فئران..وضفدعة..!
قفز الصبية وبدأوا بالصراخ و الهتاف عند رؤيتهم لشيخ قادم نحوهم ..لقد عاد جدي ..! كانت علامات الغضب بادية عليه..دخل الجد مكفهر الوجه و صرخ في وجه أحد الصبية : أين أمك؟وعلى الفور خرجت سيدتان من البهو وقالت إحداهما في جزع..لماذا عدت يا والدي أهناك خطب ما؟ أجابها الشيخ ساخطا : بالطبع هناك خطب..أردف بعصبية : لقد سُرقت نقودي..التفت المرأتان حول الجد محاولتين تهدئة ثائرته وقالت ابنته الكبرى : إجلس يا أبي واسترح قليلا ثم أخبرنا كيف سُرقت نقودك..جلس الأب وهو يتمتم : اللعنة ! أنا أكره المدينة لكثرة اللصوص فيها،لقد أصبحوا أكثر عددا من الفئران..قالت ابنته الصغرى : متى اكتشفت ضياع محفظتك يا أبي؟أجابها حانقا : ومن قال لك أني أضعت المحفظة..؟وأخرجها من جيب جلبابه وهو يلوح بها..وتابع : هاهي ذي لا تزال معي، لقد ضاعت مني مائة درهم فقط..سألته ابنته الكبرى في حيرة : ربما سقطت منك عندما فتحتها، لتدفع ثمن تذكرة الباص؟ قال لها بضيق : لا لقد اكتشفت ضياعها قبل وصولي إلى المحطة ،لقد مررت بجانب أولئك الباعة.. الذين يعرضون سلعهم على الرصيف ..وكنت أهم بشراء قارورة عطر... لوالدتكما..تابع بغضب عندما لمح طيف ابتسامتين على وجهي ابنتيه وتبادلهما النظرات خلسة..أقصد قارورة الدواء ..ذلك المرهم ذو الرائحة النفاذة الذي ينقص من حدة آلام الروماتيزم..قاطعته ابنته الكبرى : نعم أعرفه يا أبي! تنحنح الشيخ وتابع : وعندما أردت أن أدفع ثمن الدواء، فوجئت باختفاء مائة درهم..صاحت ابنته الصغرى : والمائة الأخرى ..؟ أجابها متجهما..لا تزال في المحفظة..قالت الكبرى : عجيب هذا الأمر يا أبي ! كيف تسقط منك مائة درهم،وتبقى الأخرى في مكانها؟التفت إليها غاضبا: لم يسقط مني شيء، لقد امتدت إليها يد أثيمة..وتابع متحاشيا النظر إلى ابنتيه ..ربما سُرقت مني هنا..! صاحت المرأتان بذهول وبصوت واحد : أتتهمنا بالسرقة يا أبي..؟أشاح بوجهه قائلا: لا أدري ..قالت الابنة الصغرى باستحياء وحزن : وهل يعقل أن نسرق منك ما منحناك إياه عن طيب خاطر يا أبي..؟ أطرق قليلا وأجابها حائرا : حقا لست أدري .. كان أحفاده يلعبون في فناء المنزل ويصيحون ...قذف أحدهم الكرة فطارت تحت قدمي الشيخ الذي ما إن رأى حفيده قادما ليلتقطها حتى قال : لابد أن أحد هؤلاء الأشقياء قد فعلها ..توقف الحفيد برهة،ثم قال وهو يلهث : ماذا تقصد يا جدي..؟ صاحت أم الصبي باستنكار : غير معقول يا أبي..تمتم الشيخ بخفوت : إنهم يسرقون الحلوى قبل أن أوزعها عليهم ...عاد الصبي ليلعب رفقة ابناء خالته التي جاءت لترى والدها،ولتجنبه مشقة زيارتها هي الأخرى،ولا سيما أنها تقطن بعيدا عن أختها..
هم الشيخ بالانصراف، لكن ابنته الكبرى نظرت إلى أختها نظرة ذات مغزى وقالت : ابحثي عنها في الأريكة،وتحتها لقد كان أبي جالسا هناك،لابد أنها سقطت منه سهوا..ومرت لحظات وعادت أختها وهي تلوح بورقة مالية... وقالت : لقد وجدتها بجانب الأريكة يا أبي! ثم دستها في جيبه ..أجابها متبرما وهو يهم بالانصراف : لقد اصبحت المائة درهم مثل الضفدعة ! تقفز من محفظتي و تنام تحت الأريكة! رافقت المرأتان والدهما إلى الباب وهما تتبادلان نظرات الحزن لما أصاب والدهما من خرف..!
وصل الشيخ إلى المحطة، وجلس على المقعد منتظرا مرور الحافلة،وهو يضع رجلا فوق الأخرى وعلامات الضيق بادية على وجهه.. وغرق في تفكيره ..وبعد لحظات توقف صبي أمامه...وجذبه من كمه،محاولا تنبيهه قائلا : سيدي سيدي..! انتفض الشيخ ونهر الصبي : أغرب عن وجهي أيها اللص الصغير..مدينة لعينة الكل يمتهن فيها السرقة..! ذعر الصبي وتراجع إلى الوراء ثم رمى لفافة تحت قدمي الشيخ وفر هاربا..! انحنى الشيخ وصاح : عد أيها الصبي..! التقط اللفافة المغطاة بورق الجرائد و فتحهاوشهق حين رأى قفطانا أحمر..فضرب جبينه بكفه و قهقه عاليا حتى التفتوا إليه المارة ..نظر إلى الرجل الجالس بجانبه وقال : لقد اشتريت هذا القفطان لزوجتي منذ ساعة من ذاك المحل وأشار إلى نهاية الشارع.. لكنه كان طويلا وأخذته إلى الخياط المجاور له لتعديل مقاسه ..و طلب مني أن أعود بعد نصف ساعة..فأوصيته ألا يتجاوزها لأني أخشى أن أفوت موعد الحافلة ..وتخيل أني نسيت الأمر برمته..اجابه الرجل باسما: جلّ من لا يسهو..لاحت غيمة من الحزن على قسمات الشيخ، حين تذكر الاتهامات اللتي ألقاها جزافا في وجهي ابنتيه..ثم ما لبث أن ابتسم وهو يحدث نفسه .. يا لهما من ابنتين بارتين ! لقد عوضتاني ما ضاع مني دون أن تحرجاني..!
تأبط الشيخ اللفافة عندما رأى الحافلة قادمة،وفكر وهو يصعد إليها ..حتما ستسعد زوجتي بهذا القفطان الأحمر،إنه أحب الألوان إليها وستشع عيونها بالسعادة...
وزفر بارتياح عندما ارتمى على أقرب كرسي وهو يتمتم : يا له من يوم عصيب..!
حنين فيروز
قفز الصبية وبدأوا بالصراخ و الهتاف عند رؤيتهم لشيخ قادم نحوهم ..لقد عاد جدي ..! كانت علامات الغضب بادية عليه..دخل الجد مكفهر الوجه و صرخ في وجه أحد الصبية : أين أمك؟وعلى الفور خرجت سيدتان من البهو وقالت إحداهما في جزع..لماذا عدت يا والدي أهناك خطب ما؟ أجابها الشيخ ساخطا : بالطبع هناك خطب..أردف بعصبية : لقد سُرقت نقودي..التفت المرأتان حول الجد محاولتين تهدئة ثائرته وقالت ابنته الكبرى : إجلس يا أبي واسترح قليلا ثم أخبرنا كيف سُرقت نقودك..جلس الأب وهو يتمتم : اللعنة ! أنا أكره المدينة لكثرة اللصوص فيها،لقد أصبحوا أكثر عددا من الفئران..قالت ابنته الصغرى : متى اكتشفت ضياع محفظتك يا أبي؟أجابها حانقا : ومن قال لك أني أضعت المحفظة..؟وأخرجها من جيب جلبابه وهو يلوح بها..وتابع : هاهي ذي لا تزال معي، لقد ضاعت مني مائة درهم فقط..سألته ابنته الكبرى في حيرة : ربما سقطت منك عندما فتحتها، لتدفع ثمن تذكرة الباص؟ قال لها بضيق : لا لقد اكتشفت ضياعها قبل وصولي إلى المحطة ،لقد مررت بجانب أولئك الباعة.. الذين يعرضون سلعهم على الرصيف ..وكنت أهم بشراء قارورة عطر... لوالدتكما..تابع بغضب عندما لمح طيف ابتسامتين على وجهي ابنتيه وتبادلهما النظرات خلسة..أقصد قارورة الدواء ..ذلك المرهم ذو الرائحة النفاذة الذي ينقص من حدة آلام الروماتيزم..قاطعته ابنته الكبرى : نعم أعرفه يا أبي! تنحنح الشيخ وتابع : وعندما أردت أن أدفع ثمن الدواء، فوجئت باختفاء مائة درهم..صاحت ابنته الصغرى : والمائة الأخرى ..؟ أجابها متجهما..لا تزال في المحفظة..قالت الكبرى : عجيب هذا الأمر يا أبي ! كيف تسقط منك مائة درهم،وتبقى الأخرى في مكانها؟التفت إليها غاضبا: لم يسقط مني شيء، لقد امتدت إليها يد أثيمة..وتابع متحاشيا النظر إلى ابنتيه ..ربما سُرقت مني هنا..! صاحت المرأتان بذهول وبصوت واحد : أتتهمنا بالسرقة يا أبي..؟أشاح بوجهه قائلا: لا أدري ..قالت الابنة الصغرى باستحياء وحزن : وهل يعقل أن نسرق منك ما منحناك إياه عن طيب خاطر يا أبي..؟ أطرق قليلا وأجابها حائرا : حقا لست أدري .. كان أحفاده يلعبون في فناء المنزل ويصيحون ...قذف أحدهم الكرة فطارت تحت قدمي الشيخ الذي ما إن رأى حفيده قادما ليلتقطها حتى قال : لابد أن أحد هؤلاء الأشقياء قد فعلها ..توقف الحفيد برهة،ثم قال وهو يلهث : ماذا تقصد يا جدي..؟ صاحت أم الصبي باستنكار : غير معقول يا أبي..تمتم الشيخ بخفوت : إنهم يسرقون الحلوى قبل أن أوزعها عليهم ...عاد الصبي ليلعب رفقة ابناء خالته التي جاءت لترى والدها،ولتجنبه مشقة زيارتها هي الأخرى،ولا سيما أنها تقطن بعيدا عن أختها..
هم الشيخ بالانصراف، لكن ابنته الكبرى نظرت إلى أختها نظرة ذات مغزى وقالت : ابحثي عنها في الأريكة،وتحتها لقد كان أبي جالسا هناك،لابد أنها سقطت منه سهوا..ومرت لحظات وعادت أختها وهي تلوح بورقة مالية... وقالت : لقد وجدتها بجانب الأريكة يا أبي! ثم دستها في جيبه ..أجابها متبرما وهو يهم بالانصراف : لقد اصبحت المائة درهم مثل الضفدعة ! تقفز من محفظتي و تنام تحت الأريكة! رافقت المرأتان والدهما إلى الباب وهما تتبادلان نظرات الحزن لما أصاب والدهما من خرف..!
وصل الشيخ إلى المحطة، وجلس على المقعد منتظرا مرور الحافلة،وهو يضع رجلا فوق الأخرى وعلامات الضيق بادية على وجهه.. وغرق في تفكيره ..وبعد لحظات توقف صبي أمامه...وجذبه من كمه،محاولا تنبيهه قائلا : سيدي سيدي..! انتفض الشيخ ونهر الصبي : أغرب عن وجهي أيها اللص الصغير..مدينة لعينة الكل يمتهن فيها السرقة..! ذعر الصبي وتراجع إلى الوراء ثم رمى لفافة تحت قدمي الشيخ وفر هاربا..! انحنى الشيخ وصاح : عد أيها الصبي..! التقط اللفافة المغطاة بورق الجرائد و فتحهاوشهق حين رأى قفطانا أحمر..فضرب جبينه بكفه و قهقه عاليا حتى التفتوا إليه المارة ..نظر إلى الرجل الجالس بجانبه وقال : لقد اشتريت هذا القفطان لزوجتي منذ ساعة من ذاك المحل وأشار إلى نهاية الشارع.. لكنه كان طويلا وأخذته إلى الخياط المجاور له لتعديل مقاسه ..و طلب مني أن أعود بعد نصف ساعة..فأوصيته ألا يتجاوزها لأني أخشى أن أفوت موعد الحافلة ..وتخيل أني نسيت الأمر برمته..اجابه الرجل باسما: جلّ من لا يسهو..لاحت غيمة من الحزن على قسمات الشيخ، حين تذكر الاتهامات اللتي ألقاها جزافا في وجهي ابنتيه..ثم ما لبث أن ابتسم وهو يحدث نفسه .. يا لهما من ابنتين بارتين ! لقد عوضتاني ما ضاع مني دون أن تحرجاني..!
تأبط الشيخ اللفافة عندما رأى الحافلة قادمة،وفكر وهو يصعد إليها ..حتما ستسعد زوجتي بهذا القفطان الأحمر،إنه أحب الألوان إليها وستشع عيونها بالسعادة...
وزفر بارتياح عندما ارتمى على أقرب كرسي وهو يتمتم : يا له من يوم عصيب..!
حنين فيروز