بنية الخطاب المضمر في قصيدة [ست شهادات في حضرة الموسيقى] لحميدة العسكري
– مقــاربــــة هرمينوطيقية (تــأويـليـــة) –
د.صباح التميمي
جامعة كربلاء _كلية التربية
7/2/ 2014م
ينبثق الشعر من رحم الحياة بتمفصلاتها المختلفة، فيحتضن الخطابات المتعددة التي يبثها الشاعر بوصفه انسانا من طراز خاص، يعيش ، يعاني، يندثر بدواماتها الدائرة، لكنه يبوح بمكنوناته بخطاب فني خاص، خطاب ينسلخ عن العادي اليومي المتعارف، ليندمج في الفني النخبوي المضمر، فيشكّل بذلك مدارا يباين الشائع ، ويتكلم بلسانه في آن معا ، يبزغ من كوّته، لكنه يتلون بغير لونه ، ويتأتى له ذلك من لغته التي يبنيها معمار متمرّس، خَبِرَ اللغة، وشرب ماء حروفها حد الثمالة ، لذا نجده حين يختلي بنفسه (الشاعر)...ينهمر متمزقا...يرتعد لساعات...ثم يخلق دميته العجيبة...تلك المسماة (قصيدة)...
لذلك يجلس الشعر الجيّد على عرشه بعيدا عن نسغ الخطابات المعتادة ، ويتحدث بما يدور بحديث قدسي خاص، يحتاج الى تنبؤ ، وكهانة، وتأويل ، حتى يُتوصل إلى فضاءاته الدلالية الشاسعة ، ومن هنا كانت المقاربة التأويلية من بين أفضل المقاربات التي تسبر أغوار النص الشعري المتمكن ، وتصل ساحله بأمان ملموس .
وفي هذه الورقة البحثية المبتسرة نحاول أن نقارب – مقاربةً تأويليةً - نصَ شاعرةٍ عراقية معاصرة من مدينة السياب العظيم ، (البصرة الفيحاء) وهي الشاعرة حميدة العسكري والموسوم بـ(ست شهادات في حضرة الموسيقى) ، كي نفلّي أنساقه ، ونكشف عن مضمره، فنُسهم في انتاجه – قدر المستطاع – انتاجا يقرّبه الى عالم التلقي...وقبل القراءة لا بدّ لنا من عرض النص بالكامل أمام المتلقي لدواع منهجية :
أولا : النص :
(ست شهادات في حضرة الموسيقى)
-1 –
مرةً اغمضْتُ عينينِ فارغتينِ ،
مذهولتينِ ،
على حشرجات نايٍ ثاكلْ فامتزجتْ آهُهْ بآهاتي ،
ليجتاحَ جُموحاَ ، في غورِ الروحِ
آآآآهٍ ...آهٍ من آهاتي
وعلى البعدِ ،
لمحْتُ بشوقٍ ناياً يشدو في جنباتِ الوادي الغافي يبعثُ في شرياني ،
وجْداً،
مطراً من آهاتٍ ، يجمحُ بالشكوى ،
والفرحِ الآتي خلف جدارِ الوجد ِ يتكورُ كرةً،كرةً تقفِزُ
،تمرحُ تحلُمُ بالحُب المسكونِ بالمطر الاشهى يغسلُها، نشوى
-2-
مرةً ، اغمضتُ العينينِ
فاغتسلَتْ أحلامي ،
بالعطرِ المشرقْ ورؤىً تترى .. من قطراتِ العطرِ المشرق
ياربَّ الطفلِ الغافي ،
يحلُمُ باللُّعَبِ وبالحلوى ،
اشرِقْ نوراَ أنت النورُ كي تبعثَ في كافٍ والنونِ لُعَباَ ، حَلوى
-3-
مرة اغمضتُ العينينِ ،
والنايُ يُداعبُ أوردةَ ترسُفُ في أغلالِ الوجد... تسبحُ في روحي ، في اِلحاحٍ،
في غوري والغورُ يُنَشِّرُ أشرعةً تُبحرُ، نحو الارضِ القفرِ
والفقدُ يضمِّخُها ، بالحزنِ الدائبِ فتُثيرُ الكامنَ من صمتي نجوى
-4-
مرةً اغمضتُ العينينِ
على طيَّاتِ الروحِ،
وسافرْتُ الى أرضٍ أخرى من ماسٍ مصَّدِّعْ
لملمْتُ الاجزاءَ المكسورةَ ورحْتُ أصفُّ الاجزاءَ ، ولمَّا اكتملَ الشكلُ انعكسَتُ فُوضى
-5-
مرة اغمضتُ العينينِ
قراءةٌ أُخرى قرأْتُ في كتابِ العمرِ ماتسطَّرْ من ألمٍ ،
فيضِ الحب الغامر
جُرحٌ غائرْ
فتداعَتْ عندي أنغامُ النايِ المغروسةِ في عمقِ البلوى
-6-
مرة أغمضْتُ العينينِ
أجواءٌ ممطرةٌ تنشُرُ حزناً من عمُقِ الماضي
يتدفقْ تأخُذُني الاجواءُ فتزرعُني
في زمنٍ مشحونِ الافُقِ بفقدي ساخَتْ فيهِ ،ثم توارَتْ سلوى
ثانيا : المقاربة :
منذ العتبة الأولى (العنوان) تكشف لنا الشاعرة أوراقها الخفيّة ، حين تفتح النصّ على مصراعيه من خلال العنونة المشفّرة : (ست شهادات في حضرة الموسيقى)...وهذا يشي بأمور عدة منها أن قوّة أخرى تسيطر على الذات فتنتزع منها الاعترافات في عالم هذياني ، زمكانه مفتوح ، شاسع ينضوي تحت اللامحدود ... هي اعترافات لكنّها تقدّم في حضرة قاض من طراز خاص ، قاض رومانسي ، جميل ، جسده مؤلف من نوتات موسيقية ، ونغمات عذبة، إنه السيد (الموسيقى) ، أي اعترافات هذه إذن ؟! ، تلك التي تقدّم لهكذا حاكم ، لا شكّ إنّها اعترافات رومانسية حالمة ، إنّها الارتماء في أحضان العالم الحلمي الشفيف ، هربا من ضجيج الواقع وعالمه المر .
وحين نتمعن في جسد النص أكثر ... ونستشرف بنية خطابه المبثوث ، في محاولة منا لمسك أدلة أخرى تسند إيحاءات العتبة العنوانية نعثر على كومةٍ من علامات تحمل مدلولات تصبّ كلها في الغرض نفسه : (العودة إلى العالم الحالم) ، العالم الطفولي الهادئ، الظاهر في الدوال الآتية :
( نايٍ ، ناياً يشدو ، جنباتِ الوادي ، مطراً ، تحلُمُ بالحُب ، بالمطر ، أحلامي ، قطراتِ العطرِ المشرق ، الطفلِ الغافي ، يحلُمُ باللُّعَبِ وبالحلوى، تسبحُ في روحي ، والغورُ يُنَشِّرُ أشرعةً ، تُبحرُ ، سافرْتُ الى أرضٍ أخرى من ماسٍ مصَّدِّعْ ، فتداعَتْ عندي أنغامُ النايِ ، أجواءٌ ممطرةٌ يتدفقْ تأخُذُني الاجواءُ فتزرعُني...) كل هذه الدوال تحيل على مدلولات رومانسية نابعة من المعجم الرومانسي الحالم ، الذي ينهل من معين (الاتجاه الرومانتيكي) في الشعر، حيث الهدوء، والسكينة، والطمأنينة...والارتماء في أحضان الطبيعة الناعمة .
وتضغط الشاعرة في كلّ مقطع من النص على دوال معيّنة لتجعل منها بؤر النص الدلالية المضمرة ، فتكررها ، وتلحّ عليها ؛ لتعطي للمتلقى بصيص ضوء أخضر يدلّه على مراد النص ، ومنها تكرارها تركيب (مرّة أغمضت العينين) الذي تكرر في بداية كلّ مقطع ، ليكشف عن أن القصة التي مرّت بها البطلة (الشاعرة) ، لم تكن في ظل (فتح العينين) المعادل الموضوعي لليقظة ...للعالم الواقعي ، المناقض – في الوقت نفسه - لـ(إغماض العينين) الذي هو بمثابة إعلان عن دخول العالم الآخر...عالم الحلم...، فضلا عن إلحاحها على لفظة الحلم نفسها ؛ إذ ترددت في النص أكثر من مرّة ، مما يؤكّد فكرة رغبة الشاعرة في العيش في هذا العالم (عالم الحلم) ، والركون الى الدعة في ظله .
إذن فخطاب النص المضمر يحاول الانفكاك من قيد الواقع ، الذي يجثم على صدر (الذات الشاعرة) بقيوده المختلفة (اجتماعية...سياسية...الخ)، ويكبّل ذاتها الهادئة التي تحبّ الانسلال الى عالم حرّ جميل يظهر كلّ منا فيه على حقيقته ، ولم تجد غير إغماض عينيها ، والذوبان في فضاء حالم علّها تلقي عصاها من الترحال الطويل المعذب الذي قضته في فضاء الواقع المرير...
ومن هنا يبدو أن النص الحلم هو المفر الوحيد من العالم الواقعي المتوحّش ، الذي لا يتلاءم مع سيكولوجية الذات الشاعرة ؛ لأن الشاعر – عامة - فنانٌ شفيف ، ومن طبيعته الركون إلى الدعة والهدوء والسكينة ...وكلّ ما تحمله دلالة (رومانس) من معنى ، وهذا ما بدأ يفتقده في ظل العصرنة الزاحفة ، والعولمة والحداثة التي ملأت العالم صخبا ، وخوفا ، وظلما...فما كان للذات الشاعرة إلاّ أن تسافر بعيدا في فضاء الحلم بوصفه المخلّص الوحيد – ولو لهنيهات وجيزة – تبدأ منذ أن يولد النص، وربما تنتهي بانتهاء مدة رسمه على الورق...
وفي الختام نختم بما قاله ( ديلتاي ) عن مراد النص حين رأى : (( إن النص يعني ما عنـاه المؤلف وهو معنى قابل للتحديد , ويبقى ثابتاً عبر الزمان يستطيع إعادته واستنتاجه كل قارئ كفوء )) ، ولكن قراءتنا هذه لا تدّعي لنفسها الكفاءة بقدر ما تدّعي لنفسها مقاربة النص مقاربة احتمالية قابلة للتغيير ، والأخذ والرد...