لم يكن شاعر العرب الاكبر ابا فرات لتغره كل اضواء الدنيا وجمال الدول التي زارها هي كذلك لم تستطع أن تطبق على لواعج نفسه فدجلة الخير هي قدره وعشقه وهي ما يسري بدمه مذ فتح عينه على ذلك النهر الذي كان انسجاما حقيقيا بين العطاءين بل يمكن ان نقول انه لا يفرق عن دجله الا بما نراه نحن وليس بما يراه شاعرنا العملاق .
حينما كان في براغ بلغه نبأ شباط الاسود 1963 (فترأس لجنة الدفاع عن العراقيين ) ومن أذاعة صوت الشعب العراقي انطلق صوته العميق الصارخ مندداً بالانقلابيين . ولا يهم إن كان الجواهري في العراق او في المنافي فالوطن يعني له الصميم فلا فواصل بينه وبين ارضه وتربته بل ربما كان هناك عمق اخر لا نحسبه بشكله المتجسد الا من خلال تلك الاحرف الخالدة التي رددها على مسامع الزمن اذ يقول ............
حييت سفحك عن بعد فحييني ........يا دجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآناً الوذ به ...........لوذ الحمائم بين الماء والطين
عاد الجواهري الى الوطن اواخر الستينات وخبر دهر البلاد كما خبر دهر روحه وما يسكنها من اشواق وحنين لتلك الأرض التي ولطالما انشد لها
وأراد ان يريح روحه ويسكنها بعض من هذا الدهر وبتعبيره الصادق يقول :
أرح ركابك من أين ومن عثر.........كفاك جيلان محمولان على خطر
ولم تكن بداية القصة تلك بل تحديدا في شتاء 1962 نطم الجواهري قصيدته يا دجلة الخير وكان يمر حينها بأزمة نفسية مما استدعى تواجده مع اسرته في براغ عام 1961 وهذا ما سنقف عليه في مواضيع اخرى
وذاع صيتها مدوياً , قصيدة خالدة وحتى الان نرددها ونفخر بما خلف لنا ذلك الطود الشامخ الذي ظل مع الناس رغم المصاعب والمنعطفات والدوائر التي كانت بمقدورها ان تلف ضعيفي الهمة وليس شاعرنا منهم بل انه يعد الشاعر الذي رضع مع العزم من صدر العراق
الجواهري ذاكرة الشارع , يوميات الزنزانة في زمن المشانق , الجواهري شاعر الشطرين والنهرين عاش غربة أطول من عمر الغريب نفسه فشعر وقصائد الجواهري ماء يرش على آلامنا نحن المغتربون ومن يسكن ارض الوطن فالألام مشتركة . اشعر وكأنه يغني بمزمار الوجد لجيل سكنته الأحزان والويلات , غنى للنبع الشهيد وسلَّم على النخلة الشامخة .
نعود الى تلك القصيدة الرائعة ذات البنيان الضخم سكب فيها من عُرامه وشموخه وعناده الصخري وكبريائه وغنى لنا لدجلة الخير والفرات وبغداد والنجف وغنى ومن منفاه الاهل والخلان واستذكر رائحة الشوارع وظلال النخيل والبساتين ومذاق الهجير والزمهرير . نظم قصيدته الخالدة التي تلمس ومن خلالها طبيعة البشر بثوراتهم وهدوئهم اتراحهم وحبورهم والحنين لم تمناه الشعب وحُرم منه ولعدة اسباب باتت معلومة من طرفنا واغلبها سياسية
نصبو للسلام ونجني حروباً ودمار . يا دجلة الخير يا أم البساتين قصيدة لابيات متلاحمة لأشواق وحنين خبز الشعر ونافورة الصوت الجواهري للوطن والعراق الحبيب , لوعة وحنين الى ضفاف دجلة واصطفاق امواجها
رحمك الله يا من جعلتك كتاب حب وضعته على الرف الأول من شغاف قلبي كتاباً خالداً مخلداً حتى الرمق الأخير