تجولت بين عشرات الجرحى بالمشفى ، حتى وصلت إلى سريرٍ يتمدد عليه شاب ، بصعوبة عرفت انه عسكري فقميصه الأخضر صبغته دماءه المنهمرة بغزارة اللون الأحمر ، أرتجفت وأنا أنظر إاليه ، من أين أبدأ؟!
لا أدري ماذا حصل لي، كل ما درسته لسنوات بكلية الطب نسيته بتلك اللحظات ، شاب ملطخ بالدم من رأسه حتى أخمص قدميه ، لا شيء به واضح سوى عينيه الخضراوتين ، اللتان فتحمها فجأة ونظر بعيني مباشرةً ، بلحظةٍ أوقفتا به أنفاسي ، تدراكت نفسي والتفت إالى حقيبتي ، هممت بفتحا فاستوقفني صوته : " ماذا ستفعلين؟... كيف ستنقذيني؟!
لقد جئتك وقد وقع علي الموت أقسى توقيع له !!"
تمتمت بذهول : كيف أنقذك؟!
تلمس جيبه وأخرج رسالة وألقاها بيدي بعد أن لطخها بالدماء التي تغطي يديه ،قال بصعوبة : عديني أنها ستصلها
أمعنت بالرسالة للحظات ثم هتفت : أعدك!
بعدها أيقنت أنني ألقيت وعدي على جثة هامدة ...
قضيت الليل وأنا أمعن بالرسالة ، لم يكن على الظرف أية اسم ، فقط عنوان لبيت باحدى قرى درعا الشرقية ، الطريق من دمشق إلى درعا محفوف بالمخاطر ، ولكني عزمت على الذهاب ، علي أن أنفذ وصيته الأخيرة
كان علي أن أنهي بعض الالتزامات للمشفى أولاً ، أستغرق الأمر مني نحو شهرين ونصف ، أنطلقت بعدها بذات صباح بسيارتي ، كل ما خطر ببالي هو أنني فقط " مجنونة " لخروجي برسالة لا أعرف ما بها من شخصٍ لآخر لا أعرف أيّاً منهما !
ولكن كل ما يحدث ببلادي الآن يدفعني للجنون بخطواتٍ واثبة !
وفي الطريق لهناك ، وبعد أن أجتزت حاجز عسكري لجيش النظام بلحظات على مشارف قرية خربة غزالة ، رأيت أمامي مقاتلين من الجيش الحر ، أوقفت السيارة وانبطحت بداخلها ، علقت بمنتصف الاشتباك ، الجيش النظامي من خلفي والجيش الحر من أمامي ، وأنا أعاني بالمنتصف ، تماماً كباقي أفراد الشعب السوري ، تكسر زجاج سيارتي الأمامي والخلفي ولتفادي الرصاص المتبادل فوق رأسي أخفضته وجسدي قدر المستطاع بين مقاعد السيارة والمقود ، دامت الاشتباكات قرابة الساعتين ، تشنج جسدي ، وبلعت ساعتين من الرعب بصعوبة بالغة ، انتهت المعركة ، أردت أن أعرف من "المنتصر" ولكنني لم أستطع ، شعرت بالدوار ،وأغمي علي جراء الذعر الذي قبض قلبي لساعتين ، استييقظت بعدها لأجد نفسي بسريرٍ داخل ثكنة عسكرية ، إذاً انسحب الجيش الحر هكذا تمتمت وأنا أحاول التنفس بصعوبة ، أقترب مني أحد الجنود وسألني : هل أنتِ بخير؟
أجبته بصوت خافت : نعم
أردفت بعدها : لقد اصطدم رأسي بالمقود وأغمي علي
ردَّ علي مبتسماً : حقاً؟! ..يعني أنتِ لم يغمى عليكي جراء الخوف ، بربك سيدتي ، كان صوت صراخك بتلك السيارة يعلو صوت ر صاصنا
قلت بغضب : انتم من جعلني أعاني بتلك السيارة!
أشعل سيجارته وهو يردد ساخراً :"أعاني"
ثم أكمل : أحقاً تعانين؟ ... أنت لا تعرفين شيئاً عن المعاناة كما نعرفها نحن جيداً ، الشوق الموجع يتفشى بأجسادنا يوماً بعد يوم ، أشتاق لأمي لأبي لأخوتي لأصدقائي ، إلى راحة ... إلى نوم هنئ لم نعرف طعماً له منذ عامين اثنين ، أصبحت أشتاق حتى إلى أسخف التفاصيل ، كفنجان قهوة على شرفة ، أو غفوة على أريكة
ثم أمعن بالنافذة ، ضحية لم يرى وجه قاتله أبداً يتوق بحرقة إلى أن يعرف من الجاني بكل هذا..
خرجت لسيارتي وأنا أتلمس الرسالة بجيبي ، تأملت السهول التي كانت ملئى بيومٍ من الايام بحقول القمح الذهبية فتشع تحت أنوار الشمس لتملأ قلوبنا بالبهجة ، أرضٌ منحتنا من خيراتها ، أطعمتنا وسقتنا ، ولم يسقها أبناء سوى الدم!
حوران هو المكان الذي ترعرعت فيه ، أعيش الآن بدمشق ولكن ذلك لم يمحي تلك الهوية ولا تلك الذاكرة ، كل ما يسري بعروقنا هو الزيتون هو أزهار الربيع، هو سهول خضراء على مد النظر ....
توقفت سيارتي عند العنوان ، عندما طرقت الباب فتحته لي فتاة متشحة بالسواد ، نظرت إلى عينيها الخضراوتين وكأني أنظر إلى عيني ذلك الشاب ، لقد أخبرتاني بأنهما لم يتذوقا طعماً للنوم منذ أيام ، كل ما فيها يجعلني أدرك أنها مفطورة القلب ، دخلت لبيتها ،جلست قبالتها بإرتباك ، لم أدرِ كيف أبدأ ، قلت لها بعد امعان : أنت تعرفين ماذا حصل لذلك العسكري؟..
ردت بأسى : ياسين ؟ ... نعم ، كنت بقطعته قبل أسبوعين ، أخبروني هناك بأنه قتل
قلت :أتعرفين كيف مات؟
ردت : يكفيني أنني عرفت كيف عاش ، كان ملاكاً ، عشقت كل ما به بكل ما بي
مددت إليها برسالته ،وقلت لها :هذه الرسالة أعطاني أياها قبل وفاته
أخذتها وقرأتها بذهول ، ثم فاضت عيناها بالدمع ، كان الصمت هو أبلغ لغة لتعبر عن ذلك الوجع الفظيع بداخلها ، خرجت من هناك وأنا حزينة على ذلك القلب المفجوع على حبيبه ، رحيله يقودها للجنون كما كان وجوده يفعل!
لا أدري ماذا حصل لي، كل ما درسته لسنوات بكلية الطب نسيته بتلك اللحظات ، شاب ملطخ بالدم من رأسه حتى أخمص قدميه ، لا شيء به واضح سوى عينيه الخضراوتين ، اللتان فتحمها فجأة ونظر بعيني مباشرةً ، بلحظةٍ أوقفتا به أنفاسي ، تدراكت نفسي والتفت إالى حقيبتي ، هممت بفتحا فاستوقفني صوته : " ماذا ستفعلين؟... كيف ستنقذيني؟!
لقد جئتك وقد وقع علي الموت أقسى توقيع له !!"
تمتمت بذهول : كيف أنقذك؟!
تلمس جيبه وأخرج رسالة وألقاها بيدي بعد أن لطخها بالدماء التي تغطي يديه ،قال بصعوبة : عديني أنها ستصلها
أمعنت بالرسالة للحظات ثم هتفت : أعدك!
بعدها أيقنت أنني ألقيت وعدي على جثة هامدة ...
قضيت الليل وأنا أمعن بالرسالة ، لم يكن على الظرف أية اسم ، فقط عنوان لبيت باحدى قرى درعا الشرقية ، الطريق من دمشق إلى درعا محفوف بالمخاطر ، ولكني عزمت على الذهاب ، علي أن أنفذ وصيته الأخيرة
كان علي أن أنهي بعض الالتزامات للمشفى أولاً ، أستغرق الأمر مني نحو شهرين ونصف ، أنطلقت بعدها بذات صباح بسيارتي ، كل ما خطر ببالي هو أنني فقط " مجنونة " لخروجي برسالة لا أعرف ما بها من شخصٍ لآخر لا أعرف أيّاً منهما !
ولكن كل ما يحدث ببلادي الآن يدفعني للجنون بخطواتٍ واثبة !
وفي الطريق لهناك ، وبعد أن أجتزت حاجز عسكري لجيش النظام بلحظات على مشارف قرية خربة غزالة ، رأيت أمامي مقاتلين من الجيش الحر ، أوقفت السيارة وانبطحت بداخلها ، علقت بمنتصف الاشتباك ، الجيش النظامي من خلفي والجيش الحر من أمامي ، وأنا أعاني بالمنتصف ، تماماً كباقي أفراد الشعب السوري ، تكسر زجاج سيارتي الأمامي والخلفي ولتفادي الرصاص المتبادل فوق رأسي أخفضته وجسدي قدر المستطاع بين مقاعد السيارة والمقود ، دامت الاشتباكات قرابة الساعتين ، تشنج جسدي ، وبلعت ساعتين من الرعب بصعوبة بالغة ، انتهت المعركة ، أردت أن أعرف من "المنتصر" ولكنني لم أستطع ، شعرت بالدوار ،وأغمي علي جراء الذعر الذي قبض قلبي لساعتين ، استييقظت بعدها لأجد نفسي بسريرٍ داخل ثكنة عسكرية ، إذاً انسحب الجيش الحر هكذا تمتمت وأنا أحاول التنفس بصعوبة ، أقترب مني أحد الجنود وسألني : هل أنتِ بخير؟
أجبته بصوت خافت : نعم
أردفت بعدها : لقد اصطدم رأسي بالمقود وأغمي علي
ردَّ علي مبتسماً : حقاً؟! ..يعني أنتِ لم يغمى عليكي جراء الخوف ، بربك سيدتي ، كان صوت صراخك بتلك السيارة يعلو صوت ر صاصنا
قلت بغضب : انتم من جعلني أعاني بتلك السيارة!
أشعل سيجارته وهو يردد ساخراً :"أعاني"
ثم أكمل : أحقاً تعانين؟ ... أنت لا تعرفين شيئاً عن المعاناة كما نعرفها نحن جيداً ، الشوق الموجع يتفشى بأجسادنا يوماً بعد يوم ، أشتاق لأمي لأبي لأخوتي لأصدقائي ، إلى راحة ... إلى نوم هنئ لم نعرف طعماً له منذ عامين اثنين ، أصبحت أشتاق حتى إلى أسخف التفاصيل ، كفنجان قهوة على شرفة ، أو غفوة على أريكة
ثم أمعن بالنافذة ، ضحية لم يرى وجه قاتله أبداً يتوق بحرقة إلى أن يعرف من الجاني بكل هذا..
خرجت لسيارتي وأنا أتلمس الرسالة بجيبي ، تأملت السهول التي كانت ملئى بيومٍ من الايام بحقول القمح الذهبية فتشع تحت أنوار الشمس لتملأ قلوبنا بالبهجة ، أرضٌ منحتنا من خيراتها ، أطعمتنا وسقتنا ، ولم يسقها أبناء سوى الدم!
حوران هو المكان الذي ترعرعت فيه ، أعيش الآن بدمشق ولكن ذلك لم يمحي تلك الهوية ولا تلك الذاكرة ، كل ما يسري بعروقنا هو الزيتون هو أزهار الربيع، هو سهول خضراء على مد النظر ....
توقفت سيارتي عند العنوان ، عندما طرقت الباب فتحته لي فتاة متشحة بالسواد ، نظرت إلى عينيها الخضراوتين وكأني أنظر إلى عيني ذلك الشاب ، لقد أخبرتاني بأنهما لم يتذوقا طعماً للنوم منذ أيام ، كل ما فيها يجعلني أدرك أنها مفطورة القلب ، دخلت لبيتها ،جلست قبالتها بإرتباك ، لم أدرِ كيف أبدأ ، قلت لها بعد امعان : أنت تعرفين ماذا حصل لذلك العسكري؟..
ردت بأسى : ياسين ؟ ... نعم ، كنت بقطعته قبل أسبوعين ، أخبروني هناك بأنه قتل
قلت :أتعرفين كيف مات؟
ردت : يكفيني أنني عرفت كيف عاش ، كان ملاكاً ، عشقت كل ما به بكل ما بي
مددت إليها برسالته ،وقلت لها :هذه الرسالة أعطاني أياها قبل وفاته
أخذتها وقرأتها بذهول ، ثم فاضت عيناها بالدمع ، كان الصمت هو أبلغ لغة لتعبر عن ذلك الوجع الفظيع بداخلها ، خرجت من هناك وأنا حزينة على ذلك القلب المفجوع على حبيبه ، رحيله يقودها للجنون كما كان وجوده يفعل!