الحمد لله أنك عرفتني،في الواقع بحثت عنك طويلا و..
فترت وتيرة حماسها وخالط نبرتها شيء من الحزن وهمست :
_ماما توفيت منذ أسبوع !
تمتم الرجل بكلمة مواساة باقتضاب وعقد ساعديه أمام صدره وتابعت عفاف:
_في لحظاتها الأخيرة أخبرتني أمي أمرا،وأعتقد أنه من حقك أن تعرف ..مازلت تذكر ذاك اليوم حين صادفتُك رفقة والدتك تغادر بيتنا،اعترفت لي والدتي منذ أيام أنها رفضت خطبتك لي،لأنها كانت ترى أني سأكون سعيدة رفقة ابن خالتي في اروبا..
راقبت عفاف رد فعله إلا أنه ظل صامتا متجهما،تمتمت بخفوت :
_والدتي سامحها الله ادعت في ذلك اليوم أنكما جئتما لدعوتنا إلى حفل زواجك !
رفع نبيل حاجبيه بسخرية وسألها: أحقا؟؟
_نعم صحيح وغضبتُ كثيرا وحزنتُ أكثر وساعد ذلك في اقناعها لي فتزوجتُ ابن خالتي سريعا ورحلت معه الى هناك..حيث أنجبت طفلتي الوحيدة وبعد أن شبت عن الطوق انفصلت عن والدها،كما ترى.. لا شيء يجبرني على الاستمرار سوى أن أحبه وانا عجزت عن ذلك..
رفع نبيل معصمه متفحصا ساعته وقاطعها متهكما :
_أخبريني عفاف..هل كانت والدتك تعاني الخرف أقصد الزهايمر؟
صاحت عفاف نافية الأمر :
_ لا بل كانت تعاني مرض السكري والضغط و..
صمتت فجأة وسألته بشك :
_هل تقصد أنها..
قاطعها بصرامة ؛
_نعم تماما..لم يحدث ذلك قط،لا أنكر أنك كنت لطيفة وجميلة وفي ذلك الحين كنت مهووسا بالفوتوغرافيا،لذلك كنت أحب التقاط الصور لك فوجهك كان ملائكيا وضحكتك طفولية ..
أخفضت رأسها وغمغمت باستياء :
_آه يا إلهي ..حسنا أعتذر..يا لي من سخيفة ! سامحك الله يا أمي،جعلتِ مني أضحوكة في هذا العمر..حسنا وداعا..
هبت واقفة وقد عادت إليها روحها المرحة من جديد بينما خبا بريق عينيها وهي تحمل حقيبة يدها المفتوحة وأسقطت صورة قديمة دون أن تنتبه وغادرت المكان على عجل.
بعد لحظات اقتحم مكتبه صديقه هشام وسرعان ما التقط صورة أسفل قدميه وسأله مستغربا :
_هذه الصورة أليست نسخة للتي لديك فوق مكتبك؟
أومأ نبيل موافقا وهو يتفرس فيها وقال:
_قبل أن يتدفق علي شلال أسئلتك نعم إنها هي..ولعلمك اليوم دققت المسمار الأخير في نعش الحب القديم..هكذا أفضل !
صاح صديقه باستنكار:
_محال أن أصدق أمرا كهذا،منذ زمن وأنت تغني أنشودة الحب والحنين والمرور من أمام البيت العتيق و..
أوقفه نبيل بإشارة غاضبة من يده :
_ربما لن تفهم ما سأقوله لك لكني سأخبرك وينتهي الموضوع هنا قبل أن نعرج الى المقهى.
_الحب في رأيي مثل عصفور جميل يتسلل إلى كوخ صغير ويحيله إلى قصر سعيد، وحين يطير بعيدا عنه يصبح مجرد بيت مهجور، مهما تنمو حوله الأزهار ..مهما تغرد على شرفاته البلابل،مهما تتسلل إليه خيوط الشمس..سيبقى مجرد بناء خرب..صحيح أنها سكنت قلبي في وقت ما حين كنت شابا لكنها حين تزوجتْ تصدعت جدران قلبي وكُسر..وتخطيت الأمر وتزوجت وأنجبت.. لكن قلبي المقفر بقي على حاله..
أومأ هشام رأسه مواقفا صديقه الذي رفع حاجبيه وصاح مستغربا:
_لحظات فقط يا صديقي قضتها عفاف في مكتبي أشاعت فيها جوا من البهجة والسعادة ،لحظات فقط خيّل إليّ أنها لم تعد لوحدها بل عادت إليّ الحياة بمباهجها الحلوة..
اقترب منه هشام وربّت على كتفه بعطف..
قام نبيل من مقعده وهزّ كتفيه بحسرة وغمغم قائلا :
_أنا الآن رجل على مشارف الستين إن أنا نزعت سدّادة القمقم قفز منه عفريت الحب ثانية، ليحملني في سجادته السحرية ويلقي بي في أتون العذاب..ذاك العفريت الخائب ..الذي لا يملك من أمره ولا أمري شيئا !
باختصار تلك كانت طفلتي ولها دوما مكان في قلبي لكن لا مكان لها في حياتي!
تنهد بمرارة وهو يغادر مكتبه قائلا:
_دعك من هذه الحكاية الأليمة يا صديقي ما عاد وقت ولا مجال للحب ،هيا بنا لنثرثر بعيدا عن هنا !
بقلم حنين فيروز
13/08/2018
بقلم حنين فيروز
_آه يا إلهي..نبيل ..أهذا أنت؟
أجابها بخشونة دون أن يرفع رأسه عن أوراقه :
_نعم إنه أنا كما ترين!
امتدت يد ذات بشرة بيضاء فوق أوراقه ترتدي خاتما ثمينا،رفع نبيل رأسه بصعوبة عابسا في وجه المرأة الخمسينية الجميلة وهو يصافحها ببرود،خلعت عفاف نظارتها بخفة واسترسلت قائلة:
_يحق لك ألا تتعرف عليّ..إنها ثلاثون سنة وهي أكثر من كافية لتفعل بي الأفاعيل !
ارتمت على أقرب كرسي وتابعت بحماس وهي تتأمله بشغف :
_أرى أنك أيضا تغيرت..شعرك صار رماديا وأصلع الجوانب،وكتفاك أظنهما تهدلتا ووجهك..
قاطعها نبيل بنفاذ صبر وهو يقلب إطار صورة فتاة تمسك باقة زهر وسط حقل مكسو بالعشب والأزهار.
_عفاف ! توقفي
صاحت هذه الأخيرة بابتهاج:
_الحمد لله أنك عرفتني،في الواقع بحثت عنك طويلا و..
فترت وتيرة حماسها وخالط نبرتها شيء من الحزن وهمست :
_ماما توفيت منذ أسبوع !
تمتم الرجل بكلمة مواساة باقتضاب وعقد ساعديه أمام صدره وتابعت عفاف:
_في لحظاتها الأخيرة أخبرتني أمي أمرا،وأعتقد أنه من حقك أن تعرف ..مازلت تذكر ذاك اليوم حين صادفتُك رفقة والدتك تغادر بيتنا،اعترفت لي والدتي منذ أيام أنها رفضت خطبتك لي،لأنها كانت ترى أني سأكون سعيدة رفقة ابن خالتي في اروبا..
راقبت عفاف رد فعله إلا أنه ظل صامتا متجهما،تمتمت بخفوت :
_والدتي سامحها الله ادعت في ذلك اليوم أنكما جئتما لدعوتنا إلى حفل زواجك !
رفع نبيل حاجبيه بسخرية وسألها: أحقا؟؟
_نعم صحيح وغضبتُ كثيرا وحزنتُ أكثر وساعد ذلك في اقناعها لي فتزوجتُ ابن خالتي سريعا ورحلت معه الى هناك..حيث أنجبت طفلتي الوحيدة وبعد أن شبت عن الطوق انفصلت عن والدها،كما ترى.. لا شيء يجبرني على الاستمرار سوى أن أحبه وانا عجزت عن ذلك..
رفع نبيل معصمه متفحصا ساعته وقاطعها متهكما :
_أخبريني عفاف..هل كانت والدتك تعاني الخرف أقصد الزهايمر؟
صاحت عفاف نافية الأمر :
_ لا بل كانت تعاني مرض السكري والضغط و..
صمتت فجأة وسألته بشك :
_هل تقصد أنها..
قاطعها بصرامة ؛
_نعم تماما..لم يحدث ذلك قط،لا أنكر أنك كنت لطيفة وجميلة وفي ذلك الحين كنت مهووسا بالفوتوغرافيا،لذلك كنت أحب التقاط الصور لك فوجهك كان ملائكيا وضحكتك طفولية ..
أخفضت رأسها وغمغمت باستياء :
_آه يا إلهي ..حسنا أعتذر..يا لي من سخيفة ! سامحك الله يا أمي،جعلتِ مني أضحوكة في هذا العمر..حسنا وداعا..
هبت واقفة وقد عادت إليها روحها المرحة من جديد بينما خبا بريق عينيها وهي تحمل حقيبة يدها المفتوحة وأسقطت صورة قديمة دون أن تنتبه وغادرت المكان على عجل.
بعد لحظات اقتحم مكتبه صديقه هشام وسرعان ما التقط صورة أسفل قدميه وسأله مستغربا :
_هذه الصورة أليست نسخة للتي لديك فوق مكتبك؟
أومأ نبيل موافقا وهو يتفرس فيها وقال:
_قبل أن يتدفق علي شلال أسئلتك نعم إنها هي..ولعلمك اليوم دققت المسمار الأخير في نعش الحب القديم..هكذا أفضل !
صاح صديقه باستنكار:
_محال أن أصدق أمرا كهذا،منذ زمن وأنت تغني أنشودة الحب والحنين والمرور من أمام البيت العتيق و..
أوقفه نبيل بإشارة غاضبة من يده :
_ربما لن تفهم ما سأقوله لك لكني سأخبرك وينتهي الموضوع هنا قبل أن نعرج الى المقهى.
_الحب في رأيي مثل عصفور جميل يتسلل إلى كوخ صغير ويحيله إلى قصر سعيد، وحين يطير بعيدا عنه يصبح مجرد بيت مهجور، مهما تنمو حوله الأزهار ..مهما تغرد على شرفاته البلابل،مهما تتسلل إليه خيوط الشمس..سيبقى مجرد بناء خرب..صحيح أنها سكنت قلبي في وقت ما حين كنت شابا لكنها حين تزوجتْ تصدعت جدران قلبي وكُسر..وتخطيت الأمر وتزوجت وأنجبت.. لكن قلبي المقفر بقي على حاله..
أومأ هشام رأسه مواقفا صديقه الذي رفع حاجبيه وصاح مستغربا:
_لحظات فقط يا صديقي قضتها عفاف في مكتبي أشاعت فيها جوا من البهجة والسعادة ،لحظات فقط خيّل إليّ أنها لم تعد لوحدها بل عادت إليّ الحياة بمباهجها الحلوة..
اقترب منه هشام وربّت على كتفه بعطف..
قام نبيل من مقعده وهزّ كتفيه بحسرة وغمغم قائلا :
_أنا الآن رجل على مشارف الستين إن أنا نزعت سدّادة القمقم قفز منه عفريت الحب ثانية، ليحملني في سجادته السحرية ويلقي بي في أتون العذاب..ذاك العفريت الخائب ..الذي لا يملك من أمره ولا أمري شيئا !
باختصار تلك كانت طفلتي ولها دوما مكان في قلبي لكن لا مكان لها في حياتي!
تنهد بمرارة وهو يغادر مكتبه قائلا:
_دعك من هذه الحكاية الأليمة يا صديقي ما عاد وقت ولا مجال للحب ،هيا بنا لنثرثر بعيدا عن هنا !
بقلم حنين فيروز
13/08/2018
بقلم حنين فيروز