الـتنـــاص..
مفهومه وأنواعه
د/ محمد الأمين ولد أحمد عبد الله
تشي كلمة (التناص) بوجود تفاعل أو تشارك بين نصين باستفادة احدهما من الأخر و لعل ذلك ما جعل النقد يركز على كشف حيثاته في الثقافة العربية قديما والثقافة الغربية حديثا، وهي التي أنتجت هذا المصطلح بصيغته الحالية {intertextualite} ويعني هذا المصطلح التواجد اللغوي لنص في نص آخر , أي كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى" (ا)
و نحن و إن قلنا إن المصطلح دخيل على الثقافة العربية فإننا نشير كذلك إلى أن له جذورا في النقد العربي القديم من حيث دلالته .و إذا بحثنا في المراجع الاجنبية التي تحدثت عن هذا المصطلح فلن نجده يختلف كثيرا عما أشرنا اليه سابقا أي عملية التفاعل بين النصوص، و هو ما أشارت إليه اكريستفا بقولها : ( النص ترحال للنصوص و تداخل نص في فضاء نص معين تتقاطع و تتنافي ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى ){2}
وهو ما يعني أن ثمة عملية مستمرة في صيرورتها تحكم عالم النص الذي يظل يغازل النصوص السابقة عليه ويأخذ منها ويتشاكل معها و هو ما يعني أن النص دائما قائم في بعض تجلياته حيث أن آثره لا يزال ماثلا في النص الذي اتكأ عليه وتعلق به .
وفي تصور أكثر وضوحا من سابقه يعرف جيرارجينت التناص بأنه " هو ذلك الرق الذي أزيلت منه الكتابة الأولى لتحل محلها أخرى، ولكن العملية لم تطمس كليا النص الاول مما يمكن من قراءة النص القديم من وراء الجديد مثل ما يحدث في " التشفيف " وهذه الحالة تبين ان نصا يمكن ان يستر نصا آخر ولكن لا يخفيه كلية إلا في القليل النادر. فالنص في الغالب يتقبل قراءة مزدوجة اذ يتشابك فيه على الاقل نص " مشتق" ونصه المشتق منه.
وأعني بالنص المشتق كل الاعمال المتفرعة عن عمل سابق بالتحويل كالمحاكاة الساخرة أو التقليد أو كالمعارضة ... ويمكن للنص على الدوام ان يجعلك تقرأ نصا آخر وهكذا دواليك حتى نهاية النصوص " {3}
ففي هذا التعريف نجد التأكيد على التداخل والتشابك بين النصين النص الجديد والنص القديم، دون ان يكون في ذلك قتل للنص القديم بل هو تداخل او تقاطع بين النصوص في الالفاظ او المقاطع او السياق الذي تدور حوله هذه النصوص وقد اهتم الدارسون بالتقاطع بين النصوص باعتباره الوظيفة التي تمكن من قراءة النص على مختلف مستوياته تقول كريستفا" سنطلق على تقاطع نظام نص معين {الممارسة السيميائية } مع الملفوظات {المقاطع} التي سبق أن عبر عنها في فضائه أو التي يحيل إليها في فضاء النصوص { الممارسة السيميائية } إسم الإيديولوجم الذي يعني تلك الوظيفة للتداخل النص والتي يمكننا قراءتها " ماديا" على مختلف مستويات بناء كل نص تمتد على طول مساره مانحة إياه معطياته التاريخية والإجتماعية وهكذا يظل النص محكوما بالتداخل مع النصوص السابقة عليه من خلال وروده في فضائه والتعلق بمستويات بنائه.
وقد تتضح عملية التداخل والتفاعل بين النصوص بالوقوف على تعريف النص الذي تقوم عليه عملية التناص أو التفاعل النصي لهذا نقول إن النص بنية ضمن بنية نصية منتجة
وهو ما أكد عليه سعيد يقطين بقوله : " النص بنية دلالية تنتجها ذات { فردية أو جماعية } ضمن بنية نصية منتجة وفي إطار بنيات ثقافية وإجتماعية محددة" {1}
وغير بعيد من هذه التعريفات نجد الصياغة التي وضعا محمد مفتاح حيث يعرف التناص إنطلاقا مما ذهب إليه بعض الغربيين بقوله إنه فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة ممتص لها يجعلها من عندياته وبتصييرها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده. محولا لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالتها أو بهدف تعضيدها {2}
وقد وجدنا في هذا التعريف جوانب متعددة تنشر ما أجملته التعريفات السابقة التي ركزت على التداخل والتفاعل بين النصوص، وهو ما عبر عنه مفتاح "بالفسيفساء " أي الخلط بين قطع مختلف من شتى النصوص ثم الإمتصاص أو الإجتذاب من القديم للتلاؤم مع البنية الجديدة وبعد ذلك يقوم بنشر هذه المادة إن كانت منضغطة أو تلخيصها إن كانت عكس ذلك، وهي أمور كلها ناتجة عن عملية التفاعل أو التداخل وهي عملية لا غنى عنها في العمل الأدبي فبدون هذا التفاعل فإن العمل الأدبي سيظل مستعصيا على الفهم لأنه لا توجد له خيوط يمكن تلمسها من أجل الوقوف على حقيقته وهو ما عبر عنه أحد الدارسين بقوله " إن العمل الأدبي خارج " التناص" يصبح ببساطة غير قابل للإدراك لأننا لا ندرك المعنى في عمل ما إلا في علاقته بأنماط عليا هي بدورها مجرد متوالية طويلة من النصوص تمثل متغيرها"{1}
فالتناص إذا ضرورة يفرضها الواقع الأدبي الذي يحتم على الكاتب والقارئ ضرورة فهم النص فلولم يكن النص استجابة لنصوص متقدمة لا نهائية لما كان له أن يفهم.
ولعل هذه الحتمية أو الضرورة التي تقف وراء عملية التناص هي التي جعلت مفتاح يعتبره من أهم الضروريات بل لا حياة للأدب مالم يكن هنالك تناص لأنه هو عصب الحياة لها قياسا على تشبيهه بالماء يقول مفتاح " فالتناص ، إذن للشاعر بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان فلا حياة له بدونها ولا عيشة له خارجها" {2}.
فالتناص كما تِؤكد هذه التعريفات حتمية لا غنى عنها للنص الأدبي أراد الكاتب ذلك أم لم يرده فهو محكوم به عليه رغم أنفه حيث إنه قد يحصل دون أن يكون ذلك بقصد الكاتب بل يقع فيه من خلال مخزونه الأدبي في الذاكرة.
غير أن التناص لم يكن وليد الصدفة البحتة ، بل توجد آليات تحكمه , وقد كانت هذه الآليات موضع إهتمام ورصد من قبل علماء العرب القدماء وخير دليل على ذلك هو عملية الحكم بين النصين التي كان يقوم بها إبن رشيق حيث كان ينظر في أيهما أكثر إجادة في المعاني ولو كان متأخرا عن خصمه، سواء أكان دلك من خلال إختصاره للنص إن كان فضفاضا أم من خلال بسطه وتمطيطه إن كان عكس ذلك.
من هنا جاءت آليات التناص كما رصدها إبن رشيق وأقرها المعاصرون على النحو التالي : التمطيط والإيجاز.
{ أ } التمطيط : وقد يكون بأشكال مختلفة تبسط النص من خلال التداعي الذي يسيطر على الكاتب المحتذي وهو يختزن في ذاكرته النص النموذج وأول هذه الوسائل التي يعتمدها الكاتب في التمطيط هي الشرح.
- الشرح : وهو أهم وسيلة يعتمد فيها الكاتب على التمطيط : بإستعماله البعد التفسيري للفكرة التي يحاول شرحها لذلك كان الشرح أساس كل خطاب شعري إذ أنه قد يكون في القصيدة كلمة محورية تدور حولها القصيدة كلها.
- الإستعارة : سواء مرشحة أو مجردة أو مطلقة لأنها تبعث الحياة في كل الأشياء خاصة إذا كان الخطاب شعريا حيث تنقل المجرد { الدهر } إلى المحسوس {الليث} فالإستعارة قد تكون أكثر دقة في التعبير من الحقيقة وأشد منها وقعا لما تحتله من حيز مكاني وزماني أكثر من غيرها .
- التكرار : ويكون على مستوى الأصوات والكلمات والصيغ تراكميا أو ثنائيا.
{ب} الإيجاز: فكما ينشر الكاتب النص فإنه كذلك يلخصه ويختصره عما كان عليه من قبل عن طريق الإشارات والتلميحات الدالة كالإشارات التاريخية المشهورة {1}.
هذه إذا هي الآلية التي من خلالها يكون التناص، فهو إما أن يكون تمطيطا عن طريق الشرح والتفسير الذي تتداخل فيه النصوص وتتعالق بصورة واضحة وإما أن يكون تلخيصا من خلال الإيماءات إلى حوادث مشهورة تاريخيا وهو هنا إرصاد أو تضمين من تفاعل نصي{2}.
2- أنواع التناص :
هنالك إصطلاحات كثيرة وردت كلها في إطار واحد هو إطار التناص فكما يسميه البعض بالتناص يسميه آخرون التفاعل النصي أو التداخل النصي أو العلاقة بين النصوص أو المتعالقات النصية. وهي عبارات مختلفة في اللفظ، وتطمح لنفس الهدف بل بصورة أدق كلها أسماء لمسمي واحد، ولعل التفاعل النصي أقوي هذه التعابير. لأنه يحمل في طياته صورة التأثير التي يرسمها النص المتقدم في النص المتأخر. وهو ما يمكن من خلاله الكشف عن العلاقة أو الصلة بين النصوص من حيث أدبيتها .
وقد كان جيرارجينت سباقا في تصنيف التناص إلى أنواع معينة وصل عددها إلى خمسة رئيسية وهذه الأنواع هي:
1.التناص وهو يحمل نفس المعنى الذي يرمي إليه التناص عند جوليا كريستفا أما عند جيرارجينت فهو حضور نص في آخر للإستشهاد والسرقة وما شابه ذلك .
2. المناصparatisit وخير مثال عليه العناوين والعناوين الفرعية والمقدمات والذيول والصور وكلمات الناشر.
3. الميتناص : وهو علاقة التعليق الذي يربط نصا بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره أحيانا .
4. النص اللاحق : ويكمن في العلاقة التي تجمع النص "ب" كنص لاحق huortexte بالنص {أ} كنص سابق hyupoxte وهي علاقة تحويل أو محاكات.
5. معمارية النص : هو النمط الأكثر تجريدا وتضمنا، إنه علاقة صماء تأخذ بعدا مناصيا وتتصل بالنوع؟ شعر- رواية{1}.
وهذه الأنواع الخمسة كما هو واضح شديدة الترابط فيما بينها حيث لاتخرج عن الإطار الذي رسمت من أجله التسمية وهو وجود علاقة ما بين النصوص .
وفي تصور آخر غير بعيد عن هذا يقسم سعيد يقطين التناص إلى أنواع ثلاثة انطلاقا من اعتبار أن النص ينتج ضمن بنية نصية سابقة وهو يتعالق بها وهو يقسم النص إلى بنيات نصية هي " بنية النص" وهي التي تعنى باللغة والأحداث والشخصيات والقسم الآخر من البنية هو " بنية المتفاعل النصي " لأن المتفاعلات هي البنيات النصية بشتى أشكالها.
وقد توصل يقطين إلى الأنواع الثلاثة التالية، مستعينا في هذا التقسيم بتقسيم جيرارجيت السابق " نستفيد في تحديدنا لأنواع التناص من خلال دراسة جيرارجيت"لها {1}
وهي:
1. المناصة Paratentalité : وهي البنية النصية التي تشترك وبنية نصية أصلية في مقام وسياق معينين وتجاورها محافظة على بنيتها كاملة ومستقلة. وتكون المناصة داخل النص أي تفاعل داخلي كما تكون مناصة خارجية ومن ضمنها ما يكون في المقدمات والذيول والملاحق وكلمات الناشرأو ما شابه ذلك.
2. التناص inttertextua وهو يعني التضمين بأن تتضمن بنية نصية ما عناصر من بنيات نصية سابقة وتلتحم معها حتى يظهر أنها جزء منها .
3. الميتناصية métatextualité وهي نوع من المناصة لكنها تأخذ بعدا نقديا محضا في علاقة بنية نصية مع بنية نصية أصل{2}.
وهذه الأنواع كلها وكما لاحظنا سابقا مع تقسيمات جيرارجينت تسير في قالب واحد هو التفاعل النصي أو العلاقة ما بين النص القديم والحديث.
حيث إن كل الكتابات تنتج في اطار بنية نصية سابقة بقصد صاحبها او بغير قصده، سواء أكانت هذه البنية قديمة ام معاصرة. واذا كان التناص قد دخل الثقافة العربية في صورته الناضجة عن طريق التلاقح الثقافي مع الغرب فان له جذورا – في ثقافتنا العربية وهو ما رصده النقاد القدماء، من خلال دراستهم للمعارضة وقد صنفوها إلى أنواع كثيرة حسب تصور كل ناقد للطريقة التي يتم بها التناص داخل المعارضات الشعرية.
وسنشير في هذه الدراسة الى الانواع التي توصل اليها القدماء دون ان نغوص في ذلك لاننا نريد فقط ان نؤكد على مدى الترابط بين التصور القديم والحديث للتناص , وإن اختلفت المعالجات التي كشفت بها حقيقة التناص.
لقد كانت المحاولات كثيرة في هذا المجال حيث نجد ابن رشيق والحاتمي وبدوى طبانة وغيرهم تحدثوا عن هذه الانواع ودورها في عملية الابداع الادبي.
وسنهمل كل المحاولات الا محاولة بدوى طبانة ، والتي سنكتفي منها ببعض التعريفات والشواهد تفاديا للاطالة. ففي إطار معالجته لهذه المسألة رأي بدوى طبانة أنه يوجد أثنا عشر نوعا من التناص على النحو التالي:
1. الاصطراف : وهو وليد الاعجاب بالسابق والأخذ به ويكون ذلك باحدى طريقتين إن يعتبره مثلا له فهو " اجتلاب" و" استلحاق". وإن لم يكن على سبيل المثل فهو انتحال وهو اقرب الى السرقة وان ورد على غير ذلك.
2. الادعاء : أن يدعى الرجل شعر غيره فينسبه لنفسه كذبا.
3. الغصب : أن ينسب الشاعر شعر غيره لنفسه عنوة رغم قيام الحجة.
4. المرافدة : أن يقدم الشاعر لزميله ابياتا على سبيل المعونة تتمة لمعنى كان قد بدأ فيه ولم يكمله.
5. الاهتدام : وهو ان يأحذ الشاعر البيت او البيتين وهو بمعنى السرقة
6. النظر والملاحظة : أن يتساوى المعنيان دون اللفظ مع خفاء الصلة.
7. الاختلاس : وهو استعمال المعني القديم في غرض جديد.
8. الموازنة : وهو يقتصر على اخذ ابنية الكلمات.
9. المواردة : ان يتفق الشاعران دون ان يسمع احدهما شعر الاخر
10. الالتقاط : والتغليف : وهو بناء البيت من ابنية ابيات عديدة.
11. كشف المعنى : وهو إظهار المعنى الذي تحدث فيه الاول من طرف الاخير.
12. المجدود : وهو ان يشتهر المعنى ويظل جاريا على الالسنة في جدة متميزة
و من خلال نظرة خاطفة لهذه التعريفات نجد أن القدماء لم تتجاوزهم الرؤى المعاصرة في كثير, حيث إنهم بحثوا في كل السبل ورصدوا تحركات الشعراء المختلفة حتى تمكنوا من معرفة العلاقات الداخلية والخارجية بين النصوص الشعرية وان كان هنالك من فروق فإن من أهمها قدرة المعاصرين على تحديد الظاهرة والسيطرة عليها من خلال تلخيصها في اقسام وجيزة بينما نجدها عند القدماء متعددة الجوانب.
3 – أهمية التناص :
بعد التتبع لمظاهر التناص في الثقافة الغربية، وتأصيله في الثقافة العربية فانه لا فكاك لنا من التسليم بضرورة التناص واهميته في الثقافة الانسانية بشكل عام، وفي تطور الادب بشكل خاض فكل الدراسات تؤكد على اهميته كضرورة حتمية لا مناص مها فهو كما يقول الدكتور مفتاح " فالتناص، إذن للشاعر بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للانسان فلا حياة له بدونهما ولا عيشة له خارجهما".
فالشاعر يجد نفسه ملزما بالاخذ بشروط التناص الزمانية والمكانية وما دار في هذا الزمان والمكان فضلا عن ما تختزنه ذاكرته من احداث تاريخية
كما أن معرفة المحيط الاجتماعي الذي يوجد فيه الشاعر هي الرافد الاساسي الذي تنبع منه التأويلات النصية من طرف المتلقين من خلال عكسهم للنص على ما دار في الواقع المعيشي مما يجعل تجاهل آليات التناص أمرا غير ممكن وهو ما أكد عليه مفتاح في قوله : " لا أن يتجاهل وجوده هروبا الى الامام" ولعل هذه الالزامية هي التي جعلت الشعر العربي القديم يعيش في دوامة { الابداع والاتباع حيث لم يجد بدا من الخروج منها لعدم تبلور الرؤية في نظر النقاد
بينما ظهرت المسألة في النقد الحديث كضرورة إلزامية لا غنى عنها للادب حيث إن عملية التناص هي التي نستطيع من خلالها تأويل النصوص وتفسيرها ولعل هذا التصور هو الذي ذهب اليه سعيد يقطين حين قال " إن التناص له ضرورته وأهميته لان الامر يتعلق بتوجيه قراءة النص والتحكم في تأويله"
فليس للنص كلغة معزولة عن العالم أهمية إذ لا يمكن فهم ما يدور حوله، الا إذا عتبرنا أنه بنية متشابكة من نصوص متعددة أي انه نسيج من أبنية نصية سابقة عليه تبعا للاشارات التي يحملها. وتعتبر هذه النصوص السابقة أو ما سماها بعضهم بالنص "الغائب" هي العتبات أو الشفرات التي من خلالها يمكن الدخول الى النص الحاضر.
وهو ما يجعل في النص نكهة وجمالية عند المتلقى حيث يربطه بجذور معينة يستمتع خلال عملية تلمسه لها.
– دواعي التناص :
رغم الاهمية الادبية التي تبوأها التناص في الدراسات الادبية حيث تبين أنه لا غني عنه للشاعر ولا الكاتب ايا كان، فانه لا يمكن ان نعتبر ان التناص وليد الصدفة، ولا يصح ان يكون كذلك. ذلك ان الثقافة الانسانية محكومة بسمة التوليد والاستنتاج وكلما طال عمر الثقافة ايا كانت فانها تكون اكثر حظا في التعالق ما بين الحاضر والماضي .
والنظر في قضية اللغة كظاهرة إنسانية متجذرة يوضح ان الانسان لا يمكنه الانقطاع عن الماضي الثقافي له "إذ انه ليس في مقدوره اختراع اللغة كما لا يمكنه الاستغناء عنها لانه لن يكون مسموعا من طرف مجتمعه، ومن هنا فانه يعجز عن الاستمرارية في التواصل مع الاخرين فاللغة نتاج اجتماعي لا يمكن إهماله بل لا بد من التمسك به والرجوع اليه حتى يتسنى للقارئ والمتلقي بصورة عامة فهم مداخيل هذا النص ولن يكون ذلك الا بوضعه في إطاره الاجتماعي "يجب وضع النص الادبي في وضع لغوي اجتماعي خاص كما عاشه كاتبه وجماعته الاجتماعية".
علاوة على ذلك فانه لا يمكن اهمال دور الثقافة التراثية دون قصد الكاتب او الشاعر لان هذا الشاعر الذي انسجم مع هذه اللغة وفهم مدلولاتها، فانه سيجد نفسه مرغما على التعامل معها والاخذ منها حيث استقرت في ذاكرته وكونت لديه مرجعية ثقافية معينة اصبحت تشكل جزء كبيرا من بنيته الفكرية.
لذلك فانه من الجدير بنا أن نذكر ان التناص وليد التراكمات الثقافية لدى الانسان، وبالتالي فانه من أهم الدواعى التي أسهمت في إرساء قواعد التناص الادبي هى الخلفية الثقافية في التراث.
مفهومه وأنواعه
د/ محمد الأمين ولد أحمد عبد الله
تشي كلمة (التناص) بوجود تفاعل أو تشارك بين نصين باستفادة احدهما من الأخر و لعل ذلك ما جعل النقد يركز على كشف حيثاته في الثقافة العربية قديما والثقافة الغربية حديثا، وهي التي أنتجت هذا المصطلح بصيغته الحالية {intertextualite} ويعني هذا المصطلح التواجد اللغوي لنص في نص آخر , أي كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى" (ا)
و نحن و إن قلنا إن المصطلح دخيل على الثقافة العربية فإننا نشير كذلك إلى أن له جذورا في النقد العربي القديم من حيث دلالته .و إذا بحثنا في المراجع الاجنبية التي تحدثت عن هذا المصطلح فلن نجده يختلف كثيرا عما أشرنا اليه سابقا أي عملية التفاعل بين النصوص، و هو ما أشارت إليه اكريستفا بقولها : ( النص ترحال للنصوص و تداخل نص في فضاء نص معين تتقاطع و تتنافي ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى ){2}
وهو ما يعني أن ثمة عملية مستمرة في صيرورتها تحكم عالم النص الذي يظل يغازل النصوص السابقة عليه ويأخذ منها ويتشاكل معها و هو ما يعني أن النص دائما قائم في بعض تجلياته حيث أن آثره لا يزال ماثلا في النص الذي اتكأ عليه وتعلق به .
وفي تصور أكثر وضوحا من سابقه يعرف جيرارجينت التناص بأنه " هو ذلك الرق الذي أزيلت منه الكتابة الأولى لتحل محلها أخرى، ولكن العملية لم تطمس كليا النص الاول مما يمكن من قراءة النص القديم من وراء الجديد مثل ما يحدث في " التشفيف " وهذه الحالة تبين ان نصا يمكن ان يستر نصا آخر ولكن لا يخفيه كلية إلا في القليل النادر. فالنص في الغالب يتقبل قراءة مزدوجة اذ يتشابك فيه على الاقل نص " مشتق" ونصه المشتق منه.
وأعني بالنص المشتق كل الاعمال المتفرعة عن عمل سابق بالتحويل كالمحاكاة الساخرة أو التقليد أو كالمعارضة ... ويمكن للنص على الدوام ان يجعلك تقرأ نصا آخر وهكذا دواليك حتى نهاية النصوص " {3}
ففي هذا التعريف نجد التأكيد على التداخل والتشابك بين النصين النص الجديد والنص القديم، دون ان يكون في ذلك قتل للنص القديم بل هو تداخل او تقاطع بين النصوص في الالفاظ او المقاطع او السياق الذي تدور حوله هذه النصوص وقد اهتم الدارسون بالتقاطع بين النصوص باعتباره الوظيفة التي تمكن من قراءة النص على مختلف مستوياته تقول كريستفا" سنطلق على تقاطع نظام نص معين {الممارسة السيميائية } مع الملفوظات {المقاطع} التي سبق أن عبر عنها في فضائه أو التي يحيل إليها في فضاء النصوص { الممارسة السيميائية } إسم الإيديولوجم الذي يعني تلك الوظيفة للتداخل النص والتي يمكننا قراءتها " ماديا" على مختلف مستويات بناء كل نص تمتد على طول مساره مانحة إياه معطياته التاريخية والإجتماعية وهكذا يظل النص محكوما بالتداخل مع النصوص السابقة عليه من خلال وروده في فضائه والتعلق بمستويات بنائه.
وقد تتضح عملية التداخل والتفاعل بين النصوص بالوقوف على تعريف النص الذي تقوم عليه عملية التناص أو التفاعل النصي لهذا نقول إن النص بنية ضمن بنية نصية منتجة
وهو ما أكد عليه سعيد يقطين بقوله : " النص بنية دلالية تنتجها ذات { فردية أو جماعية } ضمن بنية نصية منتجة وفي إطار بنيات ثقافية وإجتماعية محددة" {1}
وغير بعيد من هذه التعريفات نجد الصياغة التي وضعا محمد مفتاح حيث يعرف التناص إنطلاقا مما ذهب إليه بعض الغربيين بقوله إنه فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة ممتص لها يجعلها من عندياته وبتصييرها منسجمة مع فضاء بنائه ومع مقاصده. محولا لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها ودلالتها أو بهدف تعضيدها {2}
وقد وجدنا في هذا التعريف جوانب متعددة تنشر ما أجملته التعريفات السابقة التي ركزت على التداخل والتفاعل بين النصوص، وهو ما عبر عنه مفتاح "بالفسيفساء " أي الخلط بين قطع مختلف من شتى النصوص ثم الإمتصاص أو الإجتذاب من القديم للتلاؤم مع البنية الجديدة وبعد ذلك يقوم بنشر هذه المادة إن كانت منضغطة أو تلخيصها إن كانت عكس ذلك، وهي أمور كلها ناتجة عن عملية التفاعل أو التداخل وهي عملية لا غنى عنها في العمل الأدبي فبدون هذا التفاعل فإن العمل الأدبي سيظل مستعصيا على الفهم لأنه لا توجد له خيوط يمكن تلمسها من أجل الوقوف على حقيقته وهو ما عبر عنه أحد الدارسين بقوله " إن العمل الأدبي خارج " التناص" يصبح ببساطة غير قابل للإدراك لأننا لا ندرك المعنى في عمل ما إلا في علاقته بأنماط عليا هي بدورها مجرد متوالية طويلة من النصوص تمثل متغيرها"{1}
فالتناص إذا ضرورة يفرضها الواقع الأدبي الذي يحتم على الكاتب والقارئ ضرورة فهم النص فلولم يكن النص استجابة لنصوص متقدمة لا نهائية لما كان له أن يفهم.
ولعل هذه الحتمية أو الضرورة التي تقف وراء عملية التناص هي التي جعلت مفتاح يعتبره من أهم الضروريات بل لا حياة للأدب مالم يكن هنالك تناص لأنه هو عصب الحياة لها قياسا على تشبيهه بالماء يقول مفتاح " فالتناص ، إذن للشاعر بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان فلا حياة له بدونها ولا عيشة له خارجها" {2}.
فالتناص كما تِؤكد هذه التعريفات حتمية لا غنى عنها للنص الأدبي أراد الكاتب ذلك أم لم يرده فهو محكوم به عليه رغم أنفه حيث إنه قد يحصل دون أن يكون ذلك بقصد الكاتب بل يقع فيه من خلال مخزونه الأدبي في الذاكرة.
غير أن التناص لم يكن وليد الصدفة البحتة ، بل توجد آليات تحكمه , وقد كانت هذه الآليات موضع إهتمام ورصد من قبل علماء العرب القدماء وخير دليل على ذلك هو عملية الحكم بين النصين التي كان يقوم بها إبن رشيق حيث كان ينظر في أيهما أكثر إجادة في المعاني ولو كان متأخرا عن خصمه، سواء أكان دلك من خلال إختصاره للنص إن كان فضفاضا أم من خلال بسطه وتمطيطه إن كان عكس ذلك.
من هنا جاءت آليات التناص كما رصدها إبن رشيق وأقرها المعاصرون على النحو التالي : التمطيط والإيجاز.
{ أ } التمطيط : وقد يكون بأشكال مختلفة تبسط النص من خلال التداعي الذي يسيطر على الكاتب المحتذي وهو يختزن في ذاكرته النص النموذج وأول هذه الوسائل التي يعتمدها الكاتب في التمطيط هي الشرح.
- الشرح : وهو أهم وسيلة يعتمد فيها الكاتب على التمطيط : بإستعماله البعد التفسيري للفكرة التي يحاول شرحها لذلك كان الشرح أساس كل خطاب شعري إذ أنه قد يكون في القصيدة كلمة محورية تدور حولها القصيدة كلها.
- الإستعارة : سواء مرشحة أو مجردة أو مطلقة لأنها تبعث الحياة في كل الأشياء خاصة إذا كان الخطاب شعريا حيث تنقل المجرد { الدهر } إلى المحسوس {الليث} فالإستعارة قد تكون أكثر دقة في التعبير من الحقيقة وأشد منها وقعا لما تحتله من حيز مكاني وزماني أكثر من غيرها .
- التكرار : ويكون على مستوى الأصوات والكلمات والصيغ تراكميا أو ثنائيا.
{ب} الإيجاز: فكما ينشر الكاتب النص فإنه كذلك يلخصه ويختصره عما كان عليه من قبل عن طريق الإشارات والتلميحات الدالة كالإشارات التاريخية المشهورة {1}.
هذه إذا هي الآلية التي من خلالها يكون التناص، فهو إما أن يكون تمطيطا عن طريق الشرح والتفسير الذي تتداخل فيه النصوص وتتعالق بصورة واضحة وإما أن يكون تلخيصا من خلال الإيماءات إلى حوادث مشهورة تاريخيا وهو هنا إرصاد أو تضمين من تفاعل نصي{2}.
2- أنواع التناص :
هنالك إصطلاحات كثيرة وردت كلها في إطار واحد هو إطار التناص فكما يسميه البعض بالتناص يسميه آخرون التفاعل النصي أو التداخل النصي أو العلاقة بين النصوص أو المتعالقات النصية. وهي عبارات مختلفة في اللفظ، وتطمح لنفس الهدف بل بصورة أدق كلها أسماء لمسمي واحد، ولعل التفاعل النصي أقوي هذه التعابير. لأنه يحمل في طياته صورة التأثير التي يرسمها النص المتقدم في النص المتأخر. وهو ما يمكن من خلاله الكشف عن العلاقة أو الصلة بين النصوص من حيث أدبيتها .
وقد كان جيرارجينت سباقا في تصنيف التناص إلى أنواع معينة وصل عددها إلى خمسة رئيسية وهذه الأنواع هي:
1.التناص وهو يحمل نفس المعنى الذي يرمي إليه التناص عند جوليا كريستفا أما عند جيرارجينت فهو حضور نص في آخر للإستشهاد والسرقة وما شابه ذلك .
2. المناصparatisit وخير مثال عليه العناوين والعناوين الفرعية والمقدمات والذيول والصور وكلمات الناشر.
3. الميتناص : وهو علاقة التعليق الذي يربط نصا بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره أحيانا .
4. النص اللاحق : ويكمن في العلاقة التي تجمع النص "ب" كنص لاحق huortexte بالنص {أ} كنص سابق hyupoxte وهي علاقة تحويل أو محاكات.
5. معمارية النص : هو النمط الأكثر تجريدا وتضمنا، إنه علاقة صماء تأخذ بعدا مناصيا وتتصل بالنوع؟ شعر- رواية{1}.
وهذه الأنواع الخمسة كما هو واضح شديدة الترابط فيما بينها حيث لاتخرج عن الإطار الذي رسمت من أجله التسمية وهو وجود علاقة ما بين النصوص .
وفي تصور آخر غير بعيد عن هذا يقسم سعيد يقطين التناص إلى أنواع ثلاثة انطلاقا من اعتبار أن النص ينتج ضمن بنية نصية سابقة وهو يتعالق بها وهو يقسم النص إلى بنيات نصية هي " بنية النص" وهي التي تعنى باللغة والأحداث والشخصيات والقسم الآخر من البنية هو " بنية المتفاعل النصي " لأن المتفاعلات هي البنيات النصية بشتى أشكالها.
وقد توصل يقطين إلى الأنواع الثلاثة التالية، مستعينا في هذا التقسيم بتقسيم جيرارجيت السابق " نستفيد في تحديدنا لأنواع التناص من خلال دراسة جيرارجيت"لها {1}
وهي:
1. المناصة Paratentalité : وهي البنية النصية التي تشترك وبنية نصية أصلية في مقام وسياق معينين وتجاورها محافظة على بنيتها كاملة ومستقلة. وتكون المناصة داخل النص أي تفاعل داخلي كما تكون مناصة خارجية ومن ضمنها ما يكون في المقدمات والذيول والملاحق وكلمات الناشرأو ما شابه ذلك.
2. التناص inttertextua وهو يعني التضمين بأن تتضمن بنية نصية ما عناصر من بنيات نصية سابقة وتلتحم معها حتى يظهر أنها جزء منها .
3. الميتناصية métatextualité وهي نوع من المناصة لكنها تأخذ بعدا نقديا محضا في علاقة بنية نصية مع بنية نصية أصل{2}.
وهذه الأنواع كلها وكما لاحظنا سابقا مع تقسيمات جيرارجينت تسير في قالب واحد هو التفاعل النصي أو العلاقة ما بين النص القديم والحديث.
حيث إن كل الكتابات تنتج في اطار بنية نصية سابقة بقصد صاحبها او بغير قصده، سواء أكانت هذه البنية قديمة ام معاصرة. واذا كان التناص قد دخل الثقافة العربية في صورته الناضجة عن طريق التلاقح الثقافي مع الغرب فان له جذورا – في ثقافتنا العربية وهو ما رصده النقاد القدماء، من خلال دراستهم للمعارضة وقد صنفوها إلى أنواع كثيرة حسب تصور كل ناقد للطريقة التي يتم بها التناص داخل المعارضات الشعرية.
وسنشير في هذه الدراسة الى الانواع التي توصل اليها القدماء دون ان نغوص في ذلك لاننا نريد فقط ان نؤكد على مدى الترابط بين التصور القديم والحديث للتناص , وإن اختلفت المعالجات التي كشفت بها حقيقة التناص.
لقد كانت المحاولات كثيرة في هذا المجال حيث نجد ابن رشيق والحاتمي وبدوى طبانة وغيرهم تحدثوا عن هذه الانواع ودورها في عملية الابداع الادبي.
وسنهمل كل المحاولات الا محاولة بدوى طبانة ، والتي سنكتفي منها ببعض التعريفات والشواهد تفاديا للاطالة. ففي إطار معالجته لهذه المسألة رأي بدوى طبانة أنه يوجد أثنا عشر نوعا من التناص على النحو التالي:
1. الاصطراف : وهو وليد الاعجاب بالسابق والأخذ به ويكون ذلك باحدى طريقتين إن يعتبره مثلا له فهو " اجتلاب" و" استلحاق". وإن لم يكن على سبيل المثل فهو انتحال وهو اقرب الى السرقة وان ورد على غير ذلك.
2. الادعاء : أن يدعى الرجل شعر غيره فينسبه لنفسه كذبا.
3. الغصب : أن ينسب الشاعر شعر غيره لنفسه عنوة رغم قيام الحجة.
4. المرافدة : أن يقدم الشاعر لزميله ابياتا على سبيل المعونة تتمة لمعنى كان قد بدأ فيه ولم يكمله.
5. الاهتدام : وهو ان يأحذ الشاعر البيت او البيتين وهو بمعنى السرقة
6. النظر والملاحظة : أن يتساوى المعنيان دون اللفظ مع خفاء الصلة.
7. الاختلاس : وهو استعمال المعني القديم في غرض جديد.
8. الموازنة : وهو يقتصر على اخذ ابنية الكلمات.
9. المواردة : ان يتفق الشاعران دون ان يسمع احدهما شعر الاخر
10. الالتقاط : والتغليف : وهو بناء البيت من ابنية ابيات عديدة.
11. كشف المعنى : وهو إظهار المعنى الذي تحدث فيه الاول من طرف الاخير.
12. المجدود : وهو ان يشتهر المعنى ويظل جاريا على الالسنة في جدة متميزة
و من خلال نظرة خاطفة لهذه التعريفات نجد أن القدماء لم تتجاوزهم الرؤى المعاصرة في كثير, حيث إنهم بحثوا في كل السبل ورصدوا تحركات الشعراء المختلفة حتى تمكنوا من معرفة العلاقات الداخلية والخارجية بين النصوص الشعرية وان كان هنالك من فروق فإن من أهمها قدرة المعاصرين على تحديد الظاهرة والسيطرة عليها من خلال تلخيصها في اقسام وجيزة بينما نجدها عند القدماء متعددة الجوانب.
3 – أهمية التناص :
بعد التتبع لمظاهر التناص في الثقافة الغربية، وتأصيله في الثقافة العربية فانه لا فكاك لنا من التسليم بضرورة التناص واهميته في الثقافة الانسانية بشكل عام، وفي تطور الادب بشكل خاض فكل الدراسات تؤكد على اهميته كضرورة حتمية لا مناص مها فهو كما يقول الدكتور مفتاح " فالتناص، إذن للشاعر بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للانسان فلا حياة له بدونهما ولا عيشة له خارجهما".
فالشاعر يجد نفسه ملزما بالاخذ بشروط التناص الزمانية والمكانية وما دار في هذا الزمان والمكان فضلا عن ما تختزنه ذاكرته من احداث تاريخية
كما أن معرفة المحيط الاجتماعي الذي يوجد فيه الشاعر هي الرافد الاساسي الذي تنبع منه التأويلات النصية من طرف المتلقين من خلال عكسهم للنص على ما دار في الواقع المعيشي مما يجعل تجاهل آليات التناص أمرا غير ممكن وهو ما أكد عليه مفتاح في قوله : " لا أن يتجاهل وجوده هروبا الى الامام" ولعل هذه الالزامية هي التي جعلت الشعر العربي القديم يعيش في دوامة { الابداع والاتباع حيث لم يجد بدا من الخروج منها لعدم تبلور الرؤية في نظر النقاد
بينما ظهرت المسألة في النقد الحديث كضرورة إلزامية لا غنى عنها للادب حيث إن عملية التناص هي التي نستطيع من خلالها تأويل النصوص وتفسيرها ولعل هذا التصور هو الذي ذهب اليه سعيد يقطين حين قال " إن التناص له ضرورته وأهميته لان الامر يتعلق بتوجيه قراءة النص والتحكم في تأويله"
فليس للنص كلغة معزولة عن العالم أهمية إذ لا يمكن فهم ما يدور حوله، الا إذا عتبرنا أنه بنية متشابكة من نصوص متعددة أي انه نسيج من أبنية نصية سابقة عليه تبعا للاشارات التي يحملها. وتعتبر هذه النصوص السابقة أو ما سماها بعضهم بالنص "الغائب" هي العتبات أو الشفرات التي من خلالها يمكن الدخول الى النص الحاضر.
وهو ما يجعل في النص نكهة وجمالية عند المتلقى حيث يربطه بجذور معينة يستمتع خلال عملية تلمسه لها.
– دواعي التناص :
رغم الاهمية الادبية التي تبوأها التناص في الدراسات الادبية حيث تبين أنه لا غني عنه للشاعر ولا الكاتب ايا كان، فانه لا يمكن ان نعتبر ان التناص وليد الصدفة، ولا يصح ان يكون كذلك. ذلك ان الثقافة الانسانية محكومة بسمة التوليد والاستنتاج وكلما طال عمر الثقافة ايا كانت فانها تكون اكثر حظا في التعالق ما بين الحاضر والماضي .
والنظر في قضية اللغة كظاهرة إنسانية متجذرة يوضح ان الانسان لا يمكنه الانقطاع عن الماضي الثقافي له "إذ انه ليس في مقدوره اختراع اللغة كما لا يمكنه الاستغناء عنها لانه لن يكون مسموعا من طرف مجتمعه، ومن هنا فانه يعجز عن الاستمرارية في التواصل مع الاخرين فاللغة نتاج اجتماعي لا يمكن إهماله بل لا بد من التمسك به والرجوع اليه حتى يتسنى للقارئ والمتلقي بصورة عامة فهم مداخيل هذا النص ولن يكون ذلك الا بوضعه في إطاره الاجتماعي "يجب وضع النص الادبي في وضع لغوي اجتماعي خاص كما عاشه كاتبه وجماعته الاجتماعية".
علاوة على ذلك فانه لا يمكن اهمال دور الثقافة التراثية دون قصد الكاتب او الشاعر لان هذا الشاعر الذي انسجم مع هذه اللغة وفهم مدلولاتها، فانه سيجد نفسه مرغما على التعامل معها والاخذ منها حيث استقرت في ذاكرته وكونت لديه مرجعية ثقافية معينة اصبحت تشكل جزء كبيرا من بنيته الفكرية.
لذلك فانه من الجدير بنا أن نذكر ان التناص وليد التراكمات الثقافية لدى الانسان، وبالتالي فانه من أهم الدواعى التي أسهمت في إرساء قواعد التناص الادبي هى الخلفية الثقافية في التراث.