القدر في تراتيل انثى / القسم الاول

مما يميز
الادب الكلاسيكي بشكل عام هو ذلك التدخل الذي يكون المحور فيه ايد خفية
ترمي بالفرد الى جهة لا يتوقعها ولا يكون له أي سلطة لتغيير ذلك الحدث بل
انه مرسوم عليه مفروغ منه وفي شعرنا العربي كثير من هذه النماذج التي تجعل
من القدر محورا مهما في تسيير الاحداث ومن امثال ذلك ما جاء من الشعر
العربي
قول ابان اللاحقي :

وَكانَت من تِلادٍ مو دعٍ مِن شَفَقٍ حِرزا
حَذارِ أَن يَراها طا مِعٌ يَومـــاً فَتُبتَزّا
فَجاءَ القَدَرُ الجالِ بُ بي يَحفِزُني حَفزا

وقول ولي الدين يكن

أيخذلني وإخواني وينصر خصمنا القدر

،
ولم تخل تلك التراتيل الانثوية من هذا المعنى في اماكن كثيرة جدا وفي
مفردات تكاد تكون مستوعبة لاغلب ذلك الديوان ، ونظرا لاستخدام هذه المفردات
في معان مشتركة اثرنا ان ناخذ بعض النماذج الدالة على تلك الايد الخفية
المسماة ( قدرا ) ونرى ما الذي ارادت شاعرتنا ان تصل اليه من خلال ما ذكرته
في سطور تراتيلها .
ان للقدر دور لا ينكر في تراتيل انثى وهو قدر
شاعرتنا ، فلم يبخل القدر عليها بهدية تشبه هدية سليمان الحكيم حيث تمتلك
ذلك الهدهد الذكي ( اشارة رمزية مكثفة جدا ) الذي يعمل لدى شاعرتنا وتوجهه
حيث تشاء ، وهو من مصادر قوتها لذا احتفظت به لنفسها وكانه ذلك السلاح
السري الذي لا تحب ان يتجسس عليه الاخرون ، بل انه يسكن في وجدان فاطمة
وسريرتها التي لا يعرفها الا ذلك القدر الذي وهبها ( الهدهد ) ، انه يقوم
بكل شيء ملبيا النداء ، بل ان الاشارة تكفيه احيانا ، بل ان هذا الهدهد
يتبع ارادة الشاعرة ...
في مرة ما امرت الشاعرة ذلك الهدهد امرا غريبا (
رموز مكثفة ) امرته ان يسرق ... يسرق حاجة ارادت الشاعرة ان تمتلكها ،
وحسب ... لم تكن بحاجة الى أي شيء سوى تلك الحاجة التي كانت تفتقدها
الشاعرة ، كانت تريدها ... بكل مشاعرها واحاسيسها ... وتخاطب تلك الحاجة
كامر كائن امامها لا يفصلها عنه سوى مناداة الصوت وطيران الهدهد ... ولما
كان من الصعب عليها ان تملك هذا الشيء ، لم تعط الامر بسرقة تلك ( الحاجة )
فورا ، بل قد اجلت ذلك الامر ... وربما خافت على هدهدها من ان يحدث له امر
لا تحبذه ، بل خشيت الا يعود ( الهدهد ) اليها وتفقده هو الاخر ... انها
احدى تدخلات القدر ... وتلك الايادي الخفية التي تسير جنبا الى جنب

فيسرقك هدهدي
( مقطع من القصيدة 12 تأويل )

فالفاء
دلالة الاستقبال ، وهو ما جعل من امرها مؤجلا ... اما ذلك الهدهد ( الرمزي
المكثف ) فهو يكاد يحمل عدة معان منها ( الحنين ) ومنها ( النفس ) ومنها (
القلب ) ومنها ( الوطن ) وانا اترك للمتامل ان يختار أي شيء يحسه هو
الاقرب الى نفسه حتى لو كان معنى لم اذكره هنا ... وان كنت اعتقد ان الامر
يدور على هذه المراتب الاربعة ...
مسكين هذا الهدهد الذي سيتوجه في مهمة
هي اشبه بالمستحيلة ، وبدل ان يتوجه الى سبأ ليجد بلقيس فهو الان يتوجه
الى وجدان شاعرتنا ... وان كانت له السيطرة على ما يبصر فلا اعتقد ان له أي
سيطرة على ما لا يبصر
ولا ادري اين يقف القدر من تراتيلك يا فاطمة ومع
من هو فانا وجدته منحازا اليك ولكنه ليس معك اذ كيف تسرقين مع انك كنت رقا
يباع ويشرى بل انت قد سرقك اغلب المحسوسات بل وغير المحسوسات ... الم
تذكري ان المواجهة احيانا تكون بذلك الصمت الذي يجعل من كونك شعلة خافتة
تكاد لا ترى بتلك العين النرجسية ، فاذا كان الصمت احد اؤلئك السراق فما
بالك بالبقية ...

يسرقنا الصمت
ثم يسرقنا الكرى
( مقطع من القصيدة 4 تباركني الجراحات )

وما
اروعه من مقطع ايحائي ، فالقدر هنا يرقب تلك السرقة الصمتية التي تمر في
اعماق شاعرتنا ، وسكون يملأ المكان ، لحظة الاستسلام ... حيث تنتهي وسائل
الدفاع وتنسحب امام تلك الفلول الزاحفة ... معركة محتدمة ... وصراع يجعل من
كيان شاعرتنا كيانا انهزاميا ، ونومة هي اخر معقل تبقى لذلك الهروب ...
ومع ذلك الهروب نلمس تلك الحقيقة التي تكررت مرارا وتكرارا في تراتيل انثى حيث يلعب القدر دورا كبيرا في هذه الهزائم المتلاحقة ...
وتلك
الراية البيضاء التي طالما رفعتها الشاعرة ملوحة الى انها انثى ( انثى بكل
ما للكلمة معنى ) ولا يتحمل ذلك القلب الرقيق هذه الويلات متسلسلة واحدة
تلو الاخرى ...
فلول وجدان فاطمة لم ينفعها ذلك الهدهد ولا ذلك الصمت ولا ذلك الكرى بل هي تشق عباب الارض هاربة الى حيث الامان والسلام والاشواق ..
وقبل
ان انهي هذه الحلقة اريد ان انقل لكم بعض الابيات التي تحدث فيها احد
الشعراء عن الهدهد ( رمز شاعرتنا ) فتاملوا فيه قال احمد بن علوان :

زهر اِستماس كأس بطاس أَغصان ياس بالريح ماس
حَوراء ما جــادَت بماء يَروي الظما أَو خمر كاس
هدهـــد نبا نادي سبا بادي قبا سهم القيـــاس ( تاملوا اكثر في هذا البيت )
ما رمتها إِلّا اِنتَهـــى ما يَشتَهي منـــها إِياس
طـاووس طا ها أَرسطا كف العطا تقوى اللبـاس
بدر الدجى أَقصى الرجـا كهف النجا من كل بـاس
شمس النهى وَالمنتــهى تاج البها مــن كل راس
وابقوا معنا فان الحرب لم تنته بعد ...