في عام 1946 ينشر الجواهري قصيدته الذائعة الصيت "أي طرطرا ... تطرطري" في أجواء احتقان سياسي واجتماعي متعاظم في البلاد، قد يقارنه البعض بسوء، او بحسن نية، مع كثير من الوقائع التي يعيشها عراق اليوم... وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد أزيد من ستين عاماً...
أي طرطرا ، تطرطري .. تقدمي ، تأخري
تشيعي ، تسنني .. تهودي ، تنصري
تكردي ، تعربي .. تهاتري بالعنصر
تعممي ، تبرنطي .. تعقلي ، تسدري
تزيدي ، تزبدي .. تعنزي ، تشمري
في زمن الذرّ إلى بداوة تقهقري
وان كان المقطع السابق تناول تورية ً ومباشرة ً شخصيات البلاد المؤثرة آنذاك، ونال منها في مناح سياسية معلومة، يعود الجواهري في سياق القصيدة ذات الأكثر من ثمانين بيتاً ، لينتقد الأوضاع الاجتماعية والمدنية وغيرها، وبشكل قاس ٍ لحدود بعيدة... ولربما تسود هنا ومن جديد مقولة: ما أشبه الليلة بالبارحة في الكثير من الشجون، والشؤون العراقية ... وتباً للمتسببين :
أي طرطرا تطرطري .. وهللي ، وكبري
وطبلي لكل من يُخزي الفتى ، وزمري
وعطري قاذورة ، وبالمديح بخري
والبسي الغبي والاحمق ، ثوب عبقر
وافرغي على المخانيث دروع عنتر
طولي على "كسرى"، ولا تُعنيّ بتاج "قيصر"
... شامخة شموخ قرن الثور بين البقرِ
وبحسب ما ندعي، ومعنا غزير من المتابعين ، فان الرائية الجواهرية هذه قد حظيت بجماهيرية لا حدود لها، وحتى عند النخب السياسية التي عنتها أبيات القصيد فراحت امثلة على ألسن الناس، وكأنها تنطق باسمهم، وتكشف احوالهم، وأوضاع البلاد السائدة حينئذ ٍ، بكل التفاصيل والعناوين... ولم يضاهها في الشعبية والانتشار، كما نزعم ثانية، سوى تنويمة الجياع التي نظمها الشاعر الخالد عام 1951 والتي فيها الكثير من الموحيات والمتشابهات مع "طرطريته" الشهيرة:
نامي جياعَ الشَّعْـبِ نامي ، حَرَسَتْكِ آلِهـة ُالطَّعـامِ
نامي فـإنْ لم تشبَعِـي مِنْ يَقْظـةٍ فمِنَ المنـامِ
نامي على زُبَدِ الوعـود يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ
نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ فـي جُـنْحِ الظـلامِ
تَتَنَوَّري قُـرْصَ الرغيـفِ كَـدَوْرةِ البدرِ التمـامِ
نامي تَصِحّي! نِعْمَ نَـوْمُ المرءِ في الكُـرَبِ الجِسَامِ
نامي إلى يَــوْمِ النشورِ ويـومَ يُـؤْذََنُ بالقِيَـامِ
نامـي على المستنقعـاتِ تَمُوجُ باللُّجَج ِ الطَّوامِي
نامي على نَغَمِ البَعُوضِ كـأنَّـهُ سَجْعُ الحَمَامِ
وعلى ما نرى أيضاً فان ديوان الجواهري العامر لا يشمل كثيراً على مثل تيّنك الفريدتين، وان جاءت أبيات بعض القصائد الأخرى، حاملة بهذا القدر أو ذاك من السخرية الجادة الكثير والمؤثر... ومن بينها في "عبادة الشر" (عام 1933) ومطلعها: دعْ النبلَ للعاجز ِ القـُـعدد ، وما اسطعتَ من مغنم ٍ فازددِ ... أو تلكم الموجهة إلى الملاكم الدولي الأشهر في حينه، أواسط السبعينات، محمد علي كلاي وخاطبه فيها قائلاً: شِسْعٌ لنعلك كل مَوهبة، وفداء زندِك كل موهوبِ ...
وللمزيد، نوثق هنا، إلى ان رائية طرطرا الشهيرة قد جاءت على وزن القصيدة الدبدبية القديمة المعروفة "أي دبدبي، تدبدبى ... أنا عليّ المغربي"... وعلى ما ندري فثمة أبيات عديدة أخرى في "طرطرية "الجواهري حُجبت عن النشر، في ديوانه على الأقل، لأنها شملت أسماء صريحة، لعدد من القادة والزعماء السياسيين آنذاك، وقد عرف بعضهم بها، فتوسط، وترجى، بعدم النشر... وقد استجاب الشاعر لذلك بعد مماطلات، مقصودة على ما نعتقد...
... وختاماً ، دعونا نستمع سوية لمقطع ثالث وأخير من "اي طرطرا" الجواهرية ، وفيها ، وكالعادة ،من العبر ، ما يفيض :
اي طرطرا سيري على نهجهُم والاثر ِ
تقلبي تقلب الدهر، بشتى الغير ِ
تصرفي كما تشائين ، ولا تعتذري
لمن ؟! أ َللناس !! وهم حثالة في سقر
ام للقوانين؟ ... وما جاءت بغير الهذر
ام للضمير، والضمير صنع هذا البشر
لمن؟ أ للتاريخ؟ وهو في يد المحّبر
ام للمقاييس اقتضاهن اختلاف النظر؟
.. أن اخا طرطر من كل المقاييس ، بري
مجلوبك رائع
سيد البرق
ومن قطرات يمتلئ الغدير
عسى برق الضاد
ان يصدح بمثل هذه الروائع ليحوز قصب السبق
بين المنتديات بالأراجيز (الرسائل )
لك الاحترام