أبي ، أنا أبحث عنك الآن بين
ضباب لندن كي أرسل إليك هذه الرسالة ، لأتحدث إليك فما من أحد هنا يرغب بالتحدث
إلي ، لا لأنهم يكرهونني بل لأنهم يخافونني ، أراسلك من سوريا من مهد الحضارات
وأتمنى أن تكون تشعر بألمي وبقلبي المحترق ، اكتب إليك من بلد قتله حكامه ، أعرف
أن من الصعب عليك أن تتذكر ما أعانيه الآن لمجرد أنك تعيش ببلد وجد الأمن فيه
لحماية المواطن لا لحماية كرسي رئيسه ، لأنك في بلد تستطيع أن تقول فيه لا دون أن
يجرك رجال الأمن إلى ما وراء الشمس لأنك في بلد تستطيع أن يكون اسمك معارض دون أن
يكون اسمك خائن وعميل ولكنني سأذكرك قليلاً بوطنك الذي هجرته منذ سنوات طويلة و
تسائلت كما تسائل الكثيرين من المهاجرين أمثالك "هل شردتني سوريا أم حكامها
؟!"،ماذا يمكنني أن أخبرك عن أهالي دمشق الآن ،عن الذين سطر التاريخ أمجادهم
بصفحات من ذهب ، وجوه شاحبة مرهقة بعد أن امتص الحكام أتعابهم وأعمارهم
بشراهة
وجشع
وهاأنا ذا أقلب أوراق
الماضي على مرأى منك لأخبرك عن ذلك اليوم
الذي استيقظت به عندما أغمي علي كان الأمر كغرابة ميلاد الحرية بصدر زنزانة خرجت لأصرخ بأعلى ما بصوتي سئمت
الماضي على مرأى منك لأخبرك عن ذلك اليوم
الذي استيقظت به عندما أغمي علي كان الأمر كغرابة ميلاد الحرية بصدر زنزانة خرجت لأصرخ بأعلى ما بصوتي سئمت
الظلم سئمت القهر سئمت
الفساد سئمت الصمت ، وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي أشد من شعري واضرب بقسوة واشتم بكل قبح ما ذنبي إن أردت أن أحيا كإنسانة هنا يأتي
الصمت الحالك من أفواه الشاتمين ، نمت
عشرة ليالي بزنزانة مصغرة عن زنزانة وطني الكبيرة ، كنت أسخر من جدرانها من
قضبانها وكأنها سجنتني ، لا يمكنكم سجني !.. لا يمكنكم تقييدي أنا حرة منذ اللحظة
التي صرخت بها منذ اللحظة التي حطمت بها حاجز الخوف لا يمكنكم تغيير حقيقة كوني حرة حتى لو دفنتموني بتابوت فالموت
في سبيل الحرية هو حياة أكثر من الحياة بحد ذاتها
قضيت عشرة أيام بزنزانة وأنا أتمتع بطعم الحرية الرائع فيها ثم
خرجت لأنني وقعت على محضر" لعدم الرجوع لمثلها" ولكنني بالطبع سأعود فلا
تتمكن الحدود إيقاف إنسان حر
عدت إلى مقعدي بالجامعة
فلم أجد أحد عليه ، جميع الطلاب كانوا يخافون الجلوس معي أو التحدث إلي أو حتى رد
سلامي ، الذعر من الأمن والمخابرات هو ما منعهم من ذلك فأنا أصبحت مشبوهة لديهم
ومراقبة من قِبلهم ليس لأنني مجرمة أو لأنني خائنة وأعادي وطني بل لأنني أريد أن
أراه أفضل وخالي من الخونة ، هنالك أناس يخلقون أحرارا في بلاد حرة وهنالك من يناضل
من أجل الحصول عليها وهنالك من يرضى بالذل من أجل أن يحيا وكأنه حقاً يحيا ، أنا اخترت
أن أناضل من أجل الحرية
فلم أجد أحد عليه ، جميع الطلاب كانوا يخافون الجلوس معي أو التحدث إلي أو حتى رد
سلامي ، الذعر من الأمن والمخابرات هو ما منعهم من ذلك فأنا أصبحت مشبوهة لديهم
ومراقبة من قِبلهم ليس لأنني مجرمة أو لأنني خائنة وأعادي وطني بل لأنني أريد أن
أراه أفضل وخالي من الخونة ، هنالك أناس يخلقون أحرارا في بلاد حرة وهنالك من يناضل
من أجل الحصول عليها وهنالك من يرضى بالذل من أجل أن يحيا وكأنه حقاً يحيا ، أنا اخترت
أن أناضل من أجل الحرية
ليس من أجلي ولكن من
أجلك يا سوريتي
أجلك يا سوريتي
عندما اقتربت من
مقعدي بالجامعة انصرف الطلاب فوراً كسمكة قرش اقتحمت سرب من الأسماك الصغيرة ،
جلست وفكرت بكلمات آشلي صديقتي بالمراسلة ، أمريكية وهي بالطبع لا تشعربمئساتي سألتها مرة إن كان التحدث بحرية عن
أحد الرؤساء هو أمر رائع أجابتني بأن
الأمر عادي بالنسبة إليها ولم تفكر قط بالأمر، آشلي بالطبع لم تشعر بطعم الحرية
لأنها لم تتذوق طعم الكبت والاستبداد أبداً
لم تدفع دماً لم تدفع ولو سعراً بسيطاً من ثمن الحرية الباهض الذي دفعه
الكثير من أجدادها وهاهي تتمتع بالحرية على جثثهم دون أن تدري ، أخبرتها
مازحة بأنها ستشعر بحلاوة حرية بلادها إن
عاشت بسوريا ليومين فقط أعرف أن حتى الحرية في أمريكا زائفة بعض الشيء لأنه حتى
الرئيس الأمريكي لا يمكنه حتى نقد جرائم دولة إسرائيل الوهمية ولا يمكنه سوى أن
يقدم لها الطاعة ولكنني لا يمكنني إنكار مساحة الحرية الكبيرة بها
مقعدي بالجامعة انصرف الطلاب فوراً كسمكة قرش اقتحمت سرب من الأسماك الصغيرة ،
جلست وفكرت بكلمات آشلي صديقتي بالمراسلة ، أمريكية وهي بالطبع لا تشعربمئساتي سألتها مرة إن كان التحدث بحرية عن
أحد الرؤساء هو أمر رائع أجابتني بأن
الأمر عادي بالنسبة إليها ولم تفكر قط بالأمر، آشلي بالطبع لم تشعر بطعم الحرية
لأنها لم تتذوق طعم الكبت والاستبداد أبداً
لم تدفع دماً لم تدفع ولو سعراً بسيطاً من ثمن الحرية الباهض الذي دفعه
الكثير من أجدادها وهاهي تتمتع بالحرية على جثثهم دون أن تدري ، أخبرتها
مازحة بأنها ستشعر بحلاوة حرية بلادها إن
عاشت بسوريا ليومين فقط أعرف أن حتى الحرية في أمريكا زائفة بعض الشيء لأنه حتى
الرئيس الأمريكي لا يمكنه حتى نقد جرائم دولة إسرائيل الوهمية ولا يمكنه سوى أن
يقدم لها الطاعة ولكنني لا يمكنني إنكار مساحة الحرية الكبيرة بها
دخل الأستاذ معن حاملا معه رواية"
فوضى
الحواس "
و يود مناقشتها معنا ، أعرف هذه الرواية إنها تتحدث عن حبٍ يثير في نفس امرأة
الفوضى وحدثت هذه القصة بالجزائر في ما تلى ثورة الأول من نوفمبر والأحداث المؤسفة
التي جرت من أعمال إرهابية لجماعات مسلحة استغلت الوضع القائم بالجزائر من عدم
استقرار واستغراق رجال الحكم بمصالحهم الشخصية ، وبالطبع هذا ما ناقشه الأستاذ معن
، الفوضى التي تتلو الثورات "دائماً" وكأنه درس بعنوان الرجاء لا تثوروا
يا شباب سوريا وابقوا بسباتكم الأبدي ابقوا ميتين!
سأل الأستاذ معن الطالب لورانس عن رأيه بالكتاب فأجابه بأنه لم يحبه فهز
معن رأسه قائلا : إنني لا أصدق أنك قرأت الكتاب حتى
لورانس :عليك أن تصدق فنحن بعالم يصدق الكثير من الأكاذيب كتلك المرة التي
صدق بها بأن مجموعة من الرجال الذين يعيشون بكهوف استطاعوا هزيمة أقوى نظام دفاعي
بالعالم وإسقاط برجين بمنتصف نيويورك أو تلك المرة التي صدق بها العالم بأن صدام
حسين يملك حقا أسلحة دمار شامل وأن أمريكا احتلت العراق بنيّة حسنة أو المرة التي
صدق أسطورة أن جورج بوش يفكر !..فلم لا تصدق الأكاذيب البسيطة ككذبتي!
أنت تعلم كم أن لورانس لديه إجابة لكل سؤال ما عدا أسئلتي!..
لم أنتبه أن المحاضرة انتهت حتى التفت حولي فلم أجد أحداَ ، هممت بالخروج
من البوابة عندما سمعت صوت الأستاذ معن من وراء طاولته بصدر القاعة يناديني ويقول
لي: أمية، هل قرأت الرواية ؟
أجبته بلا فقال لي: إذاَ ، تعالي وخذي نسخة
استدرت على عقبي وقلت : لقد قرأتها بالفعل ولكنني لم أقرأها كما قرأتها أنت
معن : لقد ناقشتها كما جاءتني
قلت وأنا أتجه نحوه : الحكومة التي تحول غابات بلادها إلى صحارى تستطيع
بسهولة تحويل قصة حب إلى قصة للإرهاب والتخويف
حدقت بعينيه مباشرة ثم قلت بأسى :
كيف تجرأت بل كيف استطعت بل
معن : لقد قمت بهذا بالواقع لأنني لم أتجرأ، أخبريني ماذا سيفعل صوتك وماذا
ستفعل صرخاتك هل ستغير شيئاَ
قلت : صوتي لوحده لا ولكن أصواتنا جميعا فبلى
معن : أنت حقاَ شجاعة ، لقد عرفت سوريا الكثير من الشجعان وتستطيعين أن
تزوري قبورهم الآن و تشتمي رائحة خيبتهم بعمق أو أن تحجزي بجانبهم قبراً آخر لك إن
أكملت على هذا النحو
طأطأت رأسي وهمست : كم ألعن حب الدنيا الذي أخفض رؤوس رجال مثلك !
هذا كان يوماً مما أعيشه هذا كان مثالاً مما أشعر به يا أبي .....
طويت الصفحة بعد أن أنهيت رسالة لن أرسلها أبداً ،والدي الذي هجر سوريا منذ
أعوامٍ توقفت عن عدها لفرط ما انتظرت نهايتها ، أصبح الآن طبيب نفسي مرموق في
بريطانيا وقد كتب الكثير من الكتب بعلم النفس فهو قد استطاع أن يبدع ككثير من
السوريين خارج بلدهم وفي بلاد لا تستثمر سوى أصحاب الكفاءات لا أصحاب ال(واسطات
والمحسوبيات) ...على كل حال فأنا لم أعارض رحيله ولم أوافق على الرحيل معه فقد
أجبته بأن سورية هي روحي ورددت جملة بقلم bronte :Emily
"لا يمكنني أن أعيش بدون روحي"
والآن يكتفي بإرسال مبلغ كبير من المال كل شهر لي وللمرأة التي تعيش معي
بالبيت مربيتي( هاجر) والاتصال بي كي يسألني سؤال لا يهمه إجابته " كيف
حالكِ؟" فيقول لي قبل حتى أن أجيبه "من الجيد أنكِ بخير!"...كنت
أتساءل دوما عن سبب اتصاله الأسبوعي ..ربما حتى يقول لي أنني لم أنساكِ ....بعد!
أنا لم ألومه أبداً ، فأنا لست ابنته حقاً ..لقد تبناني من ميتمٍ بدمشق
عندما كان عمري ثلاثة أعوام فقط ، لماذا تبناني إن كان سيتوقف عن الاهتمام بي
هكذا؟!
وهو الذي قال لي أن الأبوة ليست مجرد مسألة إنجاب إنه مسألة شعور ولكن أين
ذهب ذلك الشعور من قلبه ، كان يقول لي بأنه لن يدعني أشعر بأنني يتيمة طالما هو على
قيد الحياة والآن أجدني أشعر بأنني أكثر من يتيمة ، لأن اليتيم يفقد والد واحد
وأنا فقدت والدين اثنين !..طالما كنت فتاة قوية ولكن ما حصل معي دفعني لأن أحتاج
إلى أحدهم ولم أجد إلا الأوراق البيض ورسالة وهمية إلى والدٍ أصبحت أخاله وهمياً
..
طرقت هاجر الباب فطلبت منها الدخول ، فدخلت هاجر بقامتها الممتلئة أكثر
بكثير من اللازم ! ووجها الضاحك الذي لم أراه يوماً مكفهراً ، قرابة العشرين عاماً
وهي تعمل لدى والدي بين غسيل وطبخ وتمتع نفسها بالمساء بمشاهدة المسلسلات وبخاصة
المكسيكية ،ربما جهلها هو ما يجعلها سعيدة فهي لا تشاهد الأخبار ولا يحترق قلبها
عندما تشاهد إلى أين وصل العرب ، أكثر ما يمكن أن يبكيها هو انفصال فرناندو عن
غابرييلا بأحد مسلسلاتها!....يا ليتني أجهل كما تجهل ...عندها سأستطيع الضحك
مجدداً كما تضحك دائماً...
أخبرتني أن والدي يريد مني تجهيز نفسي وشراء تذكرة سفر إلى بريطانيا لأنه
اشتاق لي ويريد رؤيتي لبضعة أيام فقط فهو لا يريد أن يؤثر على دراستي ، عندها دهشت
كثيراً ..كيف علم بألمي ؟! كيف قرأ رسالة لم أرسلها أبداً؟!.هل وشت الرياح
بي؟!...عندها التفت إلى السبب المنطقي وراء علم والدي بالموضوع وقلت : هاجر، هل
قلت لِوالدي شيئاً عن موضوع سجني ؟..طلبت منك ألا تخبريه بالأمر وأن تضعي أية حجة
لعدم وجودي بالبيت في حال اتصاله
هاجر : كلا ..كلا يا صغيرتي أمية ، لم أخبره
كان من الواضح أنها تكذب فهي التي لا تعرف سوى الطبخ والغسيل ولا تعرف
الكذب أبداً ، فهو واضح من خلال توترها وترددها فمن اعتاد الكذب يستطيع أن يكذب
بكل جرأة و(وقاحة) ، كان علي أن أجعلها أن تدخل دورة تثقيفية بالكذب لدى الإعلام
السوري الرسمي لتستطيع الكذب بكل (وقاحة) حتى لو كانت الكذبة ككل أكاذيبهم غبية
للغاية فلعلَّ والدي كشف كذبتها مما اضطرت للبوح بالحقيقة ، ما كان يجب علي أن
أوكل إليها مهمة لا تجيدها
كنت أجهز أوراق الجوازات والسفر خاصتي عندما تساءلت عن سبب طلب والدي فلو
أراد أن يمنعني من الاستمرار بهذا الطريق الشائك انطلاقاً من خوفه علي لكان أخبرني
بذلك على الهاتف فلماذا إذاً يريد رؤيتي ، لماذا الآن ؟!..
عندما جلست بمقعد بالطائرة
تفاجأت بلورانس زميلي بالجامعة وابن صديق والدي الحميم يجلس بجانبي بالطائرة ، كنت
أراه كثيراً بالسابق عندما كان يأتي مع والده لبيتنا ، كان والده أكثر من صديق
لوالدي ، كان شقيقه ، بالرغم من أن والده محبب جداً إلا أنه مزعج للغاية !..ولا
يروق لي أبداً ،أنا لا أحبه بل أنا أكرهه! سألني عن وجهتي فقلت :أصبحت تتحدث معي
وفجأة أصبحت موجودة !
لورانس : ألسنا بالطائرة الآن ونغادر كل هذا
الخوف؟! بالإضافة إلى أن سيارة جيب المخابرات لا يمكنها عبور باب الطائرة الضيق!..
أجبته بعد صمت : ذاهبة لرؤية والدي وأنت؟
لورانس:ذاهب لقضاء حفلة رأس السنة مع صديق
وكما تعلمين فإن عام ألفين واثنين شارف على النهاية..
يتحدث معي وكأنني أعيش خارج نطاق الزمن ولا
أعرف بأية عام نحن!..أكمل : لازلت أعطي محاضرات عن الأكاذيب الكبيرة ككونك تبدين
جميلة اليوم؟!
ها قد بدأت حملة الإزعاج!قلت له بغضب :كيف
تجرأت؟!
لورانس: لا أدري لقد تجرأت فحسب!
قلت : لا أصدق أنني سأجلس بجانبك طوال الرحلة
إلى لندن
لورانس :لا بأس ، أنا رجل صبور وأستطيع تحمل
إزعاجك!
عندها قلت بتهكم وغضب :آسفة يا سيدي ، كيف
يمكنني إيقاف إزعاجي !
لورانس:عبر ارتدائك قناع ،المعذرة هل رأيت
وجهك بالمرآة قط؟!
قلت :أتعرف؟..نحن بال
first-class ويمكنني تغيير مكاني والابتعاد
عنك
لورانس:تريدين الابتعاد عني ولكنني لورانس!
نسيت أن من أبرز صفات لورانس هو غروره
قلت قبل أن أقوم لمكان آخر:أنت تحمل نفسك قيمة أكبر مما تتحمله!
عندما قمت لمكان آخر لحقني وجلس بجانبي فغيرت مكاني مرة أخرى فلحقني
مجدداً،فرغ صبري فقمت وقلت له بغضب : ما مشكلتك دعني وشأني ، لماذا تتبعني وتزعجني بهذه الطريقة ؟!
لورانس:لا أدري،ربما لأنني أجدك ظريفة ربما لأنني
أحبك بشدة
قلت وأنا أحاول استيعاب ما قاله :ماذا؟...لماذا إذاً تزعجني ؟!
لورانس:هذا ليس خطأي بل خطأك!أنت من تبدين ظريفة عندما تغضبين !
عندها كنت بين الصدمة والدهشة حتى انتبهت إلى المضيفة التي طلبت منا الجلوس
وربط أحزمة الأمان التفت إلى لورانس بعد أن فعلت ذلك وكان لأول مرة وسيماً ورائعاً
بعيني ،شعرت بالغرابة كيف أن أعواماً من الكراهية اختفت من قلبي بلحظة ..لا بل قد
استبدلها قلبي بحب !..كيف أحببته بلحظة، كم ارتبكت بحضرته وما بين نظراته وكأنه
شخص آخر غير ذلك الشخص الذي كرهته لسنوات ...عندما نزلنا من الطائرة افترقنا بعد
أن أعطاني رقم هاتفه و أعطيته قلبي !.. هل قلبي أحمق ..أم أن هذا هو الحب..ساذج
كطفل..
مضيت إلى عيادة والدي التي أعطى والدي عنوانها لهاجر على الهاتف،عندما طرقت
بابها ففتح لي والدي ضاحكاً ، عندما دخلت كانت العيادة فارغة ، لعله اعتذر عن جميع
المواعيد من أجلي اليوم ...وقف يمعن بي ثم قال :" تبدين رشيقة وجميلة".تبدين
رشيقة أو فقدت وزناً أجمل رشاوى كلامية قد تقدمها لأيةامرأة!..وأكمل:هنالك أمر
مختلف بك ...هل قصصت شعرك ؟...قالها كي يقول لي أنه لازال يتذكر شكلي وكيف كنت
أبدو ، أجبته بنعم ثم جلس على الأريكة وراح يمعن بي وأنا أتفرج على التحف و
العيادة التي بدت فخمة وكأنها فندق ، لطالما كان لوالدي ذوق رفيع باختيار الأثاث ،
وأخيراً تفوه والدي بالسؤال الذي أحضرني من أجله : لقد أخبرتني هاجر عن ما حدث ولا
أريد مناقشتك بالأمر ،أريد فقط سؤالك لماذا ؟
قلت : بسبب الكره
والدي : اعتقدته بسبب الحب ، حب سوريا أعني
قلت :" جزء منه نعم ..حب سوريا ،والجزء الآخر هو حقد على من يعتقد نفسه أنه لا يحكم سوريا بل يملكها وكل
السوريين إنما هم مواشي لخدمته ولخدمة مصالحه لأنني أكره من حول سوريا من مهد
الحضارات إلى دولة متخلفة ".عندها صمتت وأنا أفكر بفكرة استوعبتها أخيراً :في
الواقع ،أنا كرهت حكام سوريا عندما كنت طفلة صغيرة عندها كنت لم أعي بعد كل هذا
الفساد ، ولكنني كنت أكرهه دون أن أفهم لماذا ..كنت أمزق صوره بغلّ، بدا الأمر
وكأنني رضعت كرهه!
قال والدي مدهشاً:!Interesting
ثم قام إلى أحد صفوف الكتب وتناول كتاباً أخرج من بين صفحاته ورقة منهكة
صفراء ، بدت قديمة جداً ومطوية منذ زمن بعيد..قلت له : إن كنت تريد أن تكتب كتاباً
عن حالتي النفسي فلن تحتاج إلى كتاب ستحتاج إلى كتب!
قال :لم تفصحي لي عن مشاعرك عندما كنت طفلة .
قلت : لم تسألني يوماً عن مشاعري .
قال كمن يبرر:عملي كله محض أسئلة، كنت أعود متعباً جرّاء يوماً من الأسئلة
..والآن أجدني متردداً جرّاء لحظة جواب
قلت : جواب عن ماهية هذه الورقة .
قال: نعم ولكن سأحدثك عن حادثة حدثت منذ زمن بعيد أنت تعلمين أن بثمانينيات
القرن الماضي حدثت تحركات سلمية بمدينة حماة ، لم تطالب بأكثر من أن تعاملهم
حكومتهم كبشر لهم حقوق..ما كان جواب حكومتهم سوى مجازر مروعة راح ضحيتها الآلاف من
الأبرياء كنت أعيش ببيت بمنطقة نائية آنذاك ، كانت هذه المنطقة هي أقرب منطقة
لحماة من ريفها ولم يكن يسكن بها أحد سوى أنا ، احتجت لمكان كهذا للدراسة
وللتفكير...لم أعرف ما يجرى بحماة بسبب قطع المواصلات والاتصالات حين إذن.
تساءلت عن علاقة هذا بموضوعنا ولكنني لم أسأله
واستمريت بالإصغاء إليه: ..في إحدى الليالي سمعت طرقات خافتة على باب بيتي ، أخذت
بندقيتي و فتحت الباب ..كانت هناك امرأة مضرجة بالدماء مستلقية على الدرج وتحمل
رضيعة صغيرة لا يتجاوز عمرها الأيام
حملتها بصعوبة وحملت طفلتها ، كانت الناجية الوحيدة من عائلتها واستطاعت أن
تحمل طفلتها وتهرب من بيتها رغم الرصاصتين اللتان أصيبت بهما ، ركضت كل هذه
الأميال مدفوعة بعاطفتها كأم ،طلبت مني أن أُعيل طفلة لا عائلة لها وأن لا أدعها
تعيش كما عاش أبناء جلدتها وأن اسميها كما سمتها "أمية" ، أرضعتها قبل
أن تموت ، قبلتها على جبهتها قبل أن تفارقها ، كتبت لها كلمة أرادت أن تظل تعرفها
وأن ترى أمها عبر هذه الكلمة ...
قام ومدَّ لي الورقة وأنا غارقة بصمتي وصدمتي وأكمل: حملت الطفلة وربيتها
وأحببتها ..وهاأنا ذا أعطيها كلمات والدتها..
أمسكت الورقة بيد راجفة وفتحتها لأرى كلمة واحدة: "أحبك"...سالت
دموعي عفوية من دون قصد ومن دون صوت وأنا أحدق بكلمة واحدة أثارت آلاف المشاعر
بداخلي وأكمل والدي : هذا هو سبب حقدك ، حقدك كان منذ ذلك اليوم صامتاً عن سببه
ولكنه كان دائماً يشعرك به ...بصمت .