الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على محمَّد رسولِه وعبْدِه، وعلى آله وصحْبه من بعْدِه.
وبعد:
فهذه فوائدُ منثورةٌ قيدتُها؛ رجاء أن ينفعَ الله بها مقيدها، وكلَّ مَن اطلع عليها، وأن يجعلها ذُخرًا ليوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلْب سليم.
فائدة:
العمرُ في الدنيا قليل، والحياة في البرْزخ، وبعد البعْث طويلة جدًّا، بل هي الحياة الخالدة، ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، فينبغي على المرء أن يعجِّل بالعمل، ويَرْغَب في الآخرة الباقية، وينأى بنفسه وقلْبه عن الدنيا الفانية.
واعتبرْ بحال المختَبر قبلَ الاختبار، فإنَّه يذاكر ويحصِّل ويَجِدُّ؛ لأنه يعتقد قُربَ الاختبار، ولا يبالي بالتعب؛ لأنَّه يعلم أنَّ الراحة بعدَ الاختبار، فهو تعبٌ قليلٌ في سبيل راحة عظيمة كبيرة، والله المستعان.
فائدة:
((كُنْ في الدنيا كأنَّك غريب، أو عابر سبيل))[1]، فلا بدَّ لراغب الآخرة أن يعتبرَ بحالِ الغريب، أو عابرِ السبيل في شأنه كلِّه، وفي معاملته مع الناس، فإنَّه لا يقيم معهم إلا قليلاً، وفي مسْكنه، فإنَّه لا يُقيم فيها إلا يسيرًا، ورَيْثما يرتحل عنه، فلا يتكلَّف في العَيْش، شأنه في ذلك شأن عابرِ السبيل، ويكون هذا في شأنه كله؛ مستفاد من شرح ابن دقيق العيد على الأربعين النووية.
فائدة:
الاعتصامُ بكلام الأوائل - لا سيَّما في الأمور والمسائل التي حصَل فيه اللَّغط والغلط - من أعظم العواصمِ مِن القواصم، فهُم قد سَلِموا من الفِتنة بموتهم، والأحياءُ لا تؤمن عليهم الفتنة.
قد قال بعض السَّلف: "مَن كان مقتديًا فليقتدِ بمَن قد مات، فإنَّ الحي لا تُؤمَن عليه الفتنة"، نسأل الله السلامة والعافية.
فائدة:
على المرء أن يجتهدَ في إصلاح نفسِه، ومعرفة عيوبها والتبصر فيها، ولا يتكلَّم في عيوب غيره، إلاَّ لمصلحة ترجَّحت، وعلى قدْر تلك المصلحة، ولا يكون كمن يبصر القذاةَ في عين أخيه، ويَدَعُ الجِذع معترضًا في عينه!!
قال بعض السلف: أدركتُ بهذه المدينة أقوامًا لا عَيبَ لهم، فعابوا الناسَ فأظهر الله عيوبَهم، وعِيب عليهم، وأدركتُ أقوامًا لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس، فسَتَر الله عيوبهم، ولم تظهر.
فما أحوجَنا إلى هذا لا سيَّما في هذه الأعصار، في هذا الهرج والمرج! والله الموفِّق وحده.
فائدة:
فرَض الله سبحانه علينا الولاءَ لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراءَ من الشِّرْك والمشركين وأتباعهم.
ولا يخلو مسلِمٌ مِن ذنب أو خَلل، فينبغي أن يكون البراءُ منه على قدر الخَلل الظاهر على اختلاف أنواعِه، وأن يكون الولاء والحبُّ والنصرة، بقدر ما معَه مِن إيمان وإسلام، وهو – الإسلام
===================================================
ولا يَسْلَم من الوقوع في الخطأ ها هنا إلا مَن جرَّد التوحيد لله، وجرَّد الاتباع لرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ونحَّى نفسه وهواه، والناسَ وشعورَهم نحوَه، والله المسؤول العفو والمغفرة.
قاعدة:
ترْك الترتيب بيْن الخيرات مِن جملة الشُّرور.
قاعدة جليلة:
"البِرُّ فيما تَكْره، ليس فيما تحبّ".
فائدة:
لَمَّا كان الإنس والجن مخلوقين إمَّا إلى لجنة أو إلى نار، ولا سبيلَ غيرهما، كانت للعقيدة في الجنة والنار وإثباتهما كما وصفهما خالقُهما - عزَّ وجلَّ - وإثباتِ البعْث بعد الموت، والحسابِ المترتّب عليه الوصول إلى إحدى الدارين - أعظمُ الأثر، وكان هذا أصلاً عظيمًا تنبني عليه أشياءُ كثيرة في السُّلوك والعمل، وفي دعوة الناس إلى خالِقهم، وإخراجهم ممَّا هم فيه مِن الضياع والانحطاط، والغَفْلة والتِّيه، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
فائدة:
تحقيق الاستقامة يكون بتحقيق الإيمان بأسماء الله وصفاته - عزَّ وجلَّ - وخُذْ مثالاً صِفتي السمع والبصر وثمرات ذلك.
فإذا علم العبدُ وتحقَّق، واستحضر أنَّ الله سبحانَه يسمعه ويراه، هل يفعل ما يُغضِبه، ويترك ما يُرضيه، ولا يستحيي منه، ولا يجتهد في الوصول إلى مرضاته؟!
كلاَّ، بل يفعل كلَّ خير مما تتمُّ به الاستقامة؛ ولذلك قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112].
فكأنَّ الإيمان بأنه - سبحانه - بصيرٌ يُعِين على تحقيق الاستقامة، وهو كذلك إنْ شاء الله، نسأل الله الاستقامةَ على طريق نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم .
فائدة:
((ما عرفتُم مِن القرآن فاعملوا به، وما جهلتُم فردُّوه إلى عالمه))[2].
فيه: النهي عن معارضة آيات القرآن بعضها ببعض، والنهي عن التشبُّه بالكفَّار في هذا.
وفيه: الزجر عن ضدِّ هذا الأمر، وهو أنْ لا يسألوا مَن لا يعلم[3].
وقوله - تعالى -: ﴿ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ﴾ [التوبة: 69] فيه: أنه لا ينبغي الخوضُ فيما لا يَنْبني عليه عمل، بل هو يؤدِّي إلى الاختلاف والتناحُر، لا سيَّما في هذه الأعصار؛ مستفاد بعضُها من "اقتضاء الصراط المستقيم"؛ لابن تيمية.
فائدة جليلة:
أصل الدِّين في اتباع طريقة المرسَلين، فلا بدَّ من تكريس الجهود، وبذْل الأوقات للاقتداء بالمرسَلين، بمعرفة ودراسة طريقتهم وأحوالهم، والاتِّباعُ جامعٌ لكل أمور الدِّين، فيندرج تحته كلُّ العقائد والشرائع، والله المستعان، قال الله - تعالى -: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]، ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21].
وهذه الأُسوة في كلِّ جانب من جوانب حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو أُسوةٌ في كلِّ شيء لكلِّ البشر: المربِّي والعالِم، والداعي والعابد، والزاهد، والتاجر... إلى غير ذلك، فاللهمَّ ارزُقْنا اتباعه، وألْحقنا به على ذلك، بفضلك وجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
فائدة:
قال الشاعر:
إِذَا مَا وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْر مَوْضِعٍ وغَيْرِ إِنَاءٍ فَهْوَ قَلْبٌ وَضِيعُ |
فالقلْب خُلِق للذِّكْر، والعلمِ والتفكُّر.
مثل سائرِ وظائف الأعضاء، وإنما يكون ذلك بالإعراض عن ضدِّ ذلك مِن الانشغال بغير ما خُلِق له مِن الدنيا، وغير ذلك، والله الموفق؛ مستفادة من "رسالة في القلب"؛ لشيخ الإسلام.
فائدة:
قال الشاعر:
تَمَنَّيْتَ أَنْ تُمْسِي فَقِيهًا مُنَاظِرًا بِغَيْرِ عَنَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ |
يريد أن يكن عالمًا وفقيهًا مناظرًا وهو نائمٌ على الفراش، فهيهات هيهات!!
في معناه قولُ الآخر:
وُقُلْ لِمُرَجِّي مَعَالِي الْأُمُورِ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ رَجَوْتَ الْمُحَالاَ |
فائدة وقاعدة جليلة:
قال الله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وقال ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249].
وقال شيخُ الإسلام بن تيمية - رحمه الله -: "لا تُنال الإمامةُ في الدِّين إلا بالصبر واليقين".
وسطَّر تلميذُه ابنُ القيم كلامًا ماتعًا، ذَكَر فيه أنَّ طريق الله - سبحانه - لا يتَّسع إلا للموقِنين الصابرين، أما غيرُهم فلا[4].
فالذين يستعجلون، ولا يُحقِّقون الإيمان واليقين، لا نَصْرَ لهم؛ لأنَّهم مخالفون لسُنَّة الله ربِّ العالمين: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43].
والصبر: يكون بحَبْس اللِّسان عن الشَّكْوى، وحبس القلْب عن الجَزع، وحبس الجوارح عن كلِّ ما يُنافي الصبر:
صبْر على الطاعة، وصبْر عن المعصية، وصبر على أقدار الله - عزَّ وجلَّ - وسُنُنه في خَلْقه.
واليقين - رزقنا الله إيَّاه -: يكون بتدبُّر معاني القرآن، والثِّقة بها، والإيمان بها على ما جاءتْ، وكذلك السُّنَّة الصحيحة، وتلقِّي نصوص الكتاب والسُّنة بالقلْب، وإلْقاء السمع مع الشهادة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، والله المستعان.
فائدة لغوية:
فُعُول - بضم فائه -: نفْس الفِعل [السُّحُور: نفس التسحُّر، الطهور: التطهُّر].
فَعُول - بفتح فائه -: ما يُفعل به الفعل [الطَّهُور - ما يُتطهَّر به (الماء، أو التراب)، السَّحور: ما يُتسحَّر به (الطعام)][5].
فائدة جليلة:
لا يَشعر بعَظمة الإسلام، وبالتالي عظمة تعاليمه، وعظمة كلِّ الشرائع إلا مَن تعلَّق بها وتمثلها قلبُه وقالبُه، وعمل بها، أمَّا مَن جعل الدين والعلم مجرَّد مماحكاتٍ لفظية، ونقاشات جدلية، فكبِّرْ عليه تِسعًا، والله المستعان.
وشاهد هذا: إعدادُ الله سبحانه للصحابة، وتهيئتهم للأمر الجليل، والقول الثقيل بفَرْض قيام الليل عليهم حتى يتهيَّؤوا له، ويستعدُّوا لحمْل هذا الدين العظيم؛ قال الله - جلَّ ذِكْره -: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ﴾ [المزمل: 1 - 5].
فلا بدَّ أن يكون الجهْد الجهيد في العملِ، وترتيل القرآن ترتيلاً، والله وحده المستعان، ونسأله أن يرحمَ ضعفْنا، ويغفرَ معصيتَنا، ويتجاوزَ عن تفريطنا، وهو حسبُنا ونعم لوكيل، والحمد لله ربِّ العالمين.
ومنه: قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [المائدة: 68].
وكذلك نحن لسْنا على شيءٍ حتى نُقيمَ ما أُنزل إلينا من ربِّنا، ولفظة (الإقامة) فيها معنى الامتثال على أكملِ الوجوه، وأحسن الأحوال.
فائدة:
قال ابنُ القيِّم - رحمه الله تعال - كلامًا حاصلُه: أنَّ الجاهل يُزهِّد الناسَ ويُكرِّههم في الدنيا التي يتعلَّقون بها، فيكرهونه ولا يزهدون في الدنيا.
والعالِم يُحبِّب الناسَ في الله، ويُعلِّقهم به سبحانه، فيحبُّون الله، وبالتالي يَزْهدون في الدنيا، والله المستعان.
فائدة:
مِن أصول الأدلَّة عند أهل السنة والجماعة: الكتاب والسُّنة والإجماع، وهذه الأصول موازينُ يَزِنُون كلَّ الناس، فلا يَزِنُونهم بقول فلان ولا علان، فما وافَق هذه الأصولَ وافقوا عليه، وما خالفها ردُّوه، وهذا هو العدلُ والتجرُّد الذي ينبغي الاعتمادُ عليه، والله المستعان.
فائدة جليلة:
المخلِص الصادِق في اتباعه للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجعل نفسَه كالعجين، يتشكَّل حيث شاءتِ السُّنة، وكيف شاءتْ، لا يعترِض ولا يجمُد ويتصلَّب، بل لا بدَّ أن يستعدَّ للتشكُّل في كل لحظة، فإذا استقرَّ عنده شيء، وجاء الشرْع بخِلافه، تَشكَّل حيث شاء الشَّرع ولا يُبالي بالناس، ويتذكر قاعدة: "البِرُّ فيما تكره وليس فيما تُحب"، وأنَّ "الإحسان يكون للمُسيء لا للمُحْسِن"، وهذا على سبيل المدْح، وإلا فكلٌّ مِن البرِّ والإحسان مطلوبان لكلِّ أحد، لكن المقصود أنهما يُمدحان أكثرَ في هذه الحالة.
والله الموفِّق والهادي إلى سبيل الرشاد.
♦ واعتبر بحال الشافعي وغيرِه القائل: "إني أقول القولَ اليوم، فأرجِع عنه غدًا، وأقول القول غدًا فأرجع عنه بعد غدٍ"، وهذا ليس شكًّا ولا جهلاً ولا ترددًا، ولكنَّه تشكُّلٌ مع الشرْع الحكيم قرآنًا وسُنَّة.
♦ ومنه: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعت رَحِمُه وَصَلها))[6]، وقوله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون: 96]، وقوله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34 - 35].
وهذا مِن أبدع وأجمل ما يكون إذا تدبَّره المتدبِّر اعتقادًا وعملاً، وليس المخْبَر كالمعايِن، والله المستعان.
فائدة في المنهجية في أي علم:
الاهتمام يكون في المسائل بـ:
1 - صورة المسألة.
2 - حُكمها.
3 - دليل المسألة.
4 - وجه الاستدلال.
والذي يُعين على ذلك: الاهتمامُ باللُّغة العربية وألْفاظ العلماء؛ حتى يفهمَ الطالبُ كلامَهم[7]، والله المستعان.
فائدة مسلكيَّة عملية في الدَّعوة والعمل وفِقه الأولويات:
قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
في ثلاثة مواضع[8] مِن كتابه العظيم، ثم رتَّب - سبحانه وتعالى - بعدَ هذه الآية في كلِّ موضع أمورًا؛ إشارةً - والله اعلم - إلى أنَّ هذه الأمور:
أولاً: مِن صميم الدِّين الذي أرْسل به رسولَه.
ثانيًا: أنَّ هذه الأمور مِن أسباب نصْر الدِّين الحق، وظهوره على الدين كلِّه، فلا بدَّ من اتِّباعها عملاً ودعوةً، والاهتمام بها، والعضِّ عليها بالنواجذ، والحضِّ عليها، ودعوةِ الخَلْق إليها وتبصيرهم بها، والله أعلم.
وهذه المواضع:
1 - في سورة التوبة، فبعدما ذَكَر ربُّنا - سبحانه - هذه الآيةَ قال - عزَّ شأنُه -:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34].
ففيها:
♦ التحذير مِن العُبَّاد والعلماء المضلِّين.
♦ والتحذير مِن أكْل الناس بالباطل.
♦ والتحذير مِن الصدِّ عن سبيل الله سبحانه.
♦ والتحذير كذلك مِن كَنْز المال وعدمِ تأدية حقوقه، وإنفاقه في وجوهه.
2 - الموضع الثاني:
في سورة الفتح: بعدما ذَكَر ربنا - تبارك وتعالى - الآية، ذَكَر بعدها: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29].
ففي هذه الآية من الفوائد الجليلة:
1 - محمد رسول الله، له كلُّ حقوق الرِّسالة ومقتضياتها.
2 - بيان أحواله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه - رضي الله عنهم - مِن المهاجرين والأنصار، وأنها على أكمل الصفات عملاً، ليست مماحكاتٍ لفظيةً فحسب، ولا تشدقًا وتفهيقًا، أو تنظيرًا وتقعيدًا من غير عملٍ، ولا تحويلٍ لواقع عملي، وحياة عملية، كما تورَّطت فيها أكثرُ الأمة - ولا حولَ ولا قوة إلا بالله - اللهمَّ نجِّ أمة نبيك، ونجِّنا بفضلك.
3 - ﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾: ما أجمل لفظَ المعية! وما أدله على المقصود، فهم معه على كل حال، وهم مطيعون له، مؤتمرون بأوامره، منتهون عن نواهيه وزواجره، موالون له على غيره، إلى غير ذلك مما توحي به هذه اللفظة الشريفة.
4- ومِن صفاتهم: أنهم أشدَّاءُ على الكفَّار بكلِّ معاني الشِّدَّة، والبراءة والعداوة.
وأنهم رُحماءُ بينهم بكلِّ معاني الرحمة، والعطف والولاء، فحبُّهم عملي قلْبي واقعي، ليس حبًّا بالكلام والتشدُّق بالمحبَّة فقط.
5 - ﴿ رُكَّعًا سُجَّدًا ﴾: دليل على كثرة صلاتهم، وكثرة عبادتهم، وكثرة عملهم، وقلَّة قولهم، كثرة في العمل وقلة في القول.
6 - وأيضًا هم مع كثرة عملهم خائفون يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، فهذا هو مقصودهم، وهذه غايتهم، رضا الله، إخلاص وتجريد كامل لله وحده، يرجون الرِّضا والفضل، والعز والنصرة من الله وحدَه، واللهُ ربُّ العالمين هو مقصودُهم وغايتهم، ولسان حالهم ومقالهم يقول:
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الوُدُّ يَا غَايَةَ الْمُنَى فَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ |
8 - ﴿ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ﴾: هم كالزَّرْع للخَلْق في النَّفْع، بعدما اكتمل البناء، واستوى واعتدل، نَفَعَ الخَلْقَ جميعًا؛ كبيرَهم وصغيرهم، قاصيَهم ودانيَهم، وعاونوا الخلق على الحق، وعلى إقامة دِين الله والدعوة إليه.
مستوون يُسرُّ بهم الناظر، ويُعجب من هيئتهم وحالهم الرائي.
9 - ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾؛ لسَيرِهم المعتدل المستقيم، واجتماع قلوبهم وقوالبهم، وشدَّتهم في دِينهم، كانوا غيظًا للكفَّار وأذنابهم.
ولا يتركون بينهم فجواتٍ وفقاقيعَ يدخل منها الأعداءُ، وأذنابُ الأعداء، لا، بل هم يدٌ واحدةٌ قلبًا وقالبًا، مهمَا اختلفوا في جزئيات لا توجِب التنافرَ والتفرق، عندهم عدلٌ في الاختلاف، وأدَب وفِقه، وتجرُّد لله وإخلاص، واتِّهام للنفس بكلِّ قبيح، وحُسْن ظن بالله، واعتقاد كماله سبحانه جل في عُلاه.
10 - بعدَ ذلك يأتي الوعْد من الله الكريم ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ كما جمعوا بيْن الإيمان والعمل، وبيْن صلاح القلْب والقالب، جَمَعَ الله لهم بين المغفرة والأجْر العظيم، والحمد لله ربِّ العالمين.
♦ ولنتدبَّر في غزوة الحديبية، فإنَّ فيها أسرارًا وعِبرًا، وتوضيحًا لِمَا ذكرْنا - بفضل الله ورحمته.
3 - الموضع الثالث: في سورة الصَّف، بعدما ذَكَر ربُّنا - - سبحانه وتعالى - الآيةَ، قال بعدَها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الصف: 10 - 11].
ففيها:
1- أنَّ أعظم تجارة، وأعظم ربْح، التجارة مع الله ربِّ العالمين.
2- أنَّ الإيمان بالله ورسوله - الإيمان الجازم الحقيقي - لا يكون إلا بمفهومه الصحيح قولاً وعملاً واعتقادًا، فالإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
3 - أنَّ مِن أجلِّ أعمال الإيمان الجهادَ في سبيل الله وحده، لا في سبيل قوميَّة، ولا حزبية، ولا وطنية، ولا غير ذلك.
4 - وجوب بذْل النفْس والمال لله سبحانه.
5 - أنَّ في هذه التجارة الخيرَ الدنيويَّ بالنصر والتمكين، وراحة النفس والقلْب والضمير، وفيها الخير الأُخروي بالفَوْز بدار النعيم، وغفران ربِّ العالمين، ورضاه ورؤيته.
نسأل الله العظيم أن يُثبِّتَنا على الحق، وألا يُزيغَ قلوبنا بعدَ إذ هدانا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قاعدة جليلة يجب أن يُلتفتَ إليها، وتظلَّ حاضرةً في القلب، وينبغي ألا تنسى، ألا وهي:
"ابكِ على عِلمْ الله فيك" فالأعمال حسنُها وسيِّئها ليستْ موجباتٍ للجزاء والعقاب، ولكنَّها أماراتٌ وعلامات.
فليحذرْ كلُّ امرئ على نفسه، وليخف ويخشَ مقامَ ربِّه، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((فوالله الذي لا إله غيرُه، إنَّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجَنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراعٌ فيسبق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار فيَدخُلها))، اللهمَّ سلِّم، وارحمْ وأنت أرحم الراحمين.
والثباتُ مِنَّةٌ من الله - عزَّ وجلَّ - - وحْدَه ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 74].
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكثر من قول: ((يا مُقلِّبَ القلوب، ثبِّتْ قلوبَنا على دِينك))[9]، وكانت أكثر يمينه: ((لا ومُقلِّبِ القلوبِ))[10].
وما أدراك أن تفعل ذنبًا فيغضب الله عليك به إلى يومِ القيامة، ولا يرضَى عنك بعدَها أبدًا، ولا يُقيم لك وزنًا؟!
فالأمرُ مَخوفٌ جدًّا، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، فاللهم ثبِّتْنا حتى الممات.
ولذلك لم يضحَكْ يحيى الجَلاَّء (نسبة إلى جلائِه للقلوب) إلا على فراش الموت!!
في توحيد الله - جلَّ جلالُه -:
♦ الكُمَّل في تحقيق التوحيد يخافون مِن الشِّرْك.
♦حقيقة تمامِ التوحيد لا تتمُّ إلا بالدَّعْوة إلى التوحيد.
♦ لا بدَّ أن تكون الدعوة إلى التوحيد دعوةً تفصيلية، كما فعَل شيخُ الإسلام وإمام الدعوة محمَّد بن عبدالوهاب[11]؛ لأنَّ الدعوة الإجمالية يشترك فيها كثيرٌ[12].
ثمرات التوحيد وفوائده[13]:
1 - خيرُ الدنيا والآخرة مِن فضائل التوحيد.
2 - التوحيد هو السببُ الأعظم لتفريج كُربات الدنيا والآخرة، يدفع الله به العقوباتِ في الدارين، ويبسط النِّعم والخيرات.
3 - التوحيد الخالص يُثمر الأمنَ التام في الدنيا والآخرة، قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
4 - يحصُل لصاحبه الهُدى الكامل، والتوفيق لكلِّ أجْر وغنيمة.
5 - يَغفر الله بالتوحيد الذنوبَ، ويُكفِّر به السيِّئات، ففي الحديث القدسي عن أنس - رضي الله عنه - يرفعه: ((يا ابنَ آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لَقِيتني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بقُرابها مغفرة))؛ أخرجه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
6 - يُدخِل الله به الجنة، فعن عُبادة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن شهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وكَلمتُه ألقاها إلى مريمَ ورُوح منه، وأنَّ الجنة حق، وأنَّ النار حق، أدْخلَه الله الجنةَ على ما كان مِن العمل))؛ أخرجاه في الصحيحين.
وفي حديث جابرِ بن عبدالله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنه قال: ((مَن مات لا يشركُ بالله شيئًا دخَل الجنة))؛ مسلم.
7 - التوحيد يَمنع دخول النارِ بالكلية، إذا كَمل في القلب، ففي حديث عِتبان - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإنَّ الله حرَّم على النار مَن قال لا إله إلا الله يتبغي بذلك وجهَ الله))؛ أخرجاه في الصحيحين.
8 - التوحيد هو السببُ الأعظم في نيْل رِضا الله وثوابه، وأسعدُ الناس بشفاعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قال لا إله إلا الله خالصًا مِن قلبه، أو نفْسه))؛ رواه البخاري.
9 - جميعُ الأعمال والأقوال، الظاهرة والباطنة، متوقِّفة في قَبولها وفي كمالها، وفي ترتيب الثوابِ عليها على التوحيد، وكلَّما قَوِي التوحيد والإخلاص لله كملُتْ هذه الأمور وتمَّت.
10- التوحيد يُسهِّل على العبد فعْلَ الخيرات، وترْك المنكرات، ويُسلِّيه عن المصائب، فالموحِّد المخلص لله في توحيده تخفُّ عليه الطاعات؛ لما يرجو مِن ثواب ربِّه ورضوانه، ويهون عليه ترْك ما تهواه النفس مِن المعاصي؛ لِمَا يخشى مِن سَخَط الله وعِقابه.
11- التوحيد إذا كمُل في القلْب، حبَّب الله لصاحبه الإيمانَ وزيَّنه في قلْبه، وكَرَّه إليه الكفرَ والفسوق والعصيان، وجعَله من الراشدين.
12 - التوحيد يُخفِّف عن العبدِ المكارِه، ويُهوِّن عليه الآلام بقلْب منشرح، ونفْس مطمئنَّة، وتسليم ورِضًا بأقدار الله المؤلِمة، وهو مِن أعظم أسباب انشراح الصَّدْر.
13- التوحيد يُحرِّر العبد مِن رِقِّ المخلوقين والتعلُّق بهم، وخوفهم ورجائهم، والعمل لأجلهم، وهذا هو العِزُّ الحقيقي، والشَّرف العالي، ويكون مع ذلك متعبدًا لله، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إيَّاه، وبذلك يتمُّ فلاحه، ويتحقَّق نجاحه.
14- التوحيد إذا كمُل في القلْب، وتحقَّق تَحقُّقًا كاملاً بالإخلاص التام، فإنَّه يُصيِّر القليلَ مِن عمل العبد كثيرًا، وتُضاعف أعمالُه وأقوالُه الطيِّبة بغير حصْر، ولا حساب.
15 - تكفَّل اللهُ لأهل التوحيد بالفتْح والنصْر في الدنيا، والعزِّ والشَّرف وحُصول الهداية، والتيسير لليُسرى، وإصْلاح الأحوال، والتسديد في الأقوال والأفعال.
16 - الله - عزَّ وجلَّ - يدفع عن الموحِّدين أهلِ الإيمان شرورَ الدنيا والآخرة، ويمنُّ عليهم بالحياة الطيبة، والطُّمأنينة إليه، والأُنْس بذِكْره.
فال العلاَّمة السعدي - رحمه الله -: "وشواهدُ هذه الجُمل من الكتاب والسُّنَّة كثيرة معروفة، والله أعلم"؛ القول السديد (ص: 25).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى -: "وليس للقلوبِ سرورٌ ولذَّة تامَّة إلا في محبَّة الله تعالى، والتقرُّبِ إليه بما يحبُّه، ولا تتمُّ محبَّةُ الله إلا بالإعراض عن كلِّ محبوب سواه، وهذا حقيقةُ (لا إله إلا الله)"؛ الفتاوى (28/ 32).
اللهم ثبِّتنا عليها، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنَّا يا كريم.
وصلَّى الله وسلَّم على عبدِه وخاتم رُسله محمَّد بن عبدالله، وعلى آله وصحْبه ومَن والاه.