الشاعر الدكتور مقداد رحيم :
لم يكن من السهل خلال القرن الماضي مزاحمة الشعراء المرموقين في الصحف والمجلات ومجالات النشر الأخرى، وكان على المستجدين من الشعراء الحفر في الصخر حتى تنشر لهم قصيدة.
حوار: سردار زنكنة
الشاعر مقداد رحيم من مواليد 1953 بغداد، أكمل دراسته الأبتدائية والمتوسطة والثانوية فيها، بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها عام 1977 ماجستير بغداد 1982 دكتوراه عام 1989، زاول مهنة التدريس في كلية الآداب جامعة البصرة وجامعة التحدي في ليبيا وجامعة غوتنبورغ، لديه مجموعة كثيرة من المؤلفات والبحوث والمقالات، وفي لقاء معه دار الحديث التالي:
• إذا كنت تريد أن تكتب قصيدة للعراق الآن، كيف ستستهلها؟
كنتُ سأعيد كتابة قصيدتي "أسفاً يا عراق" التي كتبتها في 22-2-2002 وأستهلها فأقول:
أسفاً يا عراق
أسفاً يا عراقُ ..كنتَ حبيبي
...... وسروري عند الأسى والخطوبِ
فلماذا غيرُ العراق دوائـي ؟
...... ولماذا غـيرُ العـراق طبيبـي؟
قلتُ هذا وأقولهُ حتى يتبين في الأفق عراق مُغايـِر.
* إذا نصب هرم للشعر فمن تضع من شعراء اليوم في رأس الهرم؟
• أنا شخصياً لا أميل إلى مثل هذا التقويم للشعراء على إطلاقه، وإنما أفضِّل تحديد جانبٍ ما، أو غرض ما من أعراض الشعر، فقد يقوى شاعر في غرض ويضعف في سواه الذي يقوى فيه شاعر آخر، فضلاً عن تنوّع البيئات الشعرية وتعددها، فإذا ما أردنا أن نُـقيم موازنةً تُفضي إلى التقويم أو التفضيل بين الشعراء فإنَّ علينا أنْ نفعل ذلك عندما تتساوى جميع ظروف الشعراء المراد المفاضلة بينهم ومهيئات الشعر لديهم، بما في ذلك المدة الزمنية. وينسحب ذلك على المفاضلة بين قصائد أو أبيات شعرية قيلتْ في غرض شعري ما، وهذا شيء يصعب على الناقد، أي ناقد، استقصاؤه مهما بلغ إيعابه. ولذلك أرجِّح أن يُقال في الشعراء هذا شاعر "فاضل" دون أنْ يقال "أفضل"، ويقال هذه شاعرة فاضلة دون أنْ يقال "فُضلى"، ويبقى رأس الهرم منحنياً للبيت الشعري المؤثر والقصيدة الهزَّازة، حيث يصعب على الزمن القريب إزالة الأثر أو إخماد الجذوة.
* بما أنك خصصت العديد من الدراسات حول الموشحات، ما مدى اهتمامات الشعوب الآن بموضوع الموشحات الأندلسية؟
• إن فن الموشحات فن سابق لعصره، ففيه طفرة موضوعية وشكلية، فقد تجاوز المألوف في عصر نشأته من هاتين الناحيتين، بسبب ظروف كثيرة لا مجال هنا للوقوف عليها، فواجه النقد اللاذع، والرفض القاطع من لدن المؤسسات المحافظة في المجتمعات العربية في الأندلس، ورُعاة الأدب المكتوب،وهو أدب لم يَتخلَّ عن الفصاحة والوقار، ومع ذلك فقد عاش هذا الفن مدة طويلة جداً، بل استمر حتى آخر عهد العرب بحكم الأندلس وخروجهم منها إلى الأبد. واستناداً إلى خاصية السبق هذه فإنه يستطيع أن يتجاوز عصره إلى عصور أخرى تالية بنجاح باهر حتى في بيئات أخرى غير بيئته الغربية البعيدة عن أرض العرب، وقد رأينا ذلك عندما انتقل إلى العراق ومصر وبلاد الشام، غير أن مدة العصور المتأخرة لم تدعْ له المجال في التقدم والانتشار بعد أن ضعفتْ جميع شؤون الفنون والإبداع في العالم العربي، كما هو معروف تاريخياً، مع أنه كان حاضراً، فلما جاء العصر الحديث جاءت معه النزعات الغربية التي لم تعد تأبه بالقديم، بل جعلت التغيير والإصلاح وكْداً لها في رسم شكل الحياة في المجالات جميعاً، وصار قسم من الأدباء العرب وشعرائهم يتجهون هذه الاتجاه، حتى صار الالتزام بالقديم والأصول شيئاً معيباً فيما بعد، وإلى هذه اللحظة، لدى المتحودثين والمتعولمين.
وتأسيساً على هذا كله لم تجد الموشحات بوصفها فناً شعرياً متنفساً كافياً لتحيى وتنتعش من جديد، بل لقد سار الجمهور على أن الموشحات فن غنائي وحسب، فارتبطت بالغناء وأهملها الشعراء غير الغنائيين، فيما عدا لفتات جديرة بالاحترام على أيدي شعراء المهجر وبعض شعراء المشرق، أما على مستوى الغناء فلا يمكن تجاهل جهود أبو خليل قباني الذي رحل من الشام إلى مصر لينتعش غناء الموشحات على يديه هناك في مطلع العصر الحديث في الوطن العربي.
أما الآن فلابد من الإشارة إلى الفرق الغنائية التي أخذت على عاتقها إنشاد الموشحات، مع أنها تُنشد الأبيات والقصائد العادية أحياناً على أنها موشحات بدلالة الموسيقى فقط، ولم ينتبه أحد إلى أن نصوصها لا تمتُّ إلى الموشحات بصلة، لأن فنَّ التوشيح فن شعري قبل أن يجد الغناء فيه ضالته، وأشير على سبيل المثال إلى فرقة الإنشاد العراقية التي انفرط عِقدُها الآن، وفرقة الموسيقى العربية (فرقة أم كلثوم) وفرقة رضا وجهود محمود أحمد الحفني رحمه الله وجهود ابنته رتيبة الحفني المستمرة في مصر. هذا في المشرق العربي، أما في المعرب العربي فالأمر مختلف كثيراً، فهناك اهتمام واسع بالموشحات بوصفها فناً غنائياً في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا، ففي كل قطر من هذه الأقطار توجد فرقة واحد متخصصة بالموشحات الأندلسية في الأقل، وتلقى دعماً شعبياً وحكومياً، ويتم بث أعمالها عبر الإذاعة المسموعة والمرئية التابعة لهذه الأقطار بشكل متواصل، أما سبب هذه الاهتمام بالموشحات في هذه الأقطار فهو أنها ورثتْ الموسيقى الأندلسية وإيقاعاتها جُملةً قبل سقوط الأندلس بقليل وبعده عبر رحيل الأندلسيين من الأندلس إلى البلاد المجاورة وكان، أولها المغرب الأقصى ثم تسللوا إلى الجزائر وتونس وليبيا، من ناحية، وإلى مصر عبر البحر حيث الإسكندرية من ناحية أخرى، واستيطانهم في هذه الأقطار، ومما لاشك فيه وجود أحفادهم وأصولهم إلى الآن هناك، وقد التقيت أنا شخصياً ببعض هؤلاء الأحفاد الأندلسيين في تونس، وزرت بعض المناطق التي استوطنوها عند وفودهم على تونس، ووجودهم يعني بالتأكيد وجود شيء من الأصول ومنها طرائق الحياة اليومية وأنواع الطعام والحلويات ولا نستثني طبعاً الفنون الشعبية والغناء ومنه الموشحات. واستناداً إلى هذا فإنَّ أقطار المغرب العربي هي سدنة هذا الفن.
هذا من الناحية الغنائية الموسيقية، أما الموشحات بوصفها فناً شعرياً فقد حاول جملة من الشعراء تتبعه والنظم عليه في الوقت الحاضر، وأنا منهم، ولكن في حدود ضيقة جداً، غير أنَّ المؤسسات الأكاديمية والعلمية ما زالت تولي هذا الفن أهمية وتجعله في عداد مفرداتها ومناهجها العلمية، وأعني كليات الآداب والعلوم الإنسانية وأقسام اللغة العربية والأدب تحديداً، حتى أن بعضاً من هذه الكليات تعتمد كتابيَّ: "الموشحات في بلاد الشام" فيما يتعلق بالموشحات من حيث هي فن شعري وعلاقته بالغناء، و"عروض الموشحات الأندلسية" فيما يتعلق بأوزانها وقوافيها وأبنيتها، ضمن مناهجها الدراسية في عدد من أقطار الوطن العربي.
ومع ذلك فإنَّ هذا الاهتمام يُعَـدُّ متواضعاً جداً بالموشحات الأندلسية في الوطن العربي، لا يليق بفن شعري يُعد ثورة ً عَروضية شعرية لا يمكن دراسة العروض العربي وحركاته دونها.
* هل استطاعت الموشحات أن تتحدث بجدارة عن الحب والجنس؟.
- كان من أهم دواعي فن التوشيح في الأندلس هو الخروج عن المألوف والحشمة في فنون القول، ومن جملة ذلك سفساف الكلام والإحماض والتقاط الكلام النازل مما يدور على ألسنة الفئات السفلى في المجتمع، وكان من بين ذلك عبارات سوقية ومعان جنسية وجنسية شاذة. ولعل هذا يُفسِّر لنا ما واجهته الموشحات من رفض أشرت إليه في جواب السؤال السابق. وقد جوبهت بالرفض لأنها ببساطة شديدة فن قام على هذا الأساس من الخروج عن المألوف والمحتشم فضلاً عن أنها فن شعبي يتغلغل في فئات الشعب ويبلغ أثره في مختلف الأوساط الشعبية، فقد كان الوشَّاح يبني موشحته على جملة شعرية يَعُدها سلفاً ويجعلها الأساس ويبني عليها سائر أجزاء الموشحة حتى يصل إلى آخر جزء فيها وهو ذلك الأساس المعَد سلفاً وبه تنتهي الموشحة، ويُسمى "الخَـرْجة"، أما شروط الخرجة فهي أن تكون كما وصفنا من الخروج عن المألوف والحشمة ، فضلاً عن اضطرار الوشاح إلى استخدام الألفاظ كما وردت على ألسنة العامة، عامية ً أو أعجمية، ليحدث مفاجأة واستظرافاً لدى المتلقِّي.
أما معاني الحب والجنس فقد وفرت في الموشحات وفرة واضحة، واستطاعت الموشحات أنْ تقترب اقتراباً شديداً من هذه المنطقة المحرَّمة في الأدب العربي، حتى في أشد العصور الأدبية التزاماً بالموروث والتقاليد، وأعني العصور المتأخرة، وفرضتْ سطوتها على الأدب المكتوب المقروء.
غير إن هذه الخاصية أضرَّتْ بهذا الفن، فلاشكَّ في أنَّ نصوصاً كثيرةً ضاعتْ ولم يتمَّ تدوينها في الكتب لما كانت تتضمنه من إشارات وتلميحات جنسية فاحشة لم يكن المجتمع كله مُهيَّئاً لتقبلها، ولن يكون، فالتيار المحافظ الذي يفترض وجوده في كل زمان ومكان يَعدُّ مثل هذا الفن خروجاً على الحشمة والآداب وخادشاً للذوق العام، ومُجافياً لتعاليم الأديان، مع إمكان تداوله في أضيق الحدود.
* أصبحت الساحة الآن مليئة بمن يسمون (شعراء) وكذلك تجتاحنا الآن الكثير من القصائد - أنت كشاعر، كيف تعلل كل هذا الكمّ؟
• لم يكن من السهل، خلال القرن الماضي، مزاحمة الشعراء المرموقين في الصحف والمجلات ومجالات النشر الأخرى، وكان على المستجدين من الشعراء الحفر في الصخر حتى تنشر لهم قصيدة في الصفحات الثقافية دون الصفحات التي تُعنى بالمواهب الشابة، وقد عانى جميع الشعراء من ذلك، وأنا منهم طبعاً، فعندما كانت تُنشر لي قصيدة في صحيفة أو مجلة معتبرة في العراق أو قطر عربي يكون ذلك بمثابة بُشرى من البشائر، وفرحة من الأفراح، وكانت الصحف والمجلات تنشر برقابة تحكمها ضوابط ومواصفات غالباً ما تكون عالية، أو عالية جداً ليكون النص مؤهَّلاً للنشر بغض النظر عن اسم صاحبه الجديد، وإلا فلا استغناء عن العلاقات التي تحكم الأوساط الصحافية طبعاً، ولاشك في أن تلك الرقابة كانت تشكِّل صمّام أمانٍ للقصيدة من الانفلات من الضوابط الفنية، فكان النشر آنذاك يستحق الفخر بجدارة. فلما بسطتْ الشبكة العنكبوتية جناحها على آفاق العالم المترامية صار من السهل جداً أن ينشر الكاتب ما يكتب، ومن الصعب أن يعرف أنه شاعر حقاً وأن ما يكتبه شعر، ولكنه يظن... يظنُّ فقط، لأن النشر عبر هذه الشبكة لا تحكمه مثل تلك الضوابط إلا في حدود ضيقة جداً، وقد سهل أمر النشر حتى صار بإمكان أي شخص أن يفتتح موقعه الألكتروني الخاص ويدَّعي فيه الشعر والرواية والقصة والنقد وغير ذلك وينشرها في الآفاق، فيستقل بنفسه، هذا فضلاً عن أنَّ شيوع ظاهرة "النثيرة" أو ما يسمونه بـ"قصيدة النثر" التي لا تفرق عن الخاطرة في كثير من الأحيان شكلاً ومضموناً، يجعل الكثيرين ممن يحبون أن يُحشروا مَحشرَ الشعراء يستسهلون الكتابة، وما دامت كل مجموعة أسطر فيها معانٍ وربما تشبيهات يمكن أنْ تُسمَّى قصيدة فلمَ لا يكون ثلاثة أرباع الشعب العربي شعراء؟
يُضاف إلى ذلك أنَّ النقد فقد سطوته على الشعراء، لأن أغلب النقاد اتجهوا إمَّا إلى التنظير دون التطبيق، أو أخذوا يتناولون بالنقد أعمال الشعراء المبرّزين أو الشعراء الأصدقاء، وغالباً ما يكون هذا النوع من النقد متسربلاً بالمجاملات. ولهم الحق في ذلك، فليست هناك جهة تدعم النقد وتشجع النقاد على المزيد من النتاج النقدي، حتى صارت الجهود النقدية بلا طائل. ولولا الجامعات التي تُعنى بعض أقسامها بالنقد الأدبي والأكاديميون لغابت ملامح النقد الأدبي الحقيقية وضاعت معها آخر ما يُرجَى من الرقابة على النتاج الشعري خاصةً والأدبي بشكل عام.
* حسب اعتقادك هل من الممكن ظهور(حالة أو ظاهرة ) في خضم كل هذا الكم الهائل من الشعر، خاصة بعد رحيل الشاعرين الكبيرين محمود درويش، ونزار قباني؟
• ليس الشعر حكراً على شاعر أو عدة شعراء دون سواهم، وليست الموهبة كريمة في زمانٍ أو مكان وعصيّة في زمان أو مكان آخرَين، فلو كان الأمر كذلك لمات الشعر بعد امرئ القيس وكعب بن زهير في العصر الجاهلي، أو بعد الحطيئة والنابغة الجعدي في عصر صدر الإسلام، أو بعد عمر بن أبي ربيعة وكثير عزة في العصر الأموي، أو بعد المتنبي وأبي تمام في العصر العباسي، أو بعد البوصيري وصلاح الدين الصفدي في العصور المتأخرة، أو بعد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي في مطلع العصر الحديث، أو لمات في المهجر القديم حيث أسبانيا الإسلامية بعد ابن زيدون ولسان الدين بن الخطيب، أو في المهجر الحديث بعد إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران. فهل ترى أن الشعر سيموت دون أن يلد ظاهرة أخرى أو أكثر بعد رحيل قباني ودرويش، ومهما ازدحم الشعراء والمتشاعرون؟
على أنني أرى، وبحسب اطلاعي على الأدب العربي في عصوره المختلفة، أنَّ كثيراً من الشعراء العظماء لم يصبحوا عظماء بمجرد موهبتهم الفذة، بل لأن ظروفاً عظيمة سخَّرتْ لهم أسباب العظمة، وشحذتْ مواهبهم، ونَـثرتهم في آفاق الذيوع والشهرة، وهناك كثيرون سواهم ربما أفضل منهم لم تشأ تلك الظروف أنْ تمنحهم بعض عطاياها، وعدم تكافؤ الظروف، وهي فُرص، هو الذي يمنع انتشار أكثر من عدد ضئيل من الشعراء ليشكلوا ظاهرة، فليس كل الشعراء نهازين للفرص، أو قادرين على انتهازها.
أقول هذا ويرتسم في ذهني مشهد القنوات الرسمية لشيوع الشعر حيث بلاط الحاكم وأبواقه، غير أنني أرى، في الوقت ذاته، أنَّ الشعراء الآن، ومع انتشار النشر الإلكتروني لم تعد بهم حاجة لتلك القنوات، حتى يصبح البعض منهم ظاهرة، هم يحتاجون فقط إلى الحافـز والقارئ الجاد الذي يهتز للشعر وينحني أمام القصيدة!
* ما رأيك بروايات الروائية دينا سليم، وحسب علمي كتبت نقدا عن روائية (الحلم المزدوج) التي كانت صرخة احتجاج ضد الحروب المستمرة في العراق، وقلت في حينه بأنها روائية فلسطينية تكتب بنبض عراقي؟
• دينا سليم امرأة ذات مبادئ إنسانية نبيلة، وجذور متأصلة في الانتماء والوطنية قبل أن تكون روائية وكاتبة، وقد ساعدها ذلك على اقتحام موضوعات ذات قيمة متجددة ومتجذرة في آن، على وفق إحساس صادق وتجربة نافذة، ولذلك يجد القارئ قناعة وقبولاً في ما تتناوله في رواياتها من قضايا بدءاً بروايتها "الحلم المزدوج" وليس انتهاءً بـ"الحافيات"، أما اهتمامها بأحداث العراق المعاصرة فلأنها عاشت في وطنها الأول فلسطين فضاعات مشابهة، وكابدت كثيراً من الأحاسيس التي كابدها وما زال يكابدها أخوها العراقي، ونحن – العراقيين- نشعر دائماً بالصلة الوثيقة بالشعب الفلسطيني، فكأنه أقرب الشعوب العربية إلينا، ولذلك فلا غرابة أنْ تكتب دينا سليم بنبض عراقي، ولا غرابة في أن تستمد موضوعاتها السردية من مكنون ذاتها المجبولة على العمق الإنساني بغض النظر عن الولاءات الصغيرة، وبالتركيز على قضايا المرأة والتقاليد الأصيلة والقاسية أحياناً في مجتمعاتنا كما هو الحال في رواياتها الأخرى. وأراها تلح في تطوير أدواتها السردية وتقنيات الرواية الحديثة ولاسيما ما يتعلق بالزمكانية وتعدد الأصوات وتداخلها.
• * باعتقادك هل قصيدة النثر أصعب من القصيدة الموزونة، وهل الشعر تبليغ المعنى والمضمون أم تبليغ الشكل الذي حمل فيه المعنى؟
• لا أعرف منثوراً أصعب من موزون على الإطلاق، فذلك شيء نعرفه بالمنطق والبديهة. كما لا ينبغي أن يكون الموزون غُفلاً من المعنى والغاية، فالوزن هو شرط واحد من شرائط الشعر، وعلى النص الشعري ألاّ يغفل عناصر الإبداع الأخرى، أما النثر فلا يحتاج إلى وزن مع أنه يحتاج إلى ما يحتاجه النص الشعري وأشياء أخرى إضافية، وهذا هو الفرق الحاسم بين النمطين، والنص الموزون وهو ضعيف سخيف متهافت لا يصلح مثلاً لرداءة الشعر الموزون وعدم أهمية الوزن، كما لا يصلح النص الشعري البليغ متكامل الصنعة دليلاً على الاستهانة بفنون النثر الراقية.
والشعر فن من فنون القول عليه تبليغ المعنى والشكل في آن، فالشكل بناء، ولكل فن من الفنون بناؤه الخاص به دون سواه، ولا فنَّ بلا قواعد ولذلك فهو فنّ، وإقحام شكل النثر في الشعر عمل لا علاقة له بالشعر العربي الأصيل، وإنما هو من عمل الغربيين مستورداً، فكما أن الرواية تبليغ معنى في شكل رواية، والقصة القصيرة تبليغ معنى في شكل قصة قصيرة، والخاطرة تبليغ معنى في شكل خاطرة فكذلك الشعر، وعلى الشعر أنْ يشي بنفسه من خلال إيقاعه وشكله المائزَين، كما تشي القطعة الموسيقية بنفسها فيختلف إيقاعها عن نقيق الضفادع!
* كيف تنظر الى القصيدة النسائية، وهل المرأة الشاعرة قادرة على التعبير عن هموم المرأة أكثر من الرجل؟
• أنظر إلى القصيدة النسائية وكأنني أنظر إلى أنثى أستشف منها قدر أنوثةٍ، ومياسم جمال، ونسائم روح، ومعالم فِكر آخر، وأفترض فيها التعبير عن همومها أكثر من تعبير سواها عنها، وهي كذلك لو توفرت لها البيئة المناسِبة، والأرض الخصبة، والمناخ الطبيعي، وهي هكذا لو لم يُحجَر على مشاعرها في مجتمعاتنا، ولو لم يَسرق الرجل منها ملامح شخصيتها، وحقوقها كإنسان، ولو لم يسلبها المساواة، وهكذا رأيناها عندما توفر لها ما ذكرتُ في عددٍ من البلدان العربية، وإنْ كان ضئيلاً، ولكنه يصلح مثلاً خَلاّقاً لما نحن بصدده، كما رأيناها في المجتمعات التي توفر لها مساحة واسعة من الحريات والحقوق والمساواة، غير مجتمعاتنا.
وليس من رجلٍ قادراً على التعبير عن هموم المرأة كالمرأة نفسها في الشعر وفي سواه، كما أن لتعبير المرأة عن المرأة طعماً ليس معدوداً في إمكانات الرجل، ولا ينبغي له ذلك، بدءاً بالكلمة وهي تنفرط من بين شفتيها كقطعة سُكَّر، وانتهاءً بها وهي تكتبها بأناملها الرقيقة، ووراءها قلب أنثوي رقيق خفَّاق.
أنا أقرؤ قصيدة الشاعرة وكأنني أتفحص جسداً من بلُّور!
• * هل يوجد قصيدة ما في خاطرك إلى امرأة، أو ملهمة، لا تريد أن يعلم بها الآخرون؟
• تلك قصيدة لم تكتبني بعد!
ممكن مقطع منها.
* ما هو أجمل بيت شعر بالنسبة لك.
هو ذلك البيت الذي كلما طرق سمعي فكأنني لم أسمع به من قبل، فأندهشُ له، وأطربُ، ويتجددُ به إعجابي، كبيت المتنبي في الغزل:
أتُراها لِـكَـثرةِ العُـشَّاقِ.... تحسبُ الدمعَ خِلقة ً في المآقي؟!
وكبيت أبي بكر الداني في المديح:
لم يُبقِ جودُكَ لي شيئاً أؤمِّــلُهُ.... كأنني أصحبُ الدنيا بلا أمَلِ!
* من هو أحب الشعراء إلى قلبك.
• هو الشاعر الذي يكتب عند الوحي وسطوع الموهبة، وإذا كتب لا يزيد في القول عما يريد ولا ينقص، وكلما قال قصيدة تمنيت لو كنت أنا قائلها، فأغبطه حيناً وأحسده حيناً، وإذا تناول معنى استطرفُه مع أنه مبذول متداول، فإذا نظم الكلام فكأن الكلام وُجد منظوماً دون وساطة، لبساطته وسهولة تناوله، فأرى صغائر المعاني تعظم في قصيده، ويتناول القريب وكأنه بعيد، والبعيد وكأنه قريب فيسبقني إليه، فإذا عثرتَ على مثل هذا الشاعر فقلْ: هو ذاك!
* إن كنت تريد أن تصب غضبك بقصيدة، لمن؟
• الموت
لم يكن من السهل خلال القرن الماضي مزاحمة الشعراء المرموقين في الصحف والمجلات ومجالات النشر الأخرى، وكان على المستجدين من الشعراء الحفر في الصخر حتى تنشر لهم قصيدة.
حوار: سردار زنكنة
الشاعر مقداد رحيم من مواليد 1953 بغداد، أكمل دراسته الأبتدائية والمتوسطة والثانوية فيها، بكالوريوس في اللغة العربية وآدابها عام 1977 ماجستير بغداد 1982 دكتوراه عام 1989، زاول مهنة التدريس في كلية الآداب جامعة البصرة وجامعة التحدي في ليبيا وجامعة غوتنبورغ، لديه مجموعة كثيرة من المؤلفات والبحوث والمقالات، وفي لقاء معه دار الحديث التالي:
• إذا كنت تريد أن تكتب قصيدة للعراق الآن، كيف ستستهلها؟
كنتُ سأعيد كتابة قصيدتي "أسفاً يا عراق" التي كتبتها في 22-2-2002 وأستهلها فأقول:
أسفاً يا عراق
أسفاً يا عراقُ ..كنتَ حبيبي
...... وسروري عند الأسى والخطوبِ
فلماذا غيرُ العراق دوائـي ؟
...... ولماذا غـيرُ العـراق طبيبـي؟
قلتُ هذا وأقولهُ حتى يتبين في الأفق عراق مُغايـِر.
* إذا نصب هرم للشعر فمن تضع من شعراء اليوم في رأس الهرم؟
• أنا شخصياً لا أميل إلى مثل هذا التقويم للشعراء على إطلاقه، وإنما أفضِّل تحديد جانبٍ ما، أو غرض ما من أعراض الشعر، فقد يقوى شاعر في غرض ويضعف في سواه الذي يقوى فيه شاعر آخر، فضلاً عن تنوّع البيئات الشعرية وتعددها، فإذا ما أردنا أن نُـقيم موازنةً تُفضي إلى التقويم أو التفضيل بين الشعراء فإنَّ علينا أنْ نفعل ذلك عندما تتساوى جميع ظروف الشعراء المراد المفاضلة بينهم ومهيئات الشعر لديهم، بما في ذلك المدة الزمنية. وينسحب ذلك على المفاضلة بين قصائد أو أبيات شعرية قيلتْ في غرض شعري ما، وهذا شيء يصعب على الناقد، أي ناقد، استقصاؤه مهما بلغ إيعابه. ولذلك أرجِّح أن يُقال في الشعراء هذا شاعر "فاضل" دون أنْ يقال "أفضل"، ويقال هذه شاعرة فاضلة دون أنْ يقال "فُضلى"، ويبقى رأس الهرم منحنياً للبيت الشعري المؤثر والقصيدة الهزَّازة، حيث يصعب على الزمن القريب إزالة الأثر أو إخماد الجذوة.
* بما أنك خصصت العديد من الدراسات حول الموشحات، ما مدى اهتمامات الشعوب الآن بموضوع الموشحات الأندلسية؟
• إن فن الموشحات فن سابق لعصره، ففيه طفرة موضوعية وشكلية، فقد تجاوز المألوف في عصر نشأته من هاتين الناحيتين، بسبب ظروف كثيرة لا مجال هنا للوقوف عليها، فواجه النقد اللاذع، والرفض القاطع من لدن المؤسسات المحافظة في المجتمعات العربية في الأندلس، ورُعاة الأدب المكتوب،وهو أدب لم يَتخلَّ عن الفصاحة والوقار، ومع ذلك فقد عاش هذا الفن مدة طويلة جداً، بل استمر حتى آخر عهد العرب بحكم الأندلس وخروجهم منها إلى الأبد. واستناداً إلى خاصية السبق هذه فإنه يستطيع أن يتجاوز عصره إلى عصور أخرى تالية بنجاح باهر حتى في بيئات أخرى غير بيئته الغربية البعيدة عن أرض العرب، وقد رأينا ذلك عندما انتقل إلى العراق ومصر وبلاد الشام، غير أن مدة العصور المتأخرة لم تدعْ له المجال في التقدم والانتشار بعد أن ضعفتْ جميع شؤون الفنون والإبداع في العالم العربي، كما هو معروف تاريخياً، مع أنه كان حاضراً، فلما جاء العصر الحديث جاءت معه النزعات الغربية التي لم تعد تأبه بالقديم، بل جعلت التغيير والإصلاح وكْداً لها في رسم شكل الحياة في المجالات جميعاً، وصار قسم من الأدباء العرب وشعرائهم يتجهون هذه الاتجاه، حتى صار الالتزام بالقديم والأصول شيئاً معيباً فيما بعد، وإلى هذه اللحظة، لدى المتحودثين والمتعولمين.
وتأسيساً على هذا كله لم تجد الموشحات بوصفها فناً شعرياً متنفساً كافياً لتحيى وتنتعش من جديد، بل لقد سار الجمهور على أن الموشحات فن غنائي وحسب، فارتبطت بالغناء وأهملها الشعراء غير الغنائيين، فيما عدا لفتات جديرة بالاحترام على أيدي شعراء المهجر وبعض شعراء المشرق، أما على مستوى الغناء فلا يمكن تجاهل جهود أبو خليل قباني الذي رحل من الشام إلى مصر لينتعش غناء الموشحات على يديه هناك في مطلع العصر الحديث في الوطن العربي.
أما الآن فلابد من الإشارة إلى الفرق الغنائية التي أخذت على عاتقها إنشاد الموشحات، مع أنها تُنشد الأبيات والقصائد العادية أحياناً على أنها موشحات بدلالة الموسيقى فقط، ولم ينتبه أحد إلى أن نصوصها لا تمتُّ إلى الموشحات بصلة، لأن فنَّ التوشيح فن شعري قبل أن يجد الغناء فيه ضالته، وأشير على سبيل المثال إلى فرقة الإنشاد العراقية التي انفرط عِقدُها الآن، وفرقة الموسيقى العربية (فرقة أم كلثوم) وفرقة رضا وجهود محمود أحمد الحفني رحمه الله وجهود ابنته رتيبة الحفني المستمرة في مصر. هذا في المشرق العربي، أما في المعرب العربي فالأمر مختلف كثيراً، فهناك اهتمام واسع بالموشحات بوصفها فناً غنائياً في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا، ففي كل قطر من هذه الأقطار توجد فرقة واحد متخصصة بالموشحات الأندلسية في الأقل، وتلقى دعماً شعبياً وحكومياً، ويتم بث أعمالها عبر الإذاعة المسموعة والمرئية التابعة لهذه الأقطار بشكل متواصل، أما سبب هذه الاهتمام بالموشحات في هذه الأقطار فهو أنها ورثتْ الموسيقى الأندلسية وإيقاعاتها جُملةً قبل سقوط الأندلس بقليل وبعده عبر رحيل الأندلسيين من الأندلس إلى البلاد المجاورة وكان، أولها المغرب الأقصى ثم تسللوا إلى الجزائر وتونس وليبيا، من ناحية، وإلى مصر عبر البحر حيث الإسكندرية من ناحية أخرى، واستيطانهم في هذه الأقطار، ومما لاشك فيه وجود أحفادهم وأصولهم إلى الآن هناك، وقد التقيت أنا شخصياً ببعض هؤلاء الأحفاد الأندلسيين في تونس، وزرت بعض المناطق التي استوطنوها عند وفودهم على تونس، ووجودهم يعني بالتأكيد وجود شيء من الأصول ومنها طرائق الحياة اليومية وأنواع الطعام والحلويات ولا نستثني طبعاً الفنون الشعبية والغناء ومنه الموشحات. واستناداً إلى هذا فإنَّ أقطار المغرب العربي هي سدنة هذا الفن.
هذا من الناحية الغنائية الموسيقية، أما الموشحات بوصفها فناً شعرياً فقد حاول جملة من الشعراء تتبعه والنظم عليه في الوقت الحاضر، وأنا منهم، ولكن في حدود ضيقة جداً، غير أنَّ المؤسسات الأكاديمية والعلمية ما زالت تولي هذا الفن أهمية وتجعله في عداد مفرداتها ومناهجها العلمية، وأعني كليات الآداب والعلوم الإنسانية وأقسام اللغة العربية والأدب تحديداً، حتى أن بعضاً من هذه الكليات تعتمد كتابيَّ: "الموشحات في بلاد الشام" فيما يتعلق بالموشحات من حيث هي فن شعري وعلاقته بالغناء، و"عروض الموشحات الأندلسية" فيما يتعلق بأوزانها وقوافيها وأبنيتها، ضمن مناهجها الدراسية في عدد من أقطار الوطن العربي.
ومع ذلك فإنَّ هذا الاهتمام يُعَـدُّ متواضعاً جداً بالموشحات الأندلسية في الوطن العربي، لا يليق بفن شعري يُعد ثورة ً عَروضية شعرية لا يمكن دراسة العروض العربي وحركاته دونها.
* هل استطاعت الموشحات أن تتحدث بجدارة عن الحب والجنس؟.
- كان من أهم دواعي فن التوشيح في الأندلس هو الخروج عن المألوف والحشمة في فنون القول، ومن جملة ذلك سفساف الكلام والإحماض والتقاط الكلام النازل مما يدور على ألسنة الفئات السفلى في المجتمع، وكان من بين ذلك عبارات سوقية ومعان جنسية وجنسية شاذة. ولعل هذا يُفسِّر لنا ما واجهته الموشحات من رفض أشرت إليه في جواب السؤال السابق. وقد جوبهت بالرفض لأنها ببساطة شديدة فن قام على هذا الأساس من الخروج عن المألوف والمحتشم فضلاً عن أنها فن شعبي يتغلغل في فئات الشعب ويبلغ أثره في مختلف الأوساط الشعبية، فقد كان الوشَّاح يبني موشحته على جملة شعرية يَعُدها سلفاً ويجعلها الأساس ويبني عليها سائر أجزاء الموشحة حتى يصل إلى آخر جزء فيها وهو ذلك الأساس المعَد سلفاً وبه تنتهي الموشحة، ويُسمى "الخَـرْجة"، أما شروط الخرجة فهي أن تكون كما وصفنا من الخروج عن المألوف والحشمة ، فضلاً عن اضطرار الوشاح إلى استخدام الألفاظ كما وردت على ألسنة العامة، عامية ً أو أعجمية، ليحدث مفاجأة واستظرافاً لدى المتلقِّي.
أما معاني الحب والجنس فقد وفرت في الموشحات وفرة واضحة، واستطاعت الموشحات أنْ تقترب اقتراباً شديداً من هذه المنطقة المحرَّمة في الأدب العربي، حتى في أشد العصور الأدبية التزاماً بالموروث والتقاليد، وأعني العصور المتأخرة، وفرضتْ سطوتها على الأدب المكتوب المقروء.
غير إن هذه الخاصية أضرَّتْ بهذا الفن، فلاشكَّ في أنَّ نصوصاً كثيرةً ضاعتْ ولم يتمَّ تدوينها في الكتب لما كانت تتضمنه من إشارات وتلميحات جنسية فاحشة لم يكن المجتمع كله مُهيَّئاً لتقبلها، ولن يكون، فالتيار المحافظ الذي يفترض وجوده في كل زمان ومكان يَعدُّ مثل هذا الفن خروجاً على الحشمة والآداب وخادشاً للذوق العام، ومُجافياً لتعاليم الأديان، مع إمكان تداوله في أضيق الحدود.
* أصبحت الساحة الآن مليئة بمن يسمون (شعراء) وكذلك تجتاحنا الآن الكثير من القصائد - أنت كشاعر، كيف تعلل كل هذا الكمّ؟
• لم يكن من السهل، خلال القرن الماضي، مزاحمة الشعراء المرموقين في الصحف والمجلات ومجالات النشر الأخرى، وكان على المستجدين من الشعراء الحفر في الصخر حتى تنشر لهم قصيدة في الصفحات الثقافية دون الصفحات التي تُعنى بالمواهب الشابة، وقد عانى جميع الشعراء من ذلك، وأنا منهم طبعاً، فعندما كانت تُنشر لي قصيدة في صحيفة أو مجلة معتبرة في العراق أو قطر عربي يكون ذلك بمثابة بُشرى من البشائر، وفرحة من الأفراح، وكانت الصحف والمجلات تنشر برقابة تحكمها ضوابط ومواصفات غالباً ما تكون عالية، أو عالية جداً ليكون النص مؤهَّلاً للنشر بغض النظر عن اسم صاحبه الجديد، وإلا فلا استغناء عن العلاقات التي تحكم الأوساط الصحافية طبعاً، ولاشك في أن تلك الرقابة كانت تشكِّل صمّام أمانٍ للقصيدة من الانفلات من الضوابط الفنية، فكان النشر آنذاك يستحق الفخر بجدارة. فلما بسطتْ الشبكة العنكبوتية جناحها على آفاق العالم المترامية صار من السهل جداً أن ينشر الكاتب ما يكتب، ومن الصعب أن يعرف أنه شاعر حقاً وأن ما يكتبه شعر، ولكنه يظن... يظنُّ فقط، لأن النشر عبر هذه الشبكة لا تحكمه مثل تلك الضوابط إلا في حدود ضيقة جداً، وقد سهل أمر النشر حتى صار بإمكان أي شخص أن يفتتح موقعه الألكتروني الخاص ويدَّعي فيه الشعر والرواية والقصة والنقد وغير ذلك وينشرها في الآفاق، فيستقل بنفسه، هذا فضلاً عن أنَّ شيوع ظاهرة "النثيرة" أو ما يسمونه بـ"قصيدة النثر" التي لا تفرق عن الخاطرة في كثير من الأحيان شكلاً ومضموناً، يجعل الكثيرين ممن يحبون أن يُحشروا مَحشرَ الشعراء يستسهلون الكتابة، وما دامت كل مجموعة أسطر فيها معانٍ وربما تشبيهات يمكن أنْ تُسمَّى قصيدة فلمَ لا يكون ثلاثة أرباع الشعب العربي شعراء؟
يُضاف إلى ذلك أنَّ النقد فقد سطوته على الشعراء، لأن أغلب النقاد اتجهوا إمَّا إلى التنظير دون التطبيق، أو أخذوا يتناولون بالنقد أعمال الشعراء المبرّزين أو الشعراء الأصدقاء، وغالباً ما يكون هذا النوع من النقد متسربلاً بالمجاملات. ولهم الحق في ذلك، فليست هناك جهة تدعم النقد وتشجع النقاد على المزيد من النتاج النقدي، حتى صارت الجهود النقدية بلا طائل. ولولا الجامعات التي تُعنى بعض أقسامها بالنقد الأدبي والأكاديميون لغابت ملامح النقد الأدبي الحقيقية وضاعت معها آخر ما يُرجَى من الرقابة على النتاج الشعري خاصةً والأدبي بشكل عام.
* حسب اعتقادك هل من الممكن ظهور(حالة أو ظاهرة ) في خضم كل هذا الكم الهائل من الشعر، خاصة بعد رحيل الشاعرين الكبيرين محمود درويش، ونزار قباني؟
• ليس الشعر حكراً على شاعر أو عدة شعراء دون سواهم، وليست الموهبة كريمة في زمانٍ أو مكان وعصيّة في زمان أو مكان آخرَين، فلو كان الأمر كذلك لمات الشعر بعد امرئ القيس وكعب بن زهير في العصر الجاهلي، أو بعد الحطيئة والنابغة الجعدي في عصر صدر الإسلام، أو بعد عمر بن أبي ربيعة وكثير عزة في العصر الأموي، أو بعد المتنبي وأبي تمام في العصر العباسي، أو بعد البوصيري وصلاح الدين الصفدي في العصور المتأخرة، أو بعد محمود سامي البارودي وأحمد شوقي في مطلع العصر الحديث، أو لمات في المهجر القديم حيث أسبانيا الإسلامية بعد ابن زيدون ولسان الدين بن الخطيب، أو في المهجر الحديث بعد إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران. فهل ترى أن الشعر سيموت دون أن يلد ظاهرة أخرى أو أكثر بعد رحيل قباني ودرويش، ومهما ازدحم الشعراء والمتشاعرون؟
على أنني أرى، وبحسب اطلاعي على الأدب العربي في عصوره المختلفة، أنَّ كثيراً من الشعراء العظماء لم يصبحوا عظماء بمجرد موهبتهم الفذة، بل لأن ظروفاً عظيمة سخَّرتْ لهم أسباب العظمة، وشحذتْ مواهبهم، ونَـثرتهم في آفاق الذيوع والشهرة، وهناك كثيرون سواهم ربما أفضل منهم لم تشأ تلك الظروف أنْ تمنحهم بعض عطاياها، وعدم تكافؤ الظروف، وهي فُرص، هو الذي يمنع انتشار أكثر من عدد ضئيل من الشعراء ليشكلوا ظاهرة، فليس كل الشعراء نهازين للفرص، أو قادرين على انتهازها.
أقول هذا ويرتسم في ذهني مشهد القنوات الرسمية لشيوع الشعر حيث بلاط الحاكم وأبواقه، غير أنني أرى، في الوقت ذاته، أنَّ الشعراء الآن، ومع انتشار النشر الإلكتروني لم تعد بهم حاجة لتلك القنوات، حتى يصبح البعض منهم ظاهرة، هم يحتاجون فقط إلى الحافـز والقارئ الجاد الذي يهتز للشعر وينحني أمام القصيدة!
* ما رأيك بروايات الروائية دينا سليم، وحسب علمي كتبت نقدا عن روائية (الحلم المزدوج) التي كانت صرخة احتجاج ضد الحروب المستمرة في العراق، وقلت في حينه بأنها روائية فلسطينية تكتب بنبض عراقي؟
• دينا سليم امرأة ذات مبادئ إنسانية نبيلة، وجذور متأصلة في الانتماء والوطنية قبل أن تكون روائية وكاتبة، وقد ساعدها ذلك على اقتحام موضوعات ذات قيمة متجددة ومتجذرة في آن، على وفق إحساس صادق وتجربة نافذة، ولذلك يجد القارئ قناعة وقبولاً في ما تتناوله في رواياتها من قضايا بدءاً بروايتها "الحلم المزدوج" وليس انتهاءً بـ"الحافيات"، أما اهتمامها بأحداث العراق المعاصرة فلأنها عاشت في وطنها الأول فلسطين فضاعات مشابهة، وكابدت كثيراً من الأحاسيس التي كابدها وما زال يكابدها أخوها العراقي، ونحن – العراقيين- نشعر دائماً بالصلة الوثيقة بالشعب الفلسطيني، فكأنه أقرب الشعوب العربية إلينا، ولذلك فلا غرابة أنْ تكتب دينا سليم بنبض عراقي، ولا غرابة في أن تستمد موضوعاتها السردية من مكنون ذاتها المجبولة على العمق الإنساني بغض النظر عن الولاءات الصغيرة، وبالتركيز على قضايا المرأة والتقاليد الأصيلة والقاسية أحياناً في مجتمعاتنا كما هو الحال في رواياتها الأخرى. وأراها تلح في تطوير أدواتها السردية وتقنيات الرواية الحديثة ولاسيما ما يتعلق بالزمكانية وتعدد الأصوات وتداخلها.
• * باعتقادك هل قصيدة النثر أصعب من القصيدة الموزونة، وهل الشعر تبليغ المعنى والمضمون أم تبليغ الشكل الذي حمل فيه المعنى؟
• لا أعرف منثوراً أصعب من موزون على الإطلاق، فذلك شيء نعرفه بالمنطق والبديهة. كما لا ينبغي أن يكون الموزون غُفلاً من المعنى والغاية، فالوزن هو شرط واحد من شرائط الشعر، وعلى النص الشعري ألاّ يغفل عناصر الإبداع الأخرى، أما النثر فلا يحتاج إلى وزن مع أنه يحتاج إلى ما يحتاجه النص الشعري وأشياء أخرى إضافية، وهذا هو الفرق الحاسم بين النمطين، والنص الموزون وهو ضعيف سخيف متهافت لا يصلح مثلاً لرداءة الشعر الموزون وعدم أهمية الوزن، كما لا يصلح النص الشعري البليغ متكامل الصنعة دليلاً على الاستهانة بفنون النثر الراقية.
والشعر فن من فنون القول عليه تبليغ المعنى والشكل في آن، فالشكل بناء، ولكل فن من الفنون بناؤه الخاص به دون سواه، ولا فنَّ بلا قواعد ولذلك فهو فنّ، وإقحام شكل النثر في الشعر عمل لا علاقة له بالشعر العربي الأصيل، وإنما هو من عمل الغربيين مستورداً، فكما أن الرواية تبليغ معنى في شكل رواية، والقصة القصيرة تبليغ معنى في شكل قصة قصيرة، والخاطرة تبليغ معنى في شكل خاطرة فكذلك الشعر، وعلى الشعر أنْ يشي بنفسه من خلال إيقاعه وشكله المائزَين، كما تشي القطعة الموسيقية بنفسها فيختلف إيقاعها عن نقيق الضفادع!
* كيف تنظر الى القصيدة النسائية، وهل المرأة الشاعرة قادرة على التعبير عن هموم المرأة أكثر من الرجل؟
• أنظر إلى القصيدة النسائية وكأنني أنظر إلى أنثى أستشف منها قدر أنوثةٍ، ومياسم جمال، ونسائم روح، ومعالم فِكر آخر، وأفترض فيها التعبير عن همومها أكثر من تعبير سواها عنها، وهي كذلك لو توفرت لها البيئة المناسِبة، والأرض الخصبة، والمناخ الطبيعي، وهي هكذا لو لم يُحجَر على مشاعرها في مجتمعاتنا، ولو لم يَسرق الرجل منها ملامح شخصيتها، وحقوقها كإنسان، ولو لم يسلبها المساواة، وهكذا رأيناها عندما توفر لها ما ذكرتُ في عددٍ من البلدان العربية، وإنْ كان ضئيلاً، ولكنه يصلح مثلاً خَلاّقاً لما نحن بصدده، كما رأيناها في المجتمعات التي توفر لها مساحة واسعة من الحريات والحقوق والمساواة، غير مجتمعاتنا.
وليس من رجلٍ قادراً على التعبير عن هموم المرأة كالمرأة نفسها في الشعر وفي سواه، كما أن لتعبير المرأة عن المرأة طعماً ليس معدوداً في إمكانات الرجل، ولا ينبغي له ذلك، بدءاً بالكلمة وهي تنفرط من بين شفتيها كقطعة سُكَّر، وانتهاءً بها وهي تكتبها بأناملها الرقيقة، ووراءها قلب أنثوي رقيق خفَّاق.
أنا أقرؤ قصيدة الشاعرة وكأنني أتفحص جسداً من بلُّور!
• * هل يوجد قصيدة ما في خاطرك إلى امرأة، أو ملهمة، لا تريد أن يعلم بها الآخرون؟
• تلك قصيدة لم تكتبني بعد!
ممكن مقطع منها.
* ما هو أجمل بيت شعر بالنسبة لك.
هو ذلك البيت الذي كلما طرق سمعي فكأنني لم أسمع به من قبل، فأندهشُ له، وأطربُ، ويتجددُ به إعجابي، كبيت المتنبي في الغزل:
أتُراها لِـكَـثرةِ العُـشَّاقِ.... تحسبُ الدمعَ خِلقة ً في المآقي؟!
وكبيت أبي بكر الداني في المديح:
لم يُبقِ جودُكَ لي شيئاً أؤمِّــلُهُ.... كأنني أصحبُ الدنيا بلا أمَلِ!
* من هو أحب الشعراء إلى قلبك.
• هو الشاعر الذي يكتب عند الوحي وسطوع الموهبة، وإذا كتب لا يزيد في القول عما يريد ولا ينقص، وكلما قال قصيدة تمنيت لو كنت أنا قائلها، فأغبطه حيناً وأحسده حيناً، وإذا تناول معنى استطرفُه مع أنه مبذول متداول، فإذا نظم الكلام فكأن الكلام وُجد منظوماً دون وساطة، لبساطته وسهولة تناوله، فأرى صغائر المعاني تعظم في قصيده، ويتناول القريب وكأنه بعيد، والبعيد وكأنه قريب فيسبقني إليه، فإذا عثرتَ على مثل هذا الشاعر فقلْ: هو ذاك!
* إن كنت تريد أن تصب غضبك بقصيدة، لمن؟
• الموت
جدير بالذكر انه كان استاذي ايام الدراسات الاولية (البكالوريوس )في التسعينيات ودرست عليه النقد الحديث والادب الاندلسي الذي كان تخصصه.