نشرت جريدة الجريدة الكويتية مقالا للدكتور مصطفى عطية تحت عنوان : الحداثة واتجاهاتها ( تأصيل معرفي ) على هذا الرابط : http://aljarida.com/2012/03/05/2012451011/
وإليكم نص المقال :
للحداثة أثر كبير في تطوير التقنيات الجمالية والشكلانية، ورغم ذلك فهي مصطلح إشكالي متعدد الأوجه، لاسيما حين يتطرق الحديث إلى الجرأة في التجديد، وإعادة بناء جميع مناحي الحياة، من بينها الاقتصادية والاجتماعية.
(1)
نشأ مصطلح الحداثة Modernism في مجمله من مجموعة من المتناقضات ضد ما هو قديم. إن الحداثة تحمل اتجاهين: فمعنى أن نكون حداثيين أن نجد أنفسنا في مناخ يعدنا بالمغامرة والقوة والبهجة والنماء وتغيير أنفسنا والعالم. وفي الوقت نفسه يهددنا بتدمير كل ما لدينا، كل ما نعرفه، كل ما نحن عليه. إن المناخات الحديثة تختصر كل الحدود الجغرافية والعرقية، حدود الطبقة والقومية، حدود الدين والايديولوجيا، بهذا المعنى، يمكن أن تأتي الحداثة لتجمع البشرية كلها في وحدة، لكن هذه الوحدة وحدة إشكالية، هي وحدة اللاوحدة، لأنها تضعنا في معترك التفكك الدائم والتجدد، من الصراع إلى التضاد، من الغموض والمعاناة.
هذان الاتجاهان ليسا متعارضين، فالمغامرة والتغيير والتجديد، تعني في ما تعنيه الثورة على السابق، والتمرد على الموروث، ورفض بعض التقاليد، ونبذ قيم متوارثة يمكن أن تعوق التقدم، وبالطبع قد تكون هناك مغالاة، ونزعات شديدة التطرف في نقض التراث، وهدمه، ورفض الدين.
(2)
جاءت الحداثة متواكبة مع متغيرات اقتصادية وسياسية وديمغرافية غزت العالم الحديث، فالانفجارات السكانية الهائلة فصلت ملايين الناس عما اعتاده أسلافهم، ودفعتهم دفعا إلى أشكال جديدة من الحياة في العالم كله؛ كذلك النمو المدني السريع والعنيف، وتطور أساليب الاتصال الجماهيري، ونشوء الدول القومية القوية والمتزايدة التي تبنى وتعمل بطريقة بيروقراطية، وتسعى دائما إلى بسط نفوذها، وهذا ما يدفع البشر إلى الانفعال بالتحديث وتغيير العالم، وابتكار المزيد من الرؤى والأفكار، وقد مرت بثلاث مراحل منذ القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، كانت المرحلتان الأوليان تمثلان بدايات المفاهيم والثورة وظهور الوعي الحديث، وفي المرحلة الثالثة، التي تبدأ مع مطلع القرن العشرين، حيث تتحقق انتصارات مشهودة في الفن والفكر، ومن ناحية أخرى يتسع الجمهور الحديث ويتبعثر في أجزاء عديدة، فتفقد فكرة الحداثة، التي يتم إدراكها بطرائق جزئية متعددة، الكثير من حيويتها ورنينها وعمقها، وتفقد قدرتها على تنظيم حياة البشر ومنحها معنى، ونتيجة ذلك كله، نجد أنفسنا اليوم وسط العصر الحديث الذي أضاع صلته بجذور حداثته.
(3)
على الصعيد الفني فإن الحداثة تعني السعي إلى إنشاء فن حديث يعالج به أدواء العالم الحديث، ويصحح مساره ولا يشارك فيه، وهي إشارة موضوعية محايدة إلى الفن كتعبير وكأسلوب في استخدام اللغة، ودرجة من الغموض تفوق توقعات القارئ العادي، ومشاعره هي أيضا اتجاه غير شعبي قاصر على نخبة معينة، وقد ظهرت في نزعات فنية عديدة، منها النزعة المستقبلية والدادية والسريالية والتكعيبية، وهي عملية جدلية منظمة ودينامية لا تحدها حدود، وفيها استخفاف بالعامة والقذارة والشارع، كما أن لها وجودا منذ بدء التاريخ متمثلة في الاكتفاء الذاتي للفن وفي الصمت التام وفي النزعة العبثية العدمية، فهي ثورة تقنية محافظة خاصة بالطبقات العليا، وبدت صورتها السياسية المعاصرة في الثورات التحديثية التي قام بها لينين والاشتراكية الشمولية التي آمن بها ماو، وفي الجدول المقارن بين الحداثة وما بعدها الذي قدمه إيهاب حسن، بين فيه سمات الحداثة، ومنها الشكل المتماسك والمغلق، ومناقشة ما وراء الطبيعة، والنظام والعقلانية، والحسم والسمو، والالتزام بحدود الجنس الأدبي، وتقديم تفسير أو قراءة له، وبناء السرد الروائي كقصة رئيسية، والعمل المتكامل فنيا وغير ذلك. ورأى إيهاب حسن أن الحداثة متمحورة، وتضم تيارات فرعية تجمل في مصطلحات مثل: الابتداع والتعددية والانتقائية والمسخ والتميز.
(4)
في التعريف العربي لمصطلح «حداثة» نجده: «لغة: أول الأمر وابتداؤه، وجدّه (أي) اتيان بالشيء الذي لم يؤت بمثله، من قبل، ويتحرر من إسار المحاكاة والنقل والاقتباس، واجترار القديم، وقد تتمثل الحداثة في الأسلوب أو في المضمون أو في الاثنين معا، فيكون صاحبها مبدعا وخالق مذهب جديد مطبوع بسمته المميزة»، ومن المحقق أن الحداثة التي تميزت بها فترة الستينيات قد أسهمت إسهاما فاعلا في تمهيد الطريق نحو تبلور تقنيات وأشكال جديدة.
وفي مفهوم آخر فإن الجدة هي «الحداثة التي تعني نوعا من القيامة الدائمة والفتوة الأزلية المرتبطة بمثل عليا».
يشير هذان المفهومان إلى أن الحداثة لها أثر كبير في تطوير التقنيات الجمالية والشكلانية في الأدب العربي المعاصر، لكنهما أغفلا الرؤية الفكرية والفلسفية وكيفية تلقي الحداثة لدى الأدباء العرب، وتفاعلهم معها في إبداعاتهم، كما اشتملا على عمومية الطرح، وثورية الرؤية، التي يمكن أن تشمل أزمنة عديدة.
وهذا ما نجده بعمق معرفي عند أحد أقطاب الحداثة الشعرية، وهو الشاعر يوسف الخال الذي يقرر أن الحداثة: انقطاع عن النقل أيا كان مصدره، وممارسة الخلق، وأن يصدر الخلق عن الذات الواقعية الحية، التي تمتلك وعيا لفرادتها وخصوصيتها في العالم، وينبغي أن تكون الذات المبدعة على مستوى من الثقافة يداني خلاصة التجربة الإنسانية كلها، بما يجعلها ذات موقف كياني من الإنسان والوجود، وتنتج إبداعا خاصا في بيئته وعلاماته.
(5)
إن الحداثة تشكل انقطاعا غير مسبوق في تقاليد التاريخ الأدبي للحضارة الغربية، فلم تعد موضوعات الماضي الأدبي وصلاته الوثيقة بالقيم الاجتماعية والفكرية تحدد الحاضر، بل حل محلها موقف نقدي حاد، منطلق من الوعي الفني الخالص للذات المبدعة، الذي يتكون عالمه من صور حسية وعلامات ملتبسة، لاختراع واقع مواز جديد.
وواضح أن هذا الوعي المعرفي ناتج عن التأثر بالحداثة الغربية، التي جعلت المبدع يقترب من مصاف الأنبياء، ويقف بذاته في مواجهة الكون، ويعيد قراءة الواقع، ليشيد عالما إبداعيا جديدا، في قطيعة مبدئية مع الموروث
(( منقووول ))
وإليكم نص المقال :
للحداثة أثر كبير في تطوير التقنيات الجمالية والشكلانية، ورغم ذلك فهي مصطلح إشكالي متعدد الأوجه، لاسيما حين يتطرق الحديث إلى الجرأة في التجديد، وإعادة بناء جميع مناحي الحياة، من بينها الاقتصادية والاجتماعية.
(1)
نشأ مصطلح الحداثة Modernism في مجمله من مجموعة من المتناقضات ضد ما هو قديم. إن الحداثة تحمل اتجاهين: فمعنى أن نكون حداثيين أن نجد أنفسنا في مناخ يعدنا بالمغامرة والقوة والبهجة والنماء وتغيير أنفسنا والعالم. وفي الوقت نفسه يهددنا بتدمير كل ما لدينا، كل ما نعرفه، كل ما نحن عليه. إن المناخات الحديثة تختصر كل الحدود الجغرافية والعرقية، حدود الطبقة والقومية، حدود الدين والايديولوجيا، بهذا المعنى، يمكن أن تأتي الحداثة لتجمع البشرية كلها في وحدة، لكن هذه الوحدة وحدة إشكالية، هي وحدة اللاوحدة، لأنها تضعنا في معترك التفكك الدائم والتجدد، من الصراع إلى التضاد، من الغموض والمعاناة.
هذان الاتجاهان ليسا متعارضين، فالمغامرة والتغيير والتجديد، تعني في ما تعنيه الثورة على السابق، والتمرد على الموروث، ورفض بعض التقاليد، ونبذ قيم متوارثة يمكن أن تعوق التقدم، وبالطبع قد تكون هناك مغالاة، ونزعات شديدة التطرف في نقض التراث، وهدمه، ورفض الدين.
(2)
جاءت الحداثة متواكبة مع متغيرات اقتصادية وسياسية وديمغرافية غزت العالم الحديث، فالانفجارات السكانية الهائلة فصلت ملايين الناس عما اعتاده أسلافهم، ودفعتهم دفعا إلى أشكال جديدة من الحياة في العالم كله؛ كذلك النمو المدني السريع والعنيف، وتطور أساليب الاتصال الجماهيري، ونشوء الدول القومية القوية والمتزايدة التي تبنى وتعمل بطريقة بيروقراطية، وتسعى دائما إلى بسط نفوذها، وهذا ما يدفع البشر إلى الانفعال بالتحديث وتغيير العالم، وابتكار المزيد من الرؤى والأفكار، وقد مرت بثلاث مراحل منذ القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، كانت المرحلتان الأوليان تمثلان بدايات المفاهيم والثورة وظهور الوعي الحديث، وفي المرحلة الثالثة، التي تبدأ مع مطلع القرن العشرين، حيث تتحقق انتصارات مشهودة في الفن والفكر، ومن ناحية أخرى يتسع الجمهور الحديث ويتبعثر في أجزاء عديدة، فتفقد فكرة الحداثة، التي يتم إدراكها بطرائق جزئية متعددة، الكثير من حيويتها ورنينها وعمقها، وتفقد قدرتها على تنظيم حياة البشر ومنحها معنى، ونتيجة ذلك كله، نجد أنفسنا اليوم وسط العصر الحديث الذي أضاع صلته بجذور حداثته.
(3)
على الصعيد الفني فإن الحداثة تعني السعي إلى إنشاء فن حديث يعالج به أدواء العالم الحديث، ويصحح مساره ولا يشارك فيه، وهي إشارة موضوعية محايدة إلى الفن كتعبير وكأسلوب في استخدام اللغة، ودرجة من الغموض تفوق توقعات القارئ العادي، ومشاعره هي أيضا اتجاه غير شعبي قاصر على نخبة معينة، وقد ظهرت في نزعات فنية عديدة، منها النزعة المستقبلية والدادية والسريالية والتكعيبية، وهي عملية جدلية منظمة ودينامية لا تحدها حدود، وفيها استخفاف بالعامة والقذارة والشارع، كما أن لها وجودا منذ بدء التاريخ متمثلة في الاكتفاء الذاتي للفن وفي الصمت التام وفي النزعة العبثية العدمية، فهي ثورة تقنية محافظة خاصة بالطبقات العليا، وبدت صورتها السياسية المعاصرة في الثورات التحديثية التي قام بها لينين والاشتراكية الشمولية التي آمن بها ماو، وفي الجدول المقارن بين الحداثة وما بعدها الذي قدمه إيهاب حسن، بين فيه سمات الحداثة، ومنها الشكل المتماسك والمغلق، ومناقشة ما وراء الطبيعة، والنظام والعقلانية، والحسم والسمو، والالتزام بحدود الجنس الأدبي، وتقديم تفسير أو قراءة له، وبناء السرد الروائي كقصة رئيسية، والعمل المتكامل فنيا وغير ذلك. ورأى إيهاب حسن أن الحداثة متمحورة، وتضم تيارات فرعية تجمل في مصطلحات مثل: الابتداع والتعددية والانتقائية والمسخ والتميز.
(4)
في التعريف العربي لمصطلح «حداثة» نجده: «لغة: أول الأمر وابتداؤه، وجدّه (أي) اتيان بالشيء الذي لم يؤت بمثله، من قبل، ويتحرر من إسار المحاكاة والنقل والاقتباس، واجترار القديم، وقد تتمثل الحداثة في الأسلوب أو في المضمون أو في الاثنين معا، فيكون صاحبها مبدعا وخالق مذهب جديد مطبوع بسمته المميزة»، ومن المحقق أن الحداثة التي تميزت بها فترة الستينيات قد أسهمت إسهاما فاعلا في تمهيد الطريق نحو تبلور تقنيات وأشكال جديدة.
وفي مفهوم آخر فإن الجدة هي «الحداثة التي تعني نوعا من القيامة الدائمة والفتوة الأزلية المرتبطة بمثل عليا».
يشير هذان المفهومان إلى أن الحداثة لها أثر كبير في تطوير التقنيات الجمالية والشكلانية في الأدب العربي المعاصر، لكنهما أغفلا الرؤية الفكرية والفلسفية وكيفية تلقي الحداثة لدى الأدباء العرب، وتفاعلهم معها في إبداعاتهم، كما اشتملا على عمومية الطرح، وثورية الرؤية، التي يمكن أن تشمل أزمنة عديدة.
وهذا ما نجده بعمق معرفي عند أحد أقطاب الحداثة الشعرية، وهو الشاعر يوسف الخال الذي يقرر أن الحداثة: انقطاع عن النقل أيا كان مصدره، وممارسة الخلق، وأن يصدر الخلق عن الذات الواقعية الحية، التي تمتلك وعيا لفرادتها وخصوصيتها في العالم، وينبغي أن تكون الذات المبدعة على مستوى من الثقافة يداني خلاصة التجربة الإنسانية كلها، بما يجعلها ذات موقف كياني من الإنسان والوجود، وتنتج إبداعا خاصا في بيئته وعلاماته.
(5)
إن الحداثة تشكل انقطاعا غير مسبوق في تقاليد التاريخ الأدبي للحضارة الغربية، فلم تعد موضوعات الماضي الأدبي وصلاته الوثيقة بالقيم الاجتماعية والفكرية تحدد الحاضر، بل حل محلها موقف نقدي حاد، منطلق من الوعي الفني الخالص للذات المبدعة، الذي يتكون عالمه من صور حسية وعلامات ملتبسة، لاختراع واقع مواز جديد.
وواضح أن هذا الوعي المعرفي ناتج عن التأثر بالحداثة الغربية، التي جعلت المبدع يقترب من مصاف الأنبياء، ويقف بذاته في مواجهة الكون، ويعيد قراءة الواقع، ليشيد عالما إبداعيا جديدا، في قطيعة مبدئية مع الموروث
(( منقووول ))