الرموزالشخصیةعندالسیاب:
في هذه المقالة نتطرق إلی موضوع الرموز الشخصية و ماهيتها و کيفية استخدامها من قبل شاعرالحداثة العراقی بدر شاکر السياب کـ(الموت والبعث، جيکور، بويب، الماء- المطر، وفيقة). فالرمز الشخصي « هو ذلک الرمز الذي يبتکره الشاعر ابتکاراً محضاً أو يقتلعه من حائطه الأول، أو منبته الأساس ليفرغه جزئياً أو کلياً، من شحنته الأولی، أوميراثه الأصلي من الدلالة، ثم يشحنه بشحنة شخصية، أو مدلول ذاتي ».[1]
قد سعی شعراء الحداثة لإخراج القصيدة من الجفاف و الجمود الذي أصابها إثر بقاءها علی أساليبها القديمة، و شرعوا في الإکثار من استخدام الرموز المختلفة في نتاجاتهم الأدبية و حتی توصلوا إلی تغييرات في الرؤيا و الأسلوب و الوسائل و الأدوات. و استطاعوا في مراحل التطوير و التجديد أن يستغنوا عن لغة الشعر الأولی و ذلک بتطوير مفرداتها، في الدلالة و الإيحاء و التعامل مع اللغة علی أشکالٍ جديدة. و لکن ما اقتصرت جهود الشعراء الجدد علی توظيف الرموز العامة، بشتی انواعها، و شتی مصادرها (بابلية، اغريقية، مصرية و...) بل تجاوزوا هذا الحد إلی رموزٍ اخترعوها حسب حاجاتهم إليها کما احضروا المستلزمات المُلَحّة الأخری التي جعلت القصيدة الحديثة اکثر مرونة و قابلية للتحرک في أعماق تجاربهم الخاصة. و اکثرتناسب مع روح الحداثة و العصر و الفهم الجديد و الذوق الحديث الذي بدأ استياءه من الأساليب القديمة في الشعر و الأدب.
کان الشاعر الحديث رغم جهوده في « انعاش الرموز الجاهزة العامة» [2] وانتاجها حسب تجاربه الخاصة، يعاني صعوبات کثيرة أثناء هذه العملية لأن « لکل رمز من تلک الرموز (العالمية) تاريخهُ الخاص، و له دلالته الأولی، و هي دلالة شائعة و رصينة، فقد کان يکابد کثيراً لتطويع الرمز و عزله عن ماضيه، فهو لايستطيع أن يجرّده تماماً عن دلالته المتوارثة، بل يظل ذلک للماضي، يطل بين آونة و أخری، يظل يخالط دلالته الجديدة و يمتزج بها.»[3]فمن أجل التخلص من هذا العناء في طريق استخدام الرموز و التجديد في القصيدة الحديثة قد « لجأ الشاعر الحديث ألی رموزه الشخصية، في بعض تجاربه، ليوفر علی نفسه عناء مصارعة الرموز العامة، و ملاحقة ماضيها له ».[4] إذن نستطيع القول: بأن الرمزية هي محاولة لإيصال المشاعر الشخصية المتفردة إلی ذهن المتلقي و إن في أدب کل أمة توجد رموز تقليدية: « ففي العربية يوجد القمر، السيف، الهلال و الصليب (و الأخيران حديثان نسبياً في مضمونهما) و.. فهذه جميعاً تحمل معاني يعرفها الجميع. لکنَّ الشاعرَ الرمزي لديه رموزهُ التي تخصُّهُ من دون غيره و هذه بالطبع أکثرصعوبةً في التأويل، لکنها اکثر إثارةً و جدوی ».[5]
و في مفهوم الرمزية الشخصية، إنما لدی السياب رموزٌ شخصية متفردة هوخالقها الذي يلقيها علی أذهننا لنتفاعل معه من خلالها و نتأثّر بها. و تقول سلمی الخضراء الجيوسي في هذا الصدد: « و مع أن السياب و هو البارع في الإستعارة، يستخدم بعض الرموز الشخصية .. و اکثر رمزين يستخدمها السياب هما القرية و المدينة» - رمزان للبراءة و الکرامة الإنسانية من جهة و رمزان للإضطهاد و المادية و الغربة من جهة أخری- و هما قد أصبحا رمزين عامين في الشعر العربي الحديث، و جزءً من الأعراف الشعرية الحديثة المستقرة ».[6]نعم قد ورد هذان الرمزان في دواوين الشعراء الآخرين و استُخدمتْ من قِبلهم حتی أصبحتا رمزَينِ عامينِ في الأدب العربي المعاصر و قد بيّن احسان عباس موقفَ کلٍّ من السياب و البياتي و نازک الملائکة و خليل حاوي من هذين الرمزين في کتابه "إتجاهات الشعرالعربي المعاصر".
اما من بين الرموز الشخصية التي انفرد بها السياب نذکر رمز الموت و البعث الذي تردد في ديوانه کثیراً. و جيکور( مسقط رأس الشاعر) و بويب ( النهرُ الذي ذکره السياب کثيراً فی ديوانه و هو يجري قرب منازل أهله و ذويه) و وفيقة ابنة عمّ الشاعر و حبيبته التي تزوجت من غيره ثم ماتت في سنٍّ مبکر. للسياب المقدرةُ الکافيةُ لکي يجعل من هذه الرموز الشخصية، رموزاً مشترکة ذات وقع ٍ و تأثیر ٍ في أعماق المتلقّي.
أ- الموت والإنبعاث:
رغم أنه يقال :« ليس بين الغرائز التي نملکها غريزة مستعدة للإعتقاد بالموت».[7] لکن الإنسان لم يکد أن يخلو بنفسه حتی تغزو عقله فکرة ُ الموت وذلک العالم الغريب الذي يفتن العقول ويحيرها بغموض ماهيته ،ورغم أن بدرشاکرالسياب يقول في رسالته إلی عاصم الجندي : « لم أعد أخاف منه(الموت) .. أشعرأنّي عشت طويلاً. لقد رافقت جلغامش في مغامراته وصاحبت عوليس في ضياعه وعشت التاريخ العربي کله. ألايکفي هذا؟ » لکن هذه الکلمات قدتنبعث من يأسه الطويل وألمه الکبير.« وقد بدا في معظم قصائده کئيباً، متألماً ، محبطاً. و ربّما لو قيّض له أن يعيش مدّة أطول مع امّه وأبيه لتغيّر نمط حياته. مذ وعی ذاته ،وهويحارب نظرات الناس إليه ، و الفقر، و الإخفاق في الحب، حاول الوقوف ثانية والنضال. ولکن الشلل کان يتأکل قواه شيئاً فشيئاً ، فيتمنّی الموت للخلاص من الشقاء ، و العودة إلی امّه ».[8]
فلذلک عاش طول حياته يحلم بأيام الطفولة والعودة إلی صباه لأنه « يجد في الماضي عزاءً عن الحاضر، بل هو يزخرف الماضي لأن في ذلک التمويه تعويضاً عن قسوة الحاضر».[9] « فکثيراًً ما خضّب اليأس صرخاته الموجعة، و هو يهرب من جحيم الواقع إلی جهنّم خياله. غيرأنه، کان- کلما دنا الموت منه- يتشبث بالحياة أکثر، و يأسف لمرضه و ضعفه، و عجزه عن التمتع بلذاتها؛ ذلک أن موتنا هو بالفعل أمرلا يمکن تخيله. و کلما حاولنا أن نتخيله ندرک أنا في الواقع نعيش کمشاهدين ... و کل واحد منا – في اللاشعور- مقتنع بخلوده الشخصي. و هوعلی فراش الموت، يظلّ يأمل في استعادة صحّته، و في الهروب من قبضة القدر، علی الرّغم من استعجاله القضاء، لکي يتخلّص من ألمه و عذابه.
موتٌ يَجيءُ کأنّهُ سِنَةٌ
و يمسّ آلامي فينهيها [10]
لقد وجد نفسه وجهاً لوجه أمام شبح الموت، فتجاذبته عاطفتان متناقضتان: واحدة تشدّه إلی الحياة و إلی عائلته، و ثانية تدعوه إلی لقاء امّه الميتة. و لم يکن يملک الخيار، و إن رجحت کفّة الأولی، لأن جسمه بات أوهی من أن يقاوم و لأن قواه العقلية وهنت هي أيضاً، و راح يغرق، من حين إلی آخر، في حمّی من الهذيان الممّض، الطالع من لاشعوره المظلم، مشبعاً بالقلق و الخوف. کان يخشی رحلة المجهول، لأنه أحب الحياة بکل حواسه، و مال إلی اللذات الجسديّة باکراً، محاولاً تقليد «بودلير» و «بايرون» و «الياس ابوشبکة» في شعره. و حطّم القبح شخصيّته، و المرض جسده، إلاأن ذلک زاد في توقّد أحاسيسه، و لاسیّما بعد ما عجز جنسيّاً. و من هنا کان تمسکه بالحياة حتی آخر رمق.[11] و السياب بسبب تعرضه لتحولات مختلفة في نظرته الفکرية اصبحت لديه مواقف شعریة مختلفة أيضاً و هو في قصائده يصور نفسه- علی حدّ تعبير احسان عباس- « ميتاً يُبعث ، رامزاً بذلک إلی بعث الأمة العربية و ذلک هو ما غلب عليه في عهد اتجاهه القومي ، و لعل قصيدته « في المغرب العربي » خير مثال علی ذلک ، و فيها يتخيل أنه ميت – مع موت المجد العربي و الحضارة العربية - إلا أن هذا الموت ، سيستفيق و لابد لأنه – لايمکن أن يحيا دون الماضي فهما يَهبان معاً من القبر.
و من آجرَّةٍ حمراء ماثلة علی حُفره
أضاء ملامح الأرض ِ
بلا ومض ِ
دمٌ فيها فسماها
لتأخذ منه معناها
لأعرف أنها أرضي
لأعرف أنها بعضي
لأعرف أنها ماضيَّ، لا أحياه لولاها
و أني ميِّتٌ لولاه، أمشي بين موتاها
و هذا البعث، يتغلغل أيضاً في ثنايا قصائده التي قالها و هو يشهد- مقاوماً- حرکة المد الشيوعي في العراق، فقد اعتمد فيها اللجوء إلی أسطورة أدونيس و عشتار، وکان يستمد من الأسطورتين و أمثالها شعوره بأن الخصب لابد أن يخلف الجدبَ، و أن التضحيات لن تذهب سدیً.[12] و غالباً ما رأی في نفسه فادياً يضحّي بذاته في سبيل الآخرين، کأنما شاء تبرير موته الذي يستحيل حياة، بعد القيامة، مستفيداً من صلب المسيح و موته و قيامته، عندالمسيحيين. أو قد يتماهی في تموز فيقتله الخنزيرالبرّي، وتولد جيکور من جرحه:
سينبتُ الإلهُ، فالشرائحُ الموزعّه
تجمّعتْ؟ تململتْ، سيولدُ الضياء
من رَحمٍ ينزّ بالدماء.
و هکذا، ظلّ الموت يلاحقه، و استمر هو يذکره و يستدعيه. و لم يَطلْ انتظاره له، فجاءه بعد معاناة طويلة. و تحول قبره، في النهاية، من مغارة يعشّش فيها العفن و الصّقيع، إلی رحمٍ طالما تلهّف للعودة اليه.[13] ثم نری حتی الصور قد تتضائل في قصائده خلال تلک الفترة التي کان يصارع فیها المرض و الموت المحيط به، تقول سلمی الخضراء الجيوسي:« ففي قصيدة بعنوان الوصية التي قصد بها التعبيرعن رغباته الاخيرة، يلجأ إلی أکثرالعبارات بساطة و مباشرة عند مايأتي إلی جوهرالقصيدة:
إقبالُ يا زوجتي الحبيبه
لاتعذليني، ما المنايا في يدي
و لست لو نجوت بالمخلدِّ
کوني لغيلان رضاً و طيبه [14]
بينما کان شعرالسياب قد يتسم- لاسيما في انشودة المطر- بغنیً عاطفيٍ و اعتماد کبير علی الصياغات البلاغية خاصة الإستعارة، فنلاحظ الترکيب الفنی للصور من خلال النظر إلی هذا المقطع من قصيدته أنشودة المطر(التي کتبها عام1953)
أصيح بالخليجِ يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ و المحارِ و الرَّدی
فيرجعُ الصدَی کأنه النشيجْ
يا خليجْ
يا واهبَ المحار و الردی
و هذه صورة نبعت من داخل الأبيات، و انبثقت من ترکيبها الفني...فإنها قد ابتدأت من الشاعر، و دعت القارئ للمشارکة. و لابد من مشارکة القارئ للشاعر في صياغة معنی هذا المقطع، فلو قارنا بين قوله « يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردی» و قوله بعد ذلک علی لسان الصدی: «ياواهب المحار و الردی» حيث سقطت کلمة «اللؤلؤ» و لها مدلول أساسي في ترکيب المعنی ،بدا لنا أن «السياب» يأمل من الخليج آمالاً يمثلها « المحار» و هناک النهاية متمثلة في الردی، و لکن الذي يحدث أن الخليج لايعطي شاعره أی أمل، فتختفي کلمة « اللؤلؤ» في جواب الصدی، و يظهر« المحار و الردی» أي خيبة الأمل و الموت.[15]
و لکن للسياب موقفين آخرين من قضية الموت – والزمن :
أحدهما: ينتمي إلی نظرته للدمار الکلي الذي قد يعمُّ العالم بسب القنبلة الذرية و هذا هو ما تعبر عنه قصائد متعددة تمتد من أقصی تطور تقنيٍ في « رؤيا فوکای » إلی أخيلة القروی الذي يتصور الموت ثعلباً و الناس « دجاج القری» -هي تحديقة الشاعرالمباشرة في حقيقة الموت، متمثلة في سذاجة الشاعر و ثقافته حين يصبح التمييز بينهما أمراً غيرضروري.
و الثاني: هو في مواجهته موته الذاتي، يطل عليه من خلال المرض المزمن و في هذا الموقف اليائس يصبح الإنسان متردداً بين العودة إلی الطفولة و الأم و القرية، ليحس بالنجاة المؤقتة من مخلب الموت و بين استدعاء الموت نفسه لأنه – فيما قد يبدو- أهون من مکابدة المرض. و يدرک الشاعر أن العودة للطفولة مستحيلة:
و هيهاتَ ما للصِّبا من رجوعْ
إن ماضيّ َ قبري و إنّي، قبرُ ماضيَّ
موتٌ يمد الحياةَ الحزينه؟
أم حياة تمدّ الرَّدی بالدموعْ
و هذا و هو يصرخ مستدعياً الموت:
منطرحاً أصيحُ أنهَشُ الحجار
أريدُ أن أموتَ يا إله
إنه حين يعود إلی الطفولة، إلی القرية، يحس بالتغيّر- أی بفعل الزمن، و لهذا فإنه يتساءل حائراً:
جيکورُ ماذا؟ أنمشي نحن في الزمنِ
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوفٌ
أين أولُهُ
وأين آخره
هل مرَّ أطوله
أم مرّ اقصرُهُ الممتدّ ُ في الشجنِ؟
و ليس يوازي تجربة السياب- في الشعرالحديث- تجربة أخری، تريد أن تحيي الماضي - ماضي الطفولة:
طفولتي ، صباي ، أين ... أين کل ذلک؟
أين حياة لايحد من طريقها الطويل سور
کشَرَ عن بوابةٍ کاعين الشباک
تفضي إلی القبور؟!
کما تحاول أن تعدَّ الزمن، سنةً سنةً،« عشرسنين سرتُها اليک» « و ثلاثون انقضت».. الخ، إن السياب يقف في التجربة - تجربة الزمن و الموت – شاعراً متفرداًً، لأنه کان حالة متفردة، انه يتفلسف کثيراً حول المشکلة، و انما کان يعيشها».[16]
مثلاً في قصيدة « النهروالموت » بعدما يذکر مايتمنی أن يفعله لولا وجود المرض. بعدما يری صورة لنفسه و همومه تنعکس في « غابة من الدموع » في هذا النهر الحزين «کالمطر» و يعبرعن آلامه بتشبيه نفسه بهذاالنهرالحزين- بويب، يودّ لو غرق في بويب و « أغتدي فيک مع الجزر إلی البحر » ثم يقول للنهر و ربما لنفسه:
فالموتُ عالمٌ غريبٌ يَفتن الصغار
و بابهُ الخفيُّ کان فيک، يا بويبْ[17]
إذن الموت عالم غريب و هو بالنسبة للسياب رمز للفناء و العدم کما هو قد يکون رمزاً للإنتصار إذا اقترن بالثورة و کان في سبيلها:
أودّ ُلو غرقتُ في دمي إلی القرارْ
لأحملَ العبءَ مع البشر
و أبعثَ الحياة. إنَّ موتيَ انتصار! [18]
لکن يريد الشاعر أن يبعث الحياة في من؟ أفي نفسه أم في غيره ؟« من الواضح أن بعثه للحياة في المكافحين ليس سوى أمنية يعرف أنها لاتتحقق، ولكنه، مع ذلك يصر أن موته انتصار للمكافحين و الطبيعة و الأشياء كلها، انتصار للحياة التي تخونه لا لشيء إلا لأنه مسيحٌ آخر وتمّوزٌ آخر و بعلٌ آخر»[19] 
و تقول سلمی الجيوسی عن هذه القصيدة:
« کان الشاعر في قصيدة « النهر و الموت » يهدف إلی تغيير کيمياء الموت بأن يغرق المرء في دمه ليبعث الحياة من جديد، حيث تستضي ء بالنجوم والقمرمياه وأشجار مخضرة بالخصوبة والحياة.
يُضيءُ فيها خُضرةَ المياهِ و الشجر
ماتنضحُ النجومُ و القمر
لکن السياب استعمل أسطورة تموز استعمالاً ضمنياً.. في قصيدته الجميلة « النهروالموت » حيث يمثل بويب نهر«جيکور» قرية السياب.. عينَ الذاکرة التي لاتنام ،معبد البرائة و السعادة و الخصب، يحن الشاعر إلی أن يعود اليه محملاً بالهدايا:
« کأني أحمل النذور
إليک من قمح ومن زهور»
لکن النهرکذلک باب نحو الموت :
فالموتُ عالمٌ غريبٌ يَفتنُ الصغار
و بابهُ الخفيُّ کان فيک، يا بويبْ
و هو يحمل کذلک إمکانات الموت و الحياة التي تصدر منه:
أودّ لو غرقتُ فيک، ألقط المحار
أشيدُ منه دار [20]
ألا و هو شبح الموت، الفكرة التي كان الشاعرشديد الصلة بها، فهو يذكر الموت كما يذكر و يصف حالة القبر في شعره. کأنما الموت و ظلام القبر يسكنان بداخله دوماً، فالموت اصبح رمزاً شخصياً للسياب، رمزاً في حالة اليأس والفشل و رمزاً في حالة الأمل والإنتصار. کما أنه في قصيدة « في ليالي الخريف »يأتي بمعناه السلبي بعدما يتذّمر من الملال و الأسى و يبكى و ينتحب كالسجين فيقول:
في ليالي الخريفِ الطوال؛
آه لو تعلمينْ
كيف يَطغی عليّ الأسى و الملال؟!
في ضلوعي ظلامُ القبور السجين،
في ضلوعي يصبح الردى
بالتراب الذي كان أمي: "غدا
سوف يأتي. فلا تقلقي بالنحيب
عالمُ الموت حيث السكون الرهيب!
سوف أمضي كماجئتُ واحسرتاه ! [21]
كان السیاب في السابق يرى الموت« رب المخاوف و الدياميس الضريرة » و كان يخشاه و يرفضه قائلا ً:
يا موت .. يا رب المخاوف و الدياميس الضريرة
اليوم تأتي؟! من دعاك؟ و من أرادك أن تزوره؟
أنا ما دعوتك أيها القاسي فتحرمني هواها
دعني أعيش على ابتسامتها و إن كانت قصيره[22]
ثم يردف قائلا ًفي أواخر القصيدة:
و الحفرة السوداء تفغر، بانطفاء النور فاها
إني أخاف... أخاف من شبح تخبئه الفصول!!
لکنه جاء أخيراً إلی ذاته، فلم تعرفه دمامته، و مضی إلی الآخرين، فنبذوه. فتّش عن اُمه في وجوه النساء فلم يجدها، فأصبح غريباً بين غرباء. و لم يساعده نضجه في التخلص من الشعور بالدونيّة و بالنقص، علی الرغم من اعتداده بشاعريته، لأن ذاته کانت ممزّقة و منهکة. و في النهاية تمنی الرحيل فاستسلم للموت و ألقى سلاحه و أعلن:
هات الردَی ،أريد أن أنامْ
بين قبورأهلي المبعثره
وراء ليلِ المقبره.
رصاصة الرحمة يا إله[23]


ب- جيکور :
على امتداد « شط العرب »[24] إلى الجنوب الشرقي من البصرة، و على مسافة تقطعها السيارة في خمس و أربعين دقيقة تقع أبوالخصيب التي تمثّلُ مركزَ قضاءٍ تابعٍ للواء البصرة. و علی مقربة من أبي الخصيب إلی الجنوب الشرقي تقع قرية مغمورة تدعی جيکور، قُدّر لها أن تصبحَ ذات شهرة في الأوساط الأدبية العربية؛ لأن شاعراً هو بدرشاکرالسياب ولد فيها سنة 1926 و أغرم بحبها.
إنها قرية صغيرة لايزيد سکانها علی حوالي خمسمئة نسمة. و اسمها مأخوذ من العبارة الفارسية «جوی کور» أي «الجدول الأعمی». و هي مبنية من اللبن غير المشوي و جذوع النخل.[25] تسير إليها في طريق ملتوية تمتد بالماشي مدى ثلاثة أرباع الساعة من أبي الخصيب و هي الزاوية الشمالية من مثلث يضم أيضا قريتين أخريين هما بكيع و كوت بازل، قرى ذات بيوت من اللبن و الطين، لا تتميز بشيء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبي، فهي عامرة بأشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة و يحلو لأسراب الغربان أن تردّد نعيبها فيها، و عند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البيادر، تصلح للعب الولدان الصبيان و لهوهم في الربيع و الخريف، و تغدو مجالا للنوارس في فصل الصيف، و تبعد عن أبي الخصيب بما يقارب ثلاثة کيلومترات و تقع القرية على شط العرب، وأمامها جزيرة جميلة اسمها (الطويلة) كثيرا ما كان السياب يقضي الساعات الطوال فيها. و آل السياب يملكون أراضي مزروعة بالنخيل، و هم مسلمون سنيّون عرفتهم جيكور لأجيال عدة. و على الرغم من أنهم لم يكونوا من كبار الملاكين في جنوب العراق، فانهم كانوا يحيون حياة لائقة محترمة حسب المعايير المحلية.[26] عند الخمسينيات کثُرَ استخدام الصور الرمزية من قِبل السیاب، فقد کان يرمز إلی قوی الخير و الحياة و الخصب برموز کالمطر و النور و الشقائق و خاصة النهر- بويب- و قريته جيکور. کما کان يرمز إلی قوی الشر و الموت و الجدب بالنار و الذهب و الصخر و الظلام و المدينة. فکلما اشتدت عليه صعوبات الحياة، هرب إلی حصنه في جيکور، کما يتراجع الحلزون إلی داخل قوقعته، عندما يشعر بالخطر الخارجي. رأی أنه غريب في دنيا من الحجر، يتول الحب والعطف، فيرجع خائباً:
يا غربةَ الروح في دنيا من الحجَرِ
و الثلج و القار و الفولاذ و الضجرِ
يا غربة الروح.. لا شمسٌ فأئتلقُ
فيها و لا أفُقُ
يطير فيه خيالي ساعةَ السحرِ [27]
و لما کانت المدينة تجسّد التصنيع الرأسمالي و الاستغلال، فإن بدراً لم يحبّها. و ظلت قريته جيکور ترمز في مفهومه إلی المکان الأمثل الذي تسوده علاقات بشرية مُثلی. لکن جيکور هذه کانت تعيش في ظل الخوف و الموت إزاء الحروب. و في قصيدة بعنوان « مرثية جيکور » نشرتها مجلة « الآداب» في عدد نيسان 1955يعبّر بدر عن خيبة أمله في الإنسان ذي النوايا الشريرة تجاه إخوته من البشر. و تصبح جيکور رمزاً لافقط للشعوب المحبة للسلام، بل بصورة خاصة، للشعوب النامية في آسيا و إفريقيا التي تعيش تحت رحمة الغرب الذي يدعي المسيحية و لکنه يخونها خيانة فاضحة.[28]
إن بدراً في تموزياته يمزج في الواقع بين اسطورتين، الأسطورة البابلية المعروفة و الأسطورة الجديدة التي راح هو يبتدعها- اسطورة جيکور. والصلة بين الأثنتين مباشرة و وثيقة لأن کلتيهما لديه هي أسطورة الماء و الخصب و تخطي الموت.
و الشاعر في هذه التموزيات الجيکورية شخصية مأساوية تتکلم بصوت هو في الغالب اکثر من صوت البطل بمفرده: إنه صوت المدينة، و صوت الأمة. هذا القناع الجديد يُيَسِّر له تصعيداً للغضب و الإحتجاج- و تصعيداً کذلک للتفجّع، لأن جزءً من احتجاج بدر، في شعره کله، هو هذا التفجّع الذي ربما کان بعضه من فيض البکاء الشعري علی الحسين (ع). هذا هو الذي لانجد له مثيلاً في الدفق و الغنی خارج العراق.[29] « وبعد زيارة أخری لجيکور في نيسان1962 کتب قصيدة عنوانها«جيکور شابت»، يتذکر فيها جمال الطبيعة و نبض الحياة في قريته، و يعجب لها کيف کئيبة کأنها شابت و ولّی صباها. إن بدراً الذي کان مازال في مقتبل العمر صارينظر إلی الدنيا بعينيْ شيخ علی حافة القبر، و لوّن مرضُه کلَّ أفکاره و عواطفه بلونٍ داکن. و مرت به فترات لم تعد الدنيا فيها تهمّه و هو منطوٍ علی ذاته و آلامه. و إن بقي في أعماق قلبه صدَی صوتٍ قديم يناديه للإهتمام بالعالم لأنه عالمه فيستجيب له، کما قال في رسالة إلی يوسف الخال.[30]
و في قصيدة « تموز جيکور » يتخذ بدر شخصية تموز نفسه. و دمه المتدفق لم يغدُ شقائق أو قمحاً بل ملحاً. فينادي عشتار و سمع ثيابها ترفّ و وقع خطاها يخفق کالبرق الخلّب. و يشتاق إلی قبلة[31] منها و لکنه عندما ينالها فکأن ظلمة تنثال عليه و تنطبق. و مع هذا، لا يفقد الأمل و يقول: جيکورُ... ستولد جيکورُ: / النَّوْر سيورق و النُّورُ / جيکور ستولد من جرحي / من غصّة موتي، من ناري، / سيفيض البيدرُ بالقمحِ / و الجرنْ / سيضحک للصبحِ، / و القريةُ داراً عن دارِ / تتماوجُ أنعاماً حُلْوُه، / والشيخُ ينام علی الربوه، / و النخل يوسوس أسراري، / جيکور ستولد. لکني / لن أخرج فيها من سجني / في ليل الطين الممدود / لن ينبض قلبي کاللحنِ / في الأوتار؛ / لن يخفق فيه سوی الدودِ.[32] و في قصيدة « العودة لجيکور » ينظر بدر في الآفاق بحثاً عن الکوکب الذي يعلن ميلاد الخلاص. و يسري علی جواد الحلم الأشهب من المدينة إلی جيکور ليقدم طعامه للجياع و دموعه للبائسين و دعاءه لأن يقذف البرکان نيرانه و يرسل الفرات طوفانه. و يقدّم نفسه ليتوّج بالشوک و يصلب، و يدعو الطيور و النمل لتولم من جرحه. عندما يعود لجيکور ماضيها البهيج يصيح الديک فيضمحلّ الحلم أمام عينيه الدامعتين، و ينهي القصيدة بقوله: جيکورُ، نامي في الظلام السنين.[33]
إن جيکور نموذج أعلی يمثل البراءة و السعادة. و يتضح تأثير « مدينة الوهم » في قصيدة إليوت « الأرض اليباب » في کراهية السياب المدينة التجارية، رغم أن ذلک لايخدم سوی توکيد أحاسيس الشاعر الأصيلة نحو حياة المدينة. و يجب أن نذکر أن القری العربية کانت قد استفاقت علی الحياة المعاصرة و بدأت بإرسال أبنائها إلی العواصم و المدن طلباً للعلم أحياناً، و غالباً من أجل اکتساب الرزق، و أن السياب، قد شعر بمصاعب الحياة و لا إنسانيتها في المدينة. ولم يفقد السياب قط حنينة نحو جيکور و بساطة حياتها. و في النهاية أفلحت جيکور في أن تغدو رمزاً مقبولاً مفهوماً علی الفور في شعره، و إليه کان يشير غالباً:
أين جيکور؟ جيکورُ ديوانُ شعري،
موعدٌ بين ألواحِ نعشي و قبري.[34]
في تموز1961 کتب قصيدة عنوانها « أمّ البروم ». و قد أوحت فکرة القصيدة نفسها إليه إذ رأی مقبرة أمّ البروم تصبح جزءً من مدينة البصرة النامية المتوسعة. فحيث کان الموتي يرقدون في صمت يطمون بماضيهم و ينتظرون موعد الربّ، تضجّ المدينة الآن برنين النقود و ضوضاء السيارات و المسافرين و صخب الملاهي الليلية و المقاهي و الحانات. فقد قلّعت المدينة عيون الأموات و عصّرت النهود الدفينة و مزّقتها بالعجلات و الرقصات و رکلتها- ثم تثاءبت و کأن المدينة لم يکن لديها ما يکفيها من لحم الأحياء لتعرکه، فعمدت إلی ضلوع الأموات تلوکها ثم تقيئها للريح. و حيث کان السلام سائداً، جاءت المدينة بالدلال يطالب بأتعابه، و جاءت بالسکاری و البغايا يقهقهون، و جاءت بکل خصومات البشر التافهة و شرورهم.[35]
و في 19حزيران 1960 کتب بدر قصيدة تحت عنوان « جيکور المبغی» و نشرها في عدد خريف 1960 من مجلة « شعر». « و غريب أن يدعو بدر جيکورَ مبغی، فهي في شعره رمزالمجتمع المثالي السعيد، و هي الغرض الفکري الذي يستقطب کل مطامحه و تضحياته. و لکنه استعمل کلمة جيکور بدلاً من کلمة بغداد في القصيدة ليخدع الرقابة العراقية. فالکلمتان تتألفان من مقطعين طويلين، لکن القافية في موضعين من القصيدة تستدعی کلمة بغداد لاجيکور. وعندما أعيد نشر القصيدة في مجموعته « أنشودة المطر» ظهرتْ تحت عنوان « المبغی..، و استبدلت کلمة جيکور بکلمة بغداد في المواقع الخمسة التي ترد فيها في القصيدة. بغداد إذن هي المبغی، بغدادقاسم بکل تأکيد: لکن بدراً في مجموعته المذکورة أضاف ملاحظة في حاشية القصيدة يقول فيها إنها « کتبت في العهد المباد ». و ليس هذا صحيحاً، لأن بدراً عندما نشر القصيدة للمرة الأولی فژ مجلة « شعر» کتب تحتها تاريخها بصراحة و هو19 حزيران 1960. إنه لم يکن يتحدث إذن عن الملکية و إنما کان يقصد الجمهورية في قصيدته هذه و کان يحاول أن يخدع رقابة قاسم ».
ج- بُوَيْب :
تتخلل غابات النخيل المحيطة بالقرية (جيکور) جداول أو انهار فوقها معابرصغيرة من جذوع النخل. وحين يرفع المد مستوی شط العرب تمتلیء هذه الجداول أو الأنهار بمائه ثم لا تلبث عند الجزر أن يجري ماؤها عائدا ًإليه. وهي أجمل مشاهد القرية، ولا يضاهيها إلا جاذبية شط العرب نفسه. ومن هذه الجداول أو الأنهار واحد اسمه «بويب» عرضه متران وهو يستمد ماؤه من جدول أکبرمنه يدعی«جيکور». و يمر«بويب» هذا في قطاع من القرية اسمه «بقيع» حيث منازل عائلة السياب وأراضيها.[36] لقد خلّد السيابُ هذا الجدولَ في ديوانه کما حوّله إلی رمزٍ من رموزه الشخصية، يعبر به عن الخصب و الحياة. فبويب أصبح جزءً من نظام السياب الترميزي الموحي بالخصب، رمزاً شخصياً يضعه الشاعر في نقطة تقابل کل ما يوحي الجدب و العدم.
« بويب / النهر يحمل وجهي الموت و الحياة، فالانبثاق منه حياة، و الدخول فيه حركة الحياة في اتجاه معكوس، عودة إلى الأصل، إلى المنبع، و الأساطير و الشخوص الدينية تؤكدان هذا الوجه المزدوج للنهر: الحياة و الموت، النبي يونس (أو يونان) الخارج من بطن الحوت، كذلك خروج النبي يوسف من الجب الذي ألقوه فيه إخوته، و ما حدث مع النبي موسى عندما ألقته أمه في الماء، علّها بذلك تجنبه عقاب فرعون، هذه المشاهد تجسد الرحلة من الموت إلى الحياة الجديدة. و لاشك، هذا الحشد من الرموز الدينية يحضر، عندما يتلمس النص الشعري رحلة الموت/ الحياة، و يحضر بقوة و بتوسع عندما يضيف النص إلى هذه الرحلة عنصر الماء، جذر كل شيء حي على هذه الأرض ».[37]
في قصيدة " مرحی غيلان " يمثل بويب ذلک الرمز الذي يحمل الخصوبة و النمو إلی الأرض أو کما يقول السياب؛ « لکلِّ أعراقِ النخيلِ » حيث يصبح الشاعر نفسه « بعل » فيذوب و يتدفّق مع بويب ليهبَ الحياة للدنيا و ينثّ[38] روحه في ورق الأشجار و ثمارها :
أنا في قرار بويب أرقد، في فراش من رماله
من طينه المعطور، و الدم من عروقي في زلاله
ينثال کي يهبَ الحياة لکل أعراق النخيلِ.
أنا بعل: أخطر في الجليلِ...
علی المياه، أنثُّ في الورقات روحي و الثمارِ
و الماء يهمس بالخرير، يصل حولي بالمحارِ
و أنا بُوَيبُ أذوب في فرحي و أرقدُ في قراري.[39]
کتب السياب هذه القصيدة بعد ولادة ابنه " غيلان" حين شعر أنه قد تخلّد به شخصياً و جسدياً، فرأی السياب في ابنه عِراقاً خصباً و جيکوراً مزدهرة. لذلک کأنه يسيل مع الماء في بويب ليمنح الحياة للنخيل.


د- الماء (المطر):
« الماء تطهير و شرط للخصب، ألم يطهر الله الأرضَ بالطوفان؟ و يخلق من الماء كل شيء حي؟ و عندما لا تمطر السماء، ألا يقيم المسلمون "صلاة الاستسقاء" تضرعًا لله تعالى، و ذلك كي يغيث الأرض و العباد؟ و عندما يصعد المؤمن إلى السماء، ألا يسكن في جنة تجري من تحتها الأنهار؟ و ألم يقدم السيد المسيح الماء إلى تلامذته، قائلاً: "اشربوا هذا دمي".. و مشى فوق الماء.. و تعمّد بالماء؟ و حوّل الماء إلى خمر في عرس الجليل، و كانت هذه أولى معجزاته؟
لذا يعتبر الماء من العناصر المقدسة في الأديان و بخاصة عند المسيحيين، إذ ليس يقدر أحد الدخول ملكوت السموات ما لم يولد من الماء و الروح . من هنا كانت المعمودية بالماء بمثابة العودة إلى رحم الأم ليولد المؤمن من جديد. و يقول السيد المسيح: من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا له، فلن يعطش أبدًا، فإن الماء الذي أعطيه له ينقلب فيه نبعًا يتفجر حياة أبدية. كما ارتبط رمز الماء بمريم العذراء في صلوات الكنيسة: إفرحي يا ينبوع الماء الحي الذي لا يفرغ ».[40]
و ربما بدر شاکر السياب کان أکثر من استخدم رمز الماء(المطر) في شعره و قد أشرنا مسبقاً إلی أنه کان بحکم موقعه الزمني يحتاج إلی رموز الخصب و الإنبعاث، و المطر هو أحد تلک الرموز الموحية بالحياة و الأمل. و لذا کان تعامل السياب مع المطر تعاملاً يسمو به من کونه أحد العناصر الطبيعة إلی کونه رمزاً سحرياً يدل علی العطاء و الحياة و الأمل و المستقبل الذي يتخيله و يتمناه. « فهو لا يعني بالمطر إلا بوصفه رمزاً ذا أصول أسطورية قديمة، حاول السياب الإفادة من رمزيته حين جعلها تؤدي أغراضاً متعددة ».[41] علاقة السياب بالماء علاقة حياة و أمل و ثروة للمقهورين وثورة ضد الظلم والتحرر من السلطة المستبدة. من هنا تمكن السياب إعطاء معان جديدة و فضاءات مفتوحة للآية القرآنية: « و جعلنا من الماء كل شيء حي» و لطقس المعمودية عند المسيحيين، فاتسعت دلالة الماء و أبعاده، ليلمس في شعر السياب حلم الأرض و الإنسان و السماء، و الولادة الجديدة معاً.[42]
فصار الماء أو المطر _ و ما يتصل به من عناصر تشير إلی وجوده أثناء القصيدة _ الرمز الکثير التکرار في بعض دواوين السياب « إذ قلما لا نجد الماء و عناصره في شعره. و بتأمل عناوين قصائده، يجد المرء في ديوانه أزهار و أساطير: قصيدة "أقداح و أحلام"؛ و القدح إشارة إلى الخمر( الماء)، و قصيدة "نهر العذارى" و في ديوانه "المعبد الغريق" يبرز رمز الماء منذ البداية: الغريق، و الغرق يكون عادة في الماء، و قصيدة "الغيمة الغريبة" و"يا نهر" و"صياح البط البري" و البط من الحيوانات المائية. و في ديوان منزل الأقنان، قصيدة "هدير البحر و الأشواق" و"أسمعه يبكي". و في ديوانه أنشودة المطر، أكثر دواوينه "مائية"، تأتي قصيدة أنشودة المطر - عنوان المجموعة - أبرز قصائد السياب، و أشهرها ارتباطًا برمز الماء و تحولاته و عناصره، ثم القصائد: "غريب على الخليج"، و الخليج من قاموس الماء، و قصيدة "قارئ الدم" و"النهر والموت" و"مدينة بلا مطر" و قصيدة "بور سعيد" و هي مدينة مصرية ساحلية.
يلاحظ، أن تدفّق استخدام رمز الماء، و عناصره، و إشاراته، و تحولاته في عناوين قصائد السياب بدأت قليلة، ثم توسعت إلى أن شحت في ديوانه الأخير "شناشيل ابنة الجلبي" و "إقبال"، حيث غاب رمز الماء كليًّا عن عناوين قصائده، و لعل ذلك يرمز بشكل أو بآخر، إلى النهاية-الموت ».[43] إن المطر(الماء) في رائعة السياب- إنشودة المطر- هو الرمز و الصورة المحورية التي تدور حولها الرموز الأخری- کإشارة السياب ضمنياً إلی تموز و عشتار في سياق الرموز الموحية إلی الخصب و الإنبعاث. ثم هناک يوجد تناقض « يصوره السياب لا بين جدب الأرض و هطول المطر، بل بين خصوبة الأرض التي روّاها المطر و جدب الروح البشرية»:[44]
و منذ أنْ كنَّا صغاراً ، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
و يهطل المطر،
وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ
ما مرَّ عامٌ و العراق ليس فيه جوعْ .[45]
هنا نجد المطر الذي هو باعث للحياة يهطل علی وادٍ خصيبٍ يعشب من المطر لکنه يمتلئ بالجياع أيضاً. و ثمة تشابه آخر يقام بين االمطر و ماء الخليج المالح :
وينثر الخليج من هِباته الكثارْ ،
على الرمال ، : رغوه الأُجاجَ ، والمحار
وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لجَّة الخليج والقرار ،[46]
هذه نهاية مأساوية، نتيجتها الموت و البعث. فمِثل الغريق الذي يشرب ماء الخليج المالح، تشرب أم الشاعر الميتة ماء المطر في قبرها. ما الفرق إذاً بين المطر باعث الحياة وبين الماء المالح؟ لا فرق الآن. لکن المستقبل خصيب بالأمل : [47]
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ ،
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ
لم تترك الرياح من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ.[48]
و أيضاً في ما يخص النقيضة الموجودة هنا يجب أن ننبّه إلی أن السياب جمع في "أنشودة المطر" الصيغتين البابلية و العربية للأسطورة التموزية دون أن يحس القارىء بأن ثمة تعارضٍ بين هاتين الصيغتين. ففي الصيغة البابلية : « نجد أن تموز هو عاشق عشتار الشاب، وهي ربة الخصب واعادة الانتاج، و أنه يموت كل عام، لكن اله الماء "إيا" يطلب من إلهة العالم السفلي"ألاتو" أن تسمح له بأن يرشهما بالماء حتى يعيدهما الى الحياة، و حتى تستعيد معهما الحياة نضارتها و خصبها. و لذلك فإن تموز يوصف في هذه الصيغة البابلية _ "الابن الحقيقي لمياه الأعماق ". و هذه الصيغة التي تتعلق برش المياه في القصيدة توشك أن تتخلل كل تفاصيلها لأن الماء فيها هو أحدى الصور الأساسية التي تتكرر تنويعاتها المختلفة فيصبح الماء مصدر الخصب و الموت معا، و تهب مياه الخليج المحار و الردى في آن».[49]
أما الصيغة العربية للأسطورة التموزية: « و هي الصيغة التي يحيل اليها قسم الرحيل في القصيدة السيابية، فإنها الصيغة التي يقتل فيها تموز، و تطحن عظامه في الرحى، ثم تذرى في الرياح. و لذلك فإن تموز وفقا لهذه الصيغة هو روح الحبوب و التذرية، و من هنا فإن الاحالات المتعددة الى الجوع، و الرحى في القصيدة تتصل بهذه الصيغة العربية للأسطورة. و تقول الأسطورة أن النسوة لا يأكلن طوال فترة أعياد تموز تلك أي شي ء مطحون بالرحى، و يقتصر غذاؤهن على ثمار الأرض التي لا تطحن، احتراما لما جرى لتموز في تلك الصيغة. و هذه هي الصيغة التي تتخلق عبر الإشارات المتعددة للجوع و للنسوة المتملقات حول الرحى في الحقول في القصيدة ».[50]
و تطحن الشّوان و الحجر
رحیً تدور في الحقول… حولها بشر[51]
و ثمة تشابه جميل آخر يجري بين قطرات المطر و دموع الجياع و العراة، و قطرات دم المضطهدين :
في كل قطرة من المطر
حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ .
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد.[52]
کذلک فإن تکرار لفظة « مطر» في هذه القصيدة ثلاث مرات أو أربع مرات متوالية في ثمانية مواضع منها، قد يجعل الصبغة الرمزية للماء تسيطر علی النص لتوحي بمفهوم الإنبعاث و التجدّد الدائم. أما المستقبل المتخيل القادم، عند السياب فهو رحب متسع أخضر، و في العراق الذي « يذْخرُ الرعود و يخزن البروق» - وهي من لوازم المطر(الثورة)- سوف تأتي اللثورة و يحدث التغيير، وتنمو حياة جديدة « في عالم الغد الفتي». ثم و في نهاية القصيدة يقول السياب متفائلاً بمجيء «المطر» إلی العراق: و يهطل المطر.


هـ- وفيقة :
« كانت وفيقة هذه من قريباته الجميلات في جيكور. و كان في طور مراهقته يتصورها حبيبة له و رفيقة لحياته فإذ كان يرى فيها شبهاً عظيماً بوالدته، لكنها تزوجت من غيره ثم ماتت في سن أمه وخلفت وراءها طفلة وبيد أن صورتها كمثال أعلى ظلت عالقة بذهنه، و نظم فيها قصائد منها "شباك وفيقة" و "حدائق وفيقة" كلها نزوع إلى مثال أعلى مفقود.»[53] يقول جبرا ابراهيم جبرا في كتابه "الناروالجوهر"عن حياة السياب: «لم يذكرأحد من أقاربه، أنه أحب فتاة في جيكور تدعى"وفيقة". ثم يتابع: غير أنني أذكر بوضوح أن بدراً حدّثني في أواخر عام1960 أو أوائل عام 1961 أنه فجأة جعل يتذكر فتاة أحبها في صباه تدعى وفيقة، وأنها ماتت صبية، و كان شباكها الأزرق يطل على الطريق المحاذي لبيته. و قد كرر ذكرها إلى أيامئذ حتى خُيّل إليّ أنه، إبّان متاعبه و آلامه الكثيرة آنذاك، أخذ يتصور لو أن لقاء وفيقة ممكناً، لوجد فيه خلاصاً من بؤسه.. و إذا به يطلعني بعد ذلك على قصيدة "شباك وفيقة" ،بشقيها الأول و الثاني. و عندما زرت بيته في جيكور أوائل عام 1967،و تحدثت إلى أقاربه طويلاً، أشار عمّه إلى شباك أزرق، كان طلاؤه قشيباً، في المنزل المجاور لمنزل بدر، يعلو عن الطريق المُحاذي لبوَيب قرابة المتر، و قال: "هذا شباك وفيقة".[54]
کانت للسياب رغبةٌ کبيرةٌ في الإجتماع بوفيقة في عالم الموت :
و أنت في القرار من بحارک العميقه
أغوص لا أمسّها، تصکّني الصخور،
تقطّع العروق في يديَّ، أستغيث: " آه يا وفيقه
يا أقرب الوری إليَّ أنت يا رفيقه
للدود و الظلام".
«کانت تختلط هذه الرغبة بشبقه الشديد من ناحية، و عجزه الجنسي المتزايد من ناحية أخری. لقد أصبحت الحياة صحراء باردة بالنسبة له و أصبح الحب سراباً. و کانت علاقته الزوجية تزداد فتوراً فلاحت له وفيقة الأمنية المثالية التي تخلصه و کانت قد توفيت قبل عشر سنوات لکنها ما فتئت المثال الحي في ذهنه».[55] و هکذا تتضح شيئاً فشيئاً القيمة الرمزية الهائلة التي جعلها بدر في وفيقة، علی الأرجح دونما وعي منه، ليعبر عن آلامه في فترة من حياته ربما کانت حتی تلک الآونة أشد الفترات ظلاماً نفسياً و إحساساً بالخيبة و توقاً إلی الخلاص.[56]
« و في نیسان 1961، زار مسقط رأسه جیکور، فعاد إلیه حشدٌ من ذکریات الماضي إذ وقف في ساحة القریة. و أثار شباکُ وفیقة الأزرق أعمقَ مشاعره و هو ینفتح أمامه علی ساحة القریة الخالیة. و کانت وفیقة قد توفیت قبل حوالي عشر سنوات، و لکنها کانت لاتزال حیة فی قلبه مثالاً أعلی لایُنال. و لم یذکّره شباکَها الأزرقَ بآماله الخائبة فقط، بل ذکّره أیضاً بفناء الحیاة نفسها. فکتب قصیدة فی قسمین عنوانها « شباک وفیقة». و کانت هذه هی المرة الأولی التی یذکر فیها اسم وفیقة في شعره. کان شباکها یبدو کأنه ینتظر أعجوبة، مثل الجلیل تنتظر مشیة یسوع. کان شباکها مثل إیکار الهارب من المتاهة لیقترب من الشمس محلّقاً بلا خوف ثم یسقط فی قبره البحري. تذکر بدر کیف کان شباکها هو صخرة التي عرج منها قلبه إلی سماء الحب، و لکنه شعر الآن أنه مثل عولیس العائد إلی بیته شیخاً أبیض الشعر. هناک شبابیک مثله محبوبة في لبنان و الهند و الیابان مازالت تحلم بأمل، بینما وفیقة تحلم في قبرها، و شباکها مثل جناحیِْ إیکار احترقتْ ألواحه إلی الأبد. تمنی بدر لو انشق الشباک الأزرق عن وجهها کما انشق المحار عن عشتروت فسارت من الرغو إلی الشاطئ.[57] و لکن وفیقة لم تحقق أمنیتة، فشعر کأنه طائر عبر البحر و طاف بشباکها الأزرق متعباً یرید التجاء فلم تفتح له. کان بدر يريد أن یعیش في الماضي لا یموت مادامت ذکراه حیةً في الذهن:
شفاهکِ عندی ألذّ الشفاه
و ماضیکِ من حاضري أجملُ:
هو المستحیلُ الذي یُذهلُ ،
هو الکاملُ المنتهي لا یرید
و لایُشتهي إنه الأکملُ،
ففي خاطري منه ظلّ مدید
و في حاضري منه مستقبلُ.[58]
فشباک وفيقة، هو بالنسبة للسياب بمثابة حبلٍ يشدّ حياته إلی الموت( الماضي) حتی لا تفنی هذه الحياة التي أصبحت في هذه الفترة و کأنها تريد أن تودّع الشاعر. أحياناً يوحّد السياب بين " وفيقة " و بين عشتار، ثم يجعل نفسه مکان تموز، لکنه في هذه الحالة يقلب الصورة الأولية لأسطورة تموز حيث « يلعب هو فيها دور عشتار، فينزل إلی عالم الظلام حيث وفيقة تنتظره انتظار تموز لحبيبته ».[59]
« و حين التقى "بلوك نوران"[60] و وعدته بزيارة العراق، أحس أن وفيقة انبعثت من قبرها لما رأى عليه الآنسة لوك من مثالية»[61] فأشار بانبعاث وفيقة من القبر إلی هذا الأمل برجوع السعادة و الحياة لأنه وجد فيها تجسيداً لوفيقه و بالتالي حبه المثالي:
لو صح وعدك يا صديقة
لو صح وعدك.. آه لانبعثت وفيقة
من قبرها، و لعاد عمري في السنين إلى الوراء »[62]
وفيقة و أيضاً هالة – الفتاة الراعية التي أحبها السياب في طفولته- عند السياب بمثابة رمزٍ لـ« السنين الخضر » و للأيام السعيدة المنصرمة، يقول في قصيدته «جيکور أمي»:
آه لو أن السنين الخضر عادت، يوم کنّا
لم نزل بعدُ فتيَّين لقبّلتُ ثُلاثاً أو رُباعاً
وجنتَيْ (هالة) و الشعر الذي نشَّر أمواج الظلام
في سيولٍ من العطور التي تحمل نفسي إلی بحارٍ عميقه
و لقبّلتُ، برغم الموت، ثغراً من وفيقه[63]
فهو بواسطة هذه التلميحات و الرموز الشخصية، يستحضر الماضي و عهد الصبی الذي يجده سعيداً بالنسبة إلی حاضره المرير، ليهرب من واقعه و يخفّف من آلامه. لکنه في نهاية القصيدة يعود إلی الحاضر و يطلب من الذکريات أن تقرَّ و تنام:
آه لکنَّ الصِّبی ولَّی و ضاع؛
الصبی و الزمانُ لن يرجعا بعدُ،
فقرّي يا ذکريات و نامي.[64]
و حين ذهب إلی لندن من أجل العلاج الذي لم يحصل عليه أبداً، تذکر وفيقة و ذکر کيف أن زواجها من شخصٍ آخر بعثر و واری أيامه الخضراء، في قصيدته "أم کلثوم و الذکری" يقول بعد ما يتصوّر أنه يشرب صوت الفنانة "أم کلثوم":
و أشربُ صوتَها.. فکأنَّ زورقَ زفَّةٍ و أنين مزمارِ
تجاوبُه الدرابک، يعبران الروح في شفقٍ من النارِ
يلوح عليه ظلُ وفيقة الفرعاء أسودَ يزفر الآها
سحائب من عطورٍ، من لحونٍ دون أوتارِ.[65]
فهذه الزفّة و" الدرابک" و " أنين المزمار" کلها تُکوّنُ ذکری زواج وفيقة الأليمة في خاطر السياب. ثمّ يتحسر علی السعادة التي فاتته اثر هذا الحدث و يتمنی لو کانت ألحان العُرس أصوات قرع المعاول و هي تحفر قبره : ... أوّاها
علی أيامي الخضراء بعثرها و واراها
زواجٌ. ليت لحن العُرس کان غناء حفّارِ
و قرعاً للمعاول و هي تحفر قبري المرکوم منه القاع بالطين.[66]
وفی ختام هذه المقالة التی تطرقنافیها الی رموزالسیاب الشخصیة،نشیر بان حیاةالسیاب کانت ملیئةبالحزن والآسی، وقد اثّرت علی اشعاره ،فان المرحلةالاخیرة من حیاة شاعرناالسیاب وهی المرحلةالذاتیة کانت فقیرةومحزنة؛ولقدواجه فیها قدره،وأصبح يدافع عن "مجرد بقائه". الموت لم يعد رجولةً و لا حبًّا و لا فداء، بل أصبح عبثًا. إن قارئ شعره في هذه المرحلة: (المعبد الغريق و منزل الأقنان، و شناشيل ابنة الشلبي و إقبال) يلمس كيف أصبحت الحياة في نظر السياب موتًا فقط.. الموت الحقيقة الوحيدة في الوجود. و يُعتبر السيابُ من هذه الناحية من أهمّ الشعراء الذين عاينوا الموت و واجهوه بل و طلبوا زيارته، و نادراً ما وُجد مثيلُ ذلک في الشعر العربي. وشکراً