الشوق والحنين في تراتيل أنثى / القسم الأول

إن أسمى العواطف الإنسانية تتجلى بأبهى صورها في الشوق والحنين الذي يختزنه الفرد تجاه ( الوطن والأهل والأصدقاء ) ، وفي ذات الوقت عينه فان هذه العاطفة تحتاج إلى سقي من الطرف المقابل فانا اشتاق إلى أهلي لأنني اشعر باشتياقهم لي وأنا اشتاق إلى وطني لان ترابه يناديني ...
وهذه المشاعر المنطوية تحت هذين العنوانين الشوق والحنين لا يستطيع إلا الشاعر الصادق إن يدخل في ساحتهما ويبحث عن مكنون قرارهما ، فهو بمشاعره الصادقة وخياله البعيد يستطيع إن يسبر كنهيهما ويجعل منهما طائعين ... تتلاعب أنامله بهما كيف شاء ...
وتراتيل أنثى ديوان بالرغم من صغر حجمه إذ تقدر عدد كلماته ( 1000 ) كلمة إلا انه كان زاخرا بشوق يحطم الحجر الصلد فيخرج منه ماءا من قلب صحراء سيناء ... ويحمل من الحنين ما تعجز الجبال عن حمله ... فالشوق والحنين في تراتيل أنثى جاء متدفقا منسابا بشدة قد جعلت صورته بأبهى حلة شكلية وبأسمى المعاني التي لا يستطيع ولوجها إلا من بحر فيها وشرب من بحبوحتها ...
إن شاعرتنا جسدت الشوق بلباس قاتم ورأته وهو ينصب ذلك المأتم ... ويقيم أنينه ناعيا ... انه ينعى شاعرتنا لأنها تختزن كل تلك الأشواق الصادقة إلى الوطن والأهل والأصدقاء ... انه شوق بقدر قطرات المطر وبعدد النجوم ...
اطلّ عليها – ذلك الشوق – ليرى قلبا داميا حزينا وشراعا كسرته الرياح العاتية ... رأى شاعرتنا تارة وهي تحتسي ذلك الهم في قصيدة ( يمارسني الصحو ) ويراها تارة أخرى وهي تستسلم وترفع رايتها البيضاء النقية في قصيدة ( وجع ) ، وهي سنة الحياة في مدها وجزرها ...
إذن ما الذي اوجب إن يكون الشوق ناعيا على شاعرتنا فاطمة الفلاحي ... انه رآها باكية في تراتيلها منكسرة الفؤاد ... تكتب بروح الألم ... تقول شاعرتنا في تراتيلها :

ينعاني أنين الشوق
( مقطع من القصيدة 24 صوتك )

أنها لحظات صعبة وقاسية خاصة إذا ما مست تلك المشاعر الصادقة الرقيقة فتجعل منها جاهشة بالبكاء وتضغطها عبرة الأشواق وطوارق الحدثان فتشتاق إلى المكان الذي بكت فيه عندما هبطت إلى هذه الدنيا

يدبني نشيج شوقي
بانين لا ينطفئ
( مقطع من القصيدة 24 صوتك )

إنها صورة لواقع مر وبكاء لقلب ما ترك له الزمان لحظة من قرار ولا سعادة ... وها هي تأن وتبكي بادمع مدرار لا تنقطع ولا أمد لها بل هي تطلق أشواقها ضاجة بها فتتجسد فيها الآلام فتطلقها أنينا ... ويا ليتها صرخت ورفعت صوتها باكية إذ ما أصعب الأنين حين تخنقه تلك الذات ...فيا له من أنين مر وبكاء أمر

وتصحو شاعرتنا فتجد هذا المعزي واقفا أمامها ينظر إليها نظرة الأب الرحيم وألام الحنون ... نظرة المشفق ، فهو يرى ذلك العمر الذي يسير به ذلك القطار .. قطار يسير مسرعا بلا وقود .. بل إن وقوده الليل والنهار وهما يتسابقان كفرسي رهان ...
مد الشوق أنامله المشوبة بالحنان ومس قطار عمر شاعرتنا ...

وأصحو على قطار العمر
قد مسه أنامل الشوق حنينا
( مقطع من قصيدة 2 يمارسني الصحو )

ويا ترى بأي أنامل مس الشوق قطار عمرك يا سيدتي ... هل بهذه الانامل المرئية ؟؟؟ أم بأنامل ليست من هذا العالم ... وكيف رأيتيه ؟
انه في الوعي واللاوعي حيث تدور هذه الأحداث وتلتقط هذه المشاهد .. إن شاعرتنا لم تقل ( يمسه ) بل قالت ( مسه ) الدال على المضي والذهاب !!!
فالشوق مشخص عند شاعرتنا عارفة به إذ هو تلك القنطرة التي تتحسس المشتاقين إلى الوطن والأهل ...
نعم التشخيص ليس ببدع على شاعرتنا فاغلب ديوانها جاء مشخصا ...والتشخيص ليس بغريب لمن عرف الشعر فنه ونقده ...
ويذكرني تشخيص السيدة فاطمة الفلاحي بأحد الأبيات الشعرية للشاعر العراقي البصير
هب لي بربك موتة تختارها يا موطني أو لست من ابناكا
وهي غاية في التشخيص حيث يخاطب تراب العراق ...
قد يقول متأمل : ما هو التشخيص والمشخص ؟؟
أقول : إن جوابي خروج عن تأملاتي إلا إنني ساتامل معك أيها المتأمل : يا عزيزي إن التشخيص هو إن تجعل من المحسوسات غير الناطقة وغير المحسوسات ( مثل الشوق ) كائنات عاقلة ناطقة تخاطبها وتخاطبك تشعر بها وتشعر بك ... وشاعرتنا قد شخصت بشكل فريد اغلب معانيها ...

ولعل متأمل اخر يستوقفني : لا تكمل ايها المتامل ؛ فعلى أي منهج نقدي تسير في تاملاتك فانا اتابع تاملاتك كلها ولم اعرف هل إن نقدك قائم وفق المنهج الكلاسيكي ام التاثري ام النفسي ام التاريخي ... هل توجه انظارك إلى النص ام إلى ما حوله ؟؟؟؟؟؟
يا من تشاركني في هذه التاملات ؛ إن كنت تعرف ما تقول فالجواب باختصار : إن هذه التاملات قائمة على ربط المناهج كلها مع بعضها البعض ، وبهذا نخلق منهجا نقديا لا يترك أي فراغ في النص بل حتى الكلمة يعالجها ويعطينا ابعادا جديدة للنصوص .
عذرا علي العودة إلى تاملاتي في تراتيل أنثى ...
وها هو الشوق يتبنى شاعرتنا ويجعل منها ابنة له ينوح على حزنها ويقابلها ويبكيان ... يخاف عليها من هذا الشقاء الذي رافقها في هذا العمر ...
فهل ترك الشوق ابنته في لحظة ما ؟؟ وهل اعتق الحنين ذلك العصفور المحبوس في بلاد الغربة ...