خصائص
الشعر الصوفى
ظلَّ الشعرُ دوماً ،
مَعيناً يرده الصوفية للارتواء من نبعِ التعبير
الصادق ، وأداةً مناسبة لتصوير أدق حقائق الطريق ..
تلك الحقائق التى تلوح لقلوب أتقياء هذه الأمة فى
ارتحالهم الذوقى لمنابع النور الإلهى ، سيراً
بأقدامِ الصدق والتجردُّ عن الأكوان وطيراً بأجنحة
المحبَّة ، لاختراق سماوات الأحوال والمقامات ..
حتى تحطَّ عصا الترحال والسفر ، عند خيام القرب من
الله .
وكناَّ قد انتهينا من النظر فى الآثار
الصوفية ، إلى القول بأنَّ هناك ثلاثة أشكالٍ رئيسة
، عبَّر خلالها أصحاب الطريق الصوفىِّ عن أدقِّ
رقائقهم وحقائقهم، وعَبَروا بها تلك الإشكالية
الكامنة فى عجز اللغة العادية وقصورها عن ترجمة هذه
المعانى بدقة ، فكانت هذه الأشكالُ التعبيرية :
الكتابة النثرية بألفاظٍ اصطلاحية موغلة فى
الاستغلاق ، القصص الرمزى المفعم بالتلويحات ،
الشعر الصوفى.
وتأتى ضرورة بحث هذه الأشكال التعبيرية
الثلاثة ، من كونها السبيل الوحيد لفهم التصوف
وطريق الولاية بعمق ، وإن كانت للشعر أهمِّيته
الخاصة بين هذه الأشكال الثلاثة .. فهو من حيث
طبيعته ، وبما يتميز به من ايجازٍ لفظىٍّ ودلالةٍ
رحبة ، خليقٌ بأن يُلْمَحَ به الصوفىُّ إلى
مكاشفاتِ الوصول ومشاهداتِ الولاية ، دونما إسهاب
من شأنه أن يوقع أهل التحقيق فى مزالق اللغة ومضايق
الفهم ومشانق الفقهاء القشريين ! ومن هنا قال
الصوفى فى شعره ، مال لم يقله فى كلامه لأهل زمانه .
ولما كان الشعرُ الصوفىُّ فى أبياته
القصار وقصائده المطولة على هذه الدرجة من الأهمية
، ولما كان الصوفية قد ارتضوه قالباً تعبيريّا منذ
فجر التصوُّف وحتى اليوم ، ولما كنَّا بصدد تقديم
نموذجٍ منه فى هذا الديوان ، ولأنه فى خاتمة المطاف
: نمطٌ مستقل من الانتاج الشعرى ، فالمقام يقتضى أن
نتوقَّفَ حِيناً لتحديد الخصائص العامة التى يتميز
بها هذا اللون الشعرى :
إن أولى خصائص الشعر الصوفى وأبرزها ، هو
ما يتعمده الشاعر فى سلوك سبيل الرمز والكناية وضرب
الأمثال ، ليحمل البيت الشعرى بين طياتِ تفعيلاته ،
ما لاحصر له من الدلالات الخاصة ، وهذا ما يصرِّح به
شعراء الصوفية أنفسهم ، فنجد منهم عبد الكريم
الجيلى يفصِّل الأمر بقوله :
مَفَاتيِحُ أَقْفَالِ الغُيُوبِ
أَتَتْكَ فـىِ
خَزَائِنِ
أَقْوَالِى فَهَلْ أَنْتَ سَـامِـــعُ
وَهَـا أَنَا ذَا أُخْفِى وأُظْهِرُ
تَـارَةً
لِرَمْـزِ
الهَــوَى مَا السِّرُّ عِنْدِىَ ذَائِعُ
وَإيَّـاكِ أَعْنى فَاسْمعِى جَارَتىِ
فَمَا
يُصَرِّحُ
إلاَّ جَــاهِلٌ أَو مُخَــادِعُ
سَأُنُشِى رِواَيَاتٍ إلى الْحَقِّ
أُسْنِدتْ
وَأَضْرِبُ
أَمْثَـالاً لِـمَا أنَـا وَاضِـعُ
ورموز الشعر الصوفى ، هى ذاتها تلك
الاصطلاحاتُ التى تواضع القومُ على التحدُّث بها
لكشف معانيهم لأنفسهم ، والتى عنى بعض مشايخهِم
بالكشف عن دلالاتها للمريدين خلال قائمةٍ طويلة من
المؤلَّفات فى هذا الباب ، كالرسالة القشيرية ،
واللمع ، وكشف المحجوب ، وكتابىْ (اصطلاحات
الصوفية) لابن عربى والقاشانى .
وأبرزُ هذه الرموز وأكثرها وروداً فى
الغالب الأعمِّ من شعر الصوفيةِ، هو إشاراتُهم
للذَّات الإلهية بمحبوبات العرب المشهورات ، مثل
ليلى وهند وسلمى ولبنى .. وغيرهن . فمن ذلك ما نراه
عند عفيفِ الدين التلمسانى حين يريد التعبير عن
رؤيتِه لآثار جمال الذات الإلهية فى الكون ، فيقول :
مَنَعَتْهَا الصِّفاتُ
وَالأَسْمَــاءُ
أَنْ
تُرَى دُونَ بُـــرْقُعٍ أَسْمَــاءُ
قَدْ ضَلَلْنَا بِشَعْرِهَـا وَهْوَ
مِنْهَا
وَهَــدَتْنَا
بِهَــا لَهـَا الأَضْـوَاءُ
نَحْنُ قَـوْمٌ مِتْنَـا وَذَلِكَ
شَرْطٌ
فِى
هَـوَاهَـا فَلْييْــأَسِ الأَحْيَاءُ
وهذا الاشتقاقُ الرمزىُّ يرجع فى
المفهوم الصوفىِّ ، إلى كَوْنِ كلِّ مظاهر الحسنِ
فى الوجود ، إنما هى تجلياتٌ للجمال الإلهى الذاتى
، فتلك المحبوبات العربيات لايتعدَّين كونهنَّ
إشارةً حسِّية باهتةً للجمال الأزلى ، هذا الجمال
الذى اشتركْن فيه بحسنِهنَّ ، وتواضعهنَّ عنه
بتعالى جمال الذات عنهنَّ علوّاً كبيرا . يقول ابن
الفارض :
وَتَظْهَـرُ لِلْعُشَّاقِ فِى كُلِّ
مَظْهَرٍ
مِنَ
اللَّبْسِ فى أشْكَـالِ حُسْنٍ بَدِيعَـةِ
فَفى مَرَّةٍ لُبْنَــى وَأُخْرَى
بُثَيْنَةً
وَآوِنَـــةً
تُـدْعَـى بِعَـزَّةَ عَزَّتِ
وَلَسْنَ سِوَاهَا لاَ وَلا كُنَّ
غَيْرَهَا
وَمَـا
إنْ لَهَا فى حُسْنِها مِنْ شَرِيكَةِ
إلا أنَّ هذه الرموز ليست بحالٍ من
الأحوال مسوِّغاً للوقوف عند هذه المظاهر والوجود
المستحسنة ، وإنما هى محضُ تلويحاتٍ يوهم بها
الصوفىُّ العامَّةَ بأنَّ محبوبه إنسانىٌّ ، صوناً
لسرِّ محبته من الشيوعِ فى غير أهله ، وإشفاقاً على
السامعين من أهل السلامة أن يفتتنوا بصريح أقواله .
وعلى الحقيقة، فليس للصوفى توقف ولا كلام ، إلا فى
محبة مولاه عز وجل ، ولهذا ارتاع ابن عربى حين سمع
من مريديه أن ديوانه (ترجمان الأشواق) حمل على
المعنى الظاهر ، وأنه اتُّهم بغزل ابنة شيخه
تصريحاً .. فشرح ديوانه شرحاً ذوقيّاً ، منه قوله :
كُلُّ مَـا أَذْكُــرُ مِنْ طَلَـلٍ
أَوْ
رُبــوُعٍ أَوْ مَـغَـــانٍ كُلُّ مَا
وَكَذَا إنْ قُلْتُ هِى أَوْ قُلْتُ هُو
أَوْهُمـوُ
أَوْ هُــنَّ جَمْعــاً أَوْ هُمَا
كُلُّمَا أَذْكُـــرهُ مِمَّا جَـرَى
ذِكْرُهُ
أَوْ مِثْلُـــــهُ أَنْ تَفْهَمَـا
مِنْهُ أَسـْرَارٌ وَأَنْـوَارٌ
جَلَـتْ
أَوْ
عَلَــتْ جَــاءَ بِهَا رَبُّ السَّمَا
فَاصْرِفِ الْخَـاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا
وَاْطُلبِ
الْبَـــاطِـنَ حَتَّى تَعْلَمَا
وإن كان الشيخ الأكبر قد أسهب فى هذه
الأبيات وأطال ، كعادته دوماً! فإنَّ ما أراد قوله
هنا ، قد ورد فى بيتٍ شعرىٍّ مفردٍ يتداوله
الصوفية، يقول:
عِبَارَاتُنَـا شَتَّى وَحُسْنُكَ
وَاحِدٌ
وَكُــلٌّ
إلَى ذَاكَ الْجَـمَالِ يُشيرُ
والخاصية الثانية فى الشعر الصوفىِّ ،
تبدو فى هذ القدرِ من التهويل والمبالغة، اللذين
نجدهما فى الأبيات التى يعبِّر فيها الصوفىُّ عن
الأحوال غير العادية التى يعايشها ، والأمواج
العالية من الأنوار التى يعاينها . وتظهر تلك
الخاصِّيةِ بأوضح ما يكون ، حين يحكى الشاعر الصوفى
عن محبته وما يلاقى فيها من وَجدٍ وشوقٍ واحتراق :
وَطُوفَانُ نُوحٍ عِنْدَ نَوْحِى كَأَدْمُعىِ
وَإيقَـادُ
نِيراَنِ الخلِيــلِ كَلَـوْعَتِى
فَلَوْلاَ زَفيـرِى أَغْرَقَتْنَى أَدْمُـعِــى
وَلَوْلاَ
دُمُـوعِـى أَحْرَقَتْنِـى زَفْرَتِـى
وَحُـزْنِىَ مَـا يُعْقُـوبُ بَثَّ أَقَلَّهُ
وَكُلُّ
بَــلاَ أَيُّــوبَ بَعْضُ بَلِيَّتِى
ومن هذه المبالغة ، ما نجده فى تلك
الرباعية الصوفية التى كان الشبلى والجنيد كثيراً
ما يستنشدان المنشدين إياها فى مجالس السماع
الصوفىِّ
، والتى لاتخرج عن الإطار العام لتهاويل الشعر
الصوفى :
فَلَوْ أَنَّ لِـى فِى كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةِ
ثَمَانِيــنَ
بَحْــراً مِنْ دُمُوعٍ تُدْفِقُ
لأَفْنَيْتُهَا حَتَّى ابْتَـدَأْتُ
بِغَيْرِهَا
وَهَذَا
قَلِيــلٌ لِلْفَتَــى حَينَ يَعْشَقُ
أُهِيمُ بِهِ حَـتَّى الْمَمَاتِ
لِشَقْوَتِى
وَحَـوْلِى
مِنَ الْحُبِّ المبَرِّحِ خَنْــدَقُ
وَفَوْقِى سَحَابٌ يُمْطِرُ الشَّوْقَ والْهَوَى
وَتَحْـتِـى
عُيُــونٌ لِلْهَوَى تَتَدفَّقُ
وعلى هذه المحبَّةِ ، يجعل الصوفية من
الموتِ عنواناً . فيكثرون فى شعرهم من ذكر موتِ
المحبِّين عشقاً ، قاصدين الموت فى مفهومه
الصوفىِّ -(إماتة تعلُّقات النفس) وفى مفهومه العام
. ومن هنا قال ذو النُّونِ المصرى فى مطلع إحدى
قصائده :
أَمُــوتُ وَمَا مَاتَتْ إلِيكَ
صَبَابَتِـى
وَلاَ
قُضِيَتْ مِنْ صِدْقِ حُبِّكَ أَوْطَارِى
ولاقتراب الطائفتين (الصوفية - العذريون)
فى هذا الموضوع ، فقد أُعجب الصوفيةُ دوماً
بالعذريِّين من الشعراء ، وتمثلوا فى شرح أحوالهم
بأبيات الشعر العذرىِّ التى تفيض رقةً وتذوب حبّاً
، خاصةً أن الشعر العذرىَّ تندر فيه الصور الحسية
الفجة ، التى تندر أيضاً فى شعر الصوفية .. اللهم إلا
ما نجده عند عبد الغنى النابلسى ، الذى عمد فى بعض
الأحيان إلى إغراق شعره فى الرمز الحسِّى ، بحيث
وقف بأبياته على أبواب الشعر الصوفى ، ولم يتسام
بها لِتَلَج فيه
.
وللشعر الصوفىِّ خاصيةٌ تتعلق بعدد
الأبيات ، فباستثناء بعض القصائد الصوفية
المطوَّلة التى ابتغى أصحابها ترجمة التجربة
الروحية بأسرها، كالتائية الكبرى ، والنادرات
العينية ، وأشعار العطار والرومى الفارسية ، .. وهى
قصائد تُعدُّ أبياتُها بالمئات. فإنَّ الأغلب
الأعمَّ من شعر الصوفية يأتى على هيئة أبياتٍ قصار،
تُلُمح كل مجموعة منها عن لطيفةٍ ذوقيةٍ مفردةٍ ،
أو بضعة لطائف سرعان ما يحجم الصوفىُّ عن الإسهاب
فيها ، بحيث يقف بقصيدته عند أقل عدد من الأبيات ..
ولهذا فإنَّ العديد من الدواوين الشعرية لكبار
الصوفية ، تشتمل على مقطوعات شعرية لاتزيد أبياتها
عن الخمسين ، بل تقف أحياناً عند بيت أو بيتين فقط !
والمثال على ذلك تجده فى دواوين الحلاَّج والشبْلى
وابن عربى والتِّلْمسانى والشُّشَترى وعبد الهادى
السُّودى اليمنى
.
ومن الناحية العروضيَّة وعيار الشعر ،
جاءت أغلب أشعارِ القوم من البحور المشهورة
المتداولة ، كالطويل والوافر والكامل . لما تتميَّز
به هذه البحور من اتِّساعٍ يعطى للشاعر خلال كمية
كبيرة من السواكن والمتحركات ، إمكانية وافية
للتعبير عن أغراضه . ومع ذلك ، فقد كان الصوفية
كثيراً ما يضيقون بقواعد الشعر باعتبارها قيوداً ،
فيكسرون جدران التفعيلات فى بعض أبياتهم، دون
التفات إلى المباح وغير المباح للشعراء - مما يُغضب
أهل العروض كثيراً - وقد عبر عن هذا الضيق بقيود
بحور الشعر ، شاعرٌ صوفىٌّ لانظير له ، أعنى مولانا
جلال الدين الرومى فعلى الرغم من أنه وضع ديوانه
(المثنوى) على قاعدة النظم الذى يعرف فى العربية
بالمزدوج ، والذى يعتمد فى التقفية على توحيد
القافية بين شطرى كل بيت ، بحيث تتحرر المنظومة من
القافية الموحدة ؛ إلا أنه يعود فيضيق بتحكم
التفعيلات فى آفاق النقش بالكلمات ، فيقول :
إِنَّنىِ أُفَكِّرُ فىِ القَافِيَةِ ،
وَحَبِيبِى يَقُولُ : لاَ تُفَكِّرَ فىِ شَئٍ
سِوَاى !
ويقول :
المعْنَى فىِ الشِّعْرِ ، كَحَجَرِ
المِقْلاَعِ ، لَيْسَ لَهُ اتِّجَاهٌ مُحَدَّدٌ
ويقول :
مُفْتَعِلنْ مُفْتَعِلُنْ
مُفْتَعِلُنْ .. قَتَلْتنـىِ
.
وبطبيعة الحال ، فالشاعر الصوفى لم يكن
ليلجأ إلى المهجور من البحور الشعرية ليعبّر بها ،
فذلك بالنسبة له تكلف لاطائل تحته . فالصوفى لايرمى
إلى الإِبهار اللغوى ولزوم ما لايلزم ليُسعد به
الفصحاء ، وإنما هو فى نهاية الأمر يترجم بالأبيات
معنىً عاينه عند فيضان الوجد .
وأخيراً ، فثمة خاصية يمكن اعتبارها سمة
مميزة فى الشعر الصوفى ، تتمثَّل فى هذا الحشد
الوافر من الأبيات المجهولة المؤلف . ففى الكتب
المتون التى أرخت للتصوف ورجاله فى القرون الأولى ،
تتوالى المقطوعات الشعرية المجهولة المؤلف،
مسبوقة بكلمات مثل : وقال بعضهم ، وأنشد فى معناه ،
ولله در القائل ، وقيل .. إلخ بل نراهم أحيانا ينسبون
عددا من الأبيات لغير واحد من أهل الطريق . ومن
أمثلة ذلك ، الرباعية الشهيرة (أُحِبُّكَ
حُبَّيْنِ ..) التى نسبتها بعض الكتب إلى رابعة
العدوية ، وذكرتها كتب أخرى عند تَرجمة صوفى متأخر
عليها بسنواتٍ عِدَّة، هو ذو النون المصرى .. ومن
الأمثلة أيضاً ، تلك الأبيات الرقيقة التى لم يُعرف
حتى اليوم مؤلِّفها :
قَوْمٌ هُمـومُهـمُ بِاللَّهِ قَدْ
عَلَقتْ
فَمَا
لَهُمْ هِمَــمٌ تَسْمُوا إلىَ أَحَدِ
فَمَطْلَـبُ القَوْمِ مَوْلاَهُمْ
وَسَيِّدَهُمْ
يَا
حُسْنَ مَطْلَبِهِـمْ لِلْوَاحِد الصَّمَدِ
مَـا إنْ تَنَازَعَـهُمْ دُنْيَا وَ
لاَشَرَفٌ
مِنَ
الْمَطَـــاعِمِ وَاللَّذَّاتِ وَالْوَلَدِ
وَلاَ لِلُبْسِ ثِيَـــابٍ فَائِـقٍ
أَنِقِ
وَلاَ
لِـرَوْحِ سُرُورٍ حَـلَّ فى بَلَدِ
إلاَّ مُسَـــارَعَـةً فِى إثْرِ
مَنْزِلَةٍ
قدْ
قَارَبَ الْخَطْوَ فِيهَـا بَاعِدُ الأَبَدِ
فَهُمْ رَهَــائِنُ غُـدْرَانٍ
وَأَوْدِيَةٍ
وَفِى
الشَّوَامِخِ تَلْقَاهُمْ مَعَ الْعَدَدِ
.. تلك هى الخصائصُ العامة للتراث
الشعرىِّ الذى تركه الصوفية ، وإذا كانت هذه
الخصائص عامة ، فإنَّ من ورائها بعض السمات
المميِّزة لكل شاعرٍ صوفىٍّ على حِدَّة . كهذا
الولع بالتصغير والجناس الذى نجده فى شعر ابن
الفارض وجمود اللفظ وتوالى المترادفات عند ابن
عربى والخيال الواسع ورقة التصوير عند عفيف الدين
التلمسانى والتدفق الإبداعى عند جلال الدين
الرومى.. وغير ذلك ؛ إلا أن هذه السمات الخاصة
بأبيات كل شاعرٍ منهم ، لاتخرج عن الخصائص العامة
للشعر الصوفىِّ ، وإنما تنضاف إليها .
الشعر الصوفى
ظلَّ الشعرُ دوماً ،
مَعيناً يرده الصوفية للارتواء من نبعِ التعبير
الصادق ، وأداةً مناسبة لتصوير أدق حقائق الطريق ..
تلك الحقائق التى تلوح لقلوب أتقياء هذه الأمة فى
ارتحالهم الذوقى لمنابع النور الإلهى ، سيراً
بأقدامِ الصدق والتجردُّ عن الأكوان وطيراً بأجنحة
المحبَّة ، لاختراق سماوات الأحوال والمقامات ..
حتى تحطَّ عصا الترحال والسفر ، عند خيام القرب من
الله .
وكناَّ قد انتهينا من النظر فى الآثار
الصوفية ، إلى القول بأنَّ هناك ثلاثة أشكالٍ رئيسة
، عبَّر خلالها أصحاب الطريق الصوفىِّ عن أدقِّ
رقائقهم وحقائقهم، وعَبَروا بها تلك الإشكالية
الكامنة فى عجز اللغة العادية وقصورها عن ترجمة هذه
المعانى بدقة ، فكانت هذه الأشكالُ التعبيرية :
الكتابة النثرية بألفاظٍ اصطلاحية موغلة فى
الاستغلاق ، القصص الرمزى المفعم بالتلويحات ،
الشعر الصوفى.
وتأتى ضرورة بحث هذه الأشكال التعبيرية
الثلاثة ، من كونها السبيل الوحيد لفهم التصوف
وطريق الولاية بعمق ، وإن كانت للشعر أهمِّيته
الخاصة بين هذه الأشكال الثلاثة .. فهو من حيث
طبيعته ، وبما يتميز به من ايجازٍ لفظىٍّ ودلالةٍ
رحبة ، خليقٌ بأن يُلْمَحَ به الصوفىُّ إلى
مكاشفاتِ الوصول ومشاهداتِ الولاية ، دونما إسهاب
من شأنه أن يوقع أهل التحقيق فى مزالق اللغة ومضايق
الفهم ومشانق الفقهاء القشريين ! ومن هنا قال
الصوفى فى شعره ، مال لم يقله فى كلامه لأهل زمانه .
ولما كان الشعرُ الصوفىُّ فى أبياته
القصار وقصائده المطولة على هذه الدرجة من الأهمية
، ولما كان الصوفية قد ارتضوه قالباً تعبيريّا منذ
فجر التصوُّف وحتى اليوم ، ولما كنَّا بصدد تقديم
نموذجٍ منه فى هذا الديوان ، ولأنه فى خاتمة المطاف
: نمطٌ مستقل من الانتاج الشعرى ، فالمقام يقتضى أن
نتوقَّفَ حِيناً لتحديد الخصائص العامة التى يتميز
بها هذا اللون الشعرى :
إن أولى خصائص الشعر الصوفى وأبرزها ، هو
ما يتعمده الشاعر فى سلوك سبيل الرمز والكناية وضرب
الأمثال ، ليحمل البيت الشعرى بين طياتِ تفعيلاته ،
ما لاحصر له من الدلالات الخاصة ، وهذا ما يصرِّح به
شعراء الصوفية أنفسهم ، فنجد منهم عبد الكريم
الجيلى يفصِّل الأمر بقوله :
مَفَاتيِحُ أَقْفَالِ الغُيُوبِ
أَتَتْكَ فـىِ
خَزَائِنِ
أَقْوَالِى فَهَلْ أَنْتَ سَـامِـــعُ
وَهَـا أَنَا ذَا أُخْفِى وأُظْهِرُ
تَـارَةً
لِرَمْـزِ
الهَــوَى مَا السِّرُّ عِنْدِىَ ذَائِعُ
وَإيَّـاكِ أَعْنى فَاسْمعِى جَارَتىِ
فَمَا
يُصَرِّحُ
إلاَّ جَــاهِلٌ أَو مُخَــادِعُ
سَأُنُشِى رِواَيَاتٍ إلى الْحَقِّ
أُسْنِدتْ
وَأَضْرِبُ
أَمْثَـالاً لِـمَا أنَـا وَاضِـعُ
ورموز الشعر الصوفى ، هى ذاتها تلك
الاصطلاحاتُ التى تواضع القومُ على التحدُّث بها
لكشف معانيهم لأنفسهم ، والتى عنى بعض مشايخهِم
بالكشف عن دلالاتها للمريدين خلال قائمةٍ طويلة من
المؤلَّفات فى هذا الباب ، كالرسالة القشيرية ،
واللمع ، وكشف المحجوب ، وكتابىْ (اصطلاحات
الصوفية) لابن عربى والقاشانى .
وأبرزُ هذه الرموز وأكثرها وروداً فى
الغالب الأعمِّ من شعر الصوفيةِ، هو إشاراتُهم
للذَّات الإلهية بمحبوبات العرب المشهورات ، مثل
ليلى وهند وسلمى ولبنى .. وغيرهن . فمن ذلك ما نراه
عند عفيفِ الدين التلمسانى حين يريد التعبير عن
رؤيتِه لآثار جمال الذات الإلهية فى الكون ، فيقول :
مَنَعَتْهَا الصِّفاتُ
وَالأَسْمَــاءُ
أَنْ
تُرَى دُونَ بُـــرْقُعٍ أَسْمَــاءُ
قَدْ ضَلَلْنَا بِشَعْرِهَـا وَهْوَ
مِنْهَا
وَهَــدَتْنَا
بِهَــا لَهـَا الأَضْـوَاءُ
نَحْنُ قَـوْمٌ مِتْنَـا وَذَلِكَ
شَرْطٌ
فِى
هَـوَاهَـا فَلْييْــأَسِ الأَحْيَاءُ
وهذا الاشتقاقُ الرمزىُّ يرجع فى
المفهوم الصوفىِّ ، إلى كَوْنِ كلِّ مظاهر الحسنِ
فى الوجود ، إنما هى تجلياتٌ للجمال الإلهى الذاتى
، فتلك المحبوبات العربيات لايتعدَّين كونهنَّ
إشارةً حسِّية باهتةً للجمال الأزلى ، هذا الجمال
الذى اشتركْن فيه بحسنِهنَّ ، وتواضعهنَّ عنه
بتعالى جمال الذات عنهنَّ علوّاً كبيرا . يقول ابن
الفارض :
وَتَظْهَـرُ لِلْعُشَّاقِ فِى كُلِّ
مَظْهَرٍ
مِنَ
اللَّبْسِ فى أشْكَـالِ حُسْنٍ بَدِيعَـةِ
فَفى مَرَّةٍ لُبْنَــى وَأُخْرَى
بُثَيْنَةً
وَآوِنَـــةً
تُـدْعَـى بِعَـزَّةَ عَزَّتِ
وَلَسْنَ سِوَاهَا لاَ وَلا كُنَّ
غَيْرَهَا
وَمَـا
إنْ لَهَا فى حُسْنِها مِنْ شَرِيكَةِ
إلا أنَّ هذه الرموز ليست بحالٍ من
الأحوال مسوِّغاً للوقوف عند هذه المظاهر والوجود
المستحسنة ، وإنما هى محضُ تلويحاتٍ يوهم بها
الصوفىُّ العامَّةَ بأنَّ محبوبه إنسانىٌّ ، صوناً
لسرِّ محبته من الشيوعِ فى غير أهله ، وإشفاقاً على
السامعين من أهل السلامة أن يفتتنوا بصريح أقواله .
وعلى الحقيقة، فليس للصوفى توقف ولا كلام ، إلا فى
محبة مولاه عز وجل ، ولهذا ارتاع ابن عربى حين سمع
من مريديه أن ديوانه (ترجمان الأشواق) حمل على
المعنى الظاهر ، وأنه اتُّهم بغزل ابنة شيخه
تصريحاً .. فشرح ديوانه شرحاً ذوقيّاً ، منه قوله :
كُلُّ مَـا أَذْكُــرُ مِنْ طَلَـلٍ
أَوْ
رُبــوُعٍ أَوْ مَـغَـــانٍ كُلُّ مَا
وَكَذَا إنْ قُلْتُ هِى أَوْ قُلْتُ هُو
أَوْهُمـوُ
أَوْ هُــنَّ جَمْعــاً أَوْ هُمَا
كُلُّمَا أَذْكُـــرهُ مِمَّا جَـرَى
ذِكْرُهُ
أَوْ مِثْلُـــــهُ أَنْ تَفْهَمَـا
مِنْهُ أَسـْرَارٌ وَأَنْـوَارٌ
جَلَـتْ
أَوْ
عَلَــتْ جَــاءَ بِهَا رَبُّ السَّمَا
فَاصْرِفِ الْخَـاطِرَ عَنْ ظَاهِرِهَا
وَاْطُلبِ
الْبَـــاطِـنَ حَتَّى تَعْلَمَا
وإن كان الشيخ الأكبر قد أسهب فى هذه
الأبيات وأطال ، كعادته دوماً! فإنَّ ما أراد قوله
هنا ، قد ورد فى بيتٍ شعرىٍّ مفردٍ يتداوله
الصوفية، يقول:
عِبَارَاتُنَـا شَتَّى وَحُسْنُكَ
وَاحِدٌ
وَكُــلٌّ
إلَى ذَاكَ الْجَـمَالِ يُشيرُ
والخاصية الثانية فى الشعر الصوفىِّ ،
تبدو فى هذ القدرِ من التهويل والمبالغة، اللذين
نجدهما فى الأبيات التى يعبِّر فيها الصوفىُّ عن
الأحوال غير العادية التى يعايشها ، والأمواج
العالية من الأنوار التى يعاينها . وتظهر تلك
الخاصِّيةِ بأوضح ما يكون ، حين يحكى الشاعر الصوفى
عن محبته وما يلاقى فيها من وَجدٍ وشوقٍ واحتراق :
وَطُوفَانُ نُوحٍ عِنْدَ نَوْحِى كَأَدْمُعىِ
وَإيقَـادُ
نِيراَنِ الخلِيــلِ كَلَـوْعَتِى
فَلَوْلاَ زَفيـرِى أَغْرَقَتْنَى أَدْمُـعِــى
وَلَوْلاَ
دُمُـوعِـى أَحْرَقَتْنِـى زَفْرَتِـى
وَحُـزْنِىَ مَـا يُعْقُـوبُ بَثَّ أَقَلَّهُ
وَكُلُّ
بَــلاَ أَيُّــوبَ بَعْضُ بَلِيَّتِى
ومن هذه المبالغة ، ما نجده فى تلك
الرباعية الصوفية التى كان الشبلى والجنيد كثيراً
ما يستنشدان المنشدين إياها فى مجالس السماع
الصوفىِّ
، والتى لاتخرج عن الإطار العام لتهاويل الشعر
الصوفى :
فَلَوْ أَنَّ لِـى فِى كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةِ
ثَمَانِيــنَ
بَحْــراً مِنْ دُمُوعٍ تُدْفِقُ
لأَفْنَيْتُهَا حَتَّى ابْتَـدَأْتُ
بِغَيْرِهَا
وَهَذَا
قَلِيــلٌ لِلْفَتَــى حَينَ يَعْشَقُ
أُهِيمُ بِهِ حَـتَّى الْمَمَاتِ
لِشَقْوَتِى
وَحَـوْلِى
مِنَ الْحُبِّ المبَرِّحِ خَنْــدَقُ
وَفَوْقِى سَحَابٌ يُمْطِرُ الشَّوْقَ والْهَوَى
وَتَحْـتِـى
عُيُــونٌ لِلْهَوَى تَتَدفَّقُ
وعلى هذه المحبَّةِ ، يجعل الصوفية من
الموتِ عنواناً . فيكثرون فى شعرهم من ذكر موتِ
المحبِّين عشقاً ، قاصدين الموت فى مفهومه
الصوفىِّ -(إماتة تعلُّقات النفس) وفى مفهومه العام
. ومن هنا قال ذو النُّونِ المصرى فى مطلع إحدى
قصائده :
أَمُــوتُ وَمَا مَاتَتْ إلِيكَ
صَبَابَتِـى
وَلاَ
قُضِيَتْ مِنْ صِدْقِ حُبِّكَ أَوْطَارِى
ولاقتراب الطائفتين (الصوفية - العذريون)
فى هذا الموضوع ، فقد أُعجب الصوفيةُ دوماً
بالعذريِّين من الشعراء ، وتمثلوا فى شرح أحوالهم
بأبيات الشعر العذرىِّ التى تفيض رقةً وتذوب حبّاً
، خاصةً أن الشعر العذرىَّ تندر فيه الصور الحسية
الفجة ، التى تندر أيضاً فى شعر الصوفية .. اللهم إلا
ما نجده عند عبد الغنى النابلسى ، الذى عمد فى بعض
الأحيان إلى إغراق شعره فى الرمز الحسِّى ، بحيث
وقف بأبياته على أبواب الشعر الصوفى ، ولم يتسام
بها لِتَلَج فيه
.
وللشعر الصوفىِّ خاصيةٌ تتعلق بعدد
الأبيات ، فباستثناء بعض القصائد الصوفية
المطوَّلة التى ابتغى أصحابها ترجمة التجربة
الروحية بأسرها، كالتائية الكبرى ، والنادرات
العينية ، وأشعار العطار والرومى الفارسية ، .. وهى
قصائد تُعدُّ أبياتُها بالمئات. فإنَّ الأغلب
الأعمَّ من شعر الصوفية يأتى على هيئة أبياتٍ قصار،
تُلُمح كل مجموعة منها عن لطيفةٍ ذوقيةٍ مفردةٍ ،
أو بضعة لطائف سرعان ما يحجم الصوفىُّ عن الإسهاب
فيها ، بحيث يقف بقصيدته عند أقل عدد من الأبيات ..
ولهذا فإنَّ العديد من الدواوين الشعرية لكبار
الصوفية ، تشتمل على مقطوعات شعرية لاتزيد أبياتها
عن الخمسين ، بل تقف أحياناً عند بيت أو بيتين فقط !
والمثال على ذلك تجده فى دواوين الحلاَّج والشبْلى
وابن عربى والتِّلْمسانى والشُّشَترى وعبد الهادى
السُّودى اليمنى
.
ومن الناحية العروضيَّة وعيار الشعر ،
جاءت أغلب أشعارِ القوم من البحور المشهورة
المتداولة ، كالطويل والوافر والكامل . لما تتميَّز
به هذه البحور من اتِّساعٍ يعطى للشاعر خلال كمية
كبيرة من السواكن والمتحركات ، إمكانية وافية
للتعبير عن أغراضه . ومع ذلك ، فقد كان الصوفية
كثيراً ما يضيقون بقواعد الشعر باعتبارها قيوداً ،
فيكسرون جدران التفعيلات فى بعض أبياتهم، دون
التفات إلى المباح وغير المباح للشعراء - مما يُغضب
أهل العروض كثيراً - وقد عبر عن هذا الضيق بقيود
بحور الشعر ، شاعرٌ صوفىٌّ لانظير له ، أعنى مولانا
جلال الدين الرومى فعلى الرغم من أنه وضع ديوانه
(المثنوى) على قاعدة النظم الذى يعرف فى العربية
بالمزدوج ، والذى يعتمد فى التقفية على توحيد
القافية بين شطرى كل بيت ، بحيث تتحرر المنظومة من
القافية الموحدة ؛ إلا أنه يعود فيضيق بتحكم
التفعيلات فى آفاق النقش بالكلمات ، فيقول :
إِنَّنىِ أُفَكِّرُ فىِ القَافِيَةِ ،
وَحَبِيبِى يَقُولُ : لاَ تُفَكِّرَ فىِ شَئٍ
سِوَاى !
ويقول :
المعْنَى فىِ الشِّعْرِ ، كَحَجَرِ
المِقْلاَعِ ، لَيْسَ لَهُ اتِّجَاهٌ مُحَدَّدٌ
ويقول :
مُفْتَعِلنْ مُفْتَعِلُنْ
مُفْتَعِلُنْ .. قَتَلْتنـىِ
.
وبطبيعة الحال ، فالشاعر الصوفى لم يكن
ليلجأ إلى المهجور من البحور الشعرية ليعبّر بها ،
فذلك بالنسبة له تكلف لاطائل تحته . فالصوفى لايرمى
إلى الإِبهار اللغوى ولزوم ما لايلزم ليُسعد به
الفصحاء ، وإنما هو فى نهاية الأمر يترجم بالأبيات
معنىً عاينه عند فيضان الوجد .
وأخيراً ، فثمة خاصية يمكن اعتبارها سمة
مميزة فى الشعر الصوفى ، تتمثَّل فى هذا الحشد
الوافر من الأبيات المجهولة المؤلف . ففى الكتب
المتون التى أرخت للتصوف ورجاله فى القرون الأولى ،
تتوالى المقطوعات الشعرية المجهولة المؤلف،
مسبوقة بكلمات مثل : وقال بعضهم ، وأنشد فى معناه ،
ولله در القائل ، وقيل .. إلخ بل نراهم أحيانا ينسبون
عددا من الأبيات لغير واحد من أهل الطريق . ومن
أمثلة ذلك ، الرباعية الشهيرة (أُحِبُّكَ
حُبَّيْنِ ..) التى نسبتها بعض الكتب إلى رابعة
العدوية ، وذكرتها كتب أخرى عند تَرجمة صوفى متأخر
عليها بسنواتٍ عِدَّة، هو ذو النون المصرى .. ومن
الأمثلة أيضاً ، تلك الأبيات الرقيقة التى لم يُعرف
حتى اليوم مؤلِّفها :
قَوْمٌ هُمـومُهـمُ بِاللَّهِ قَدْ
عَلَقتْ
فَمَا
لَهُمْ هِمَــمٌ تَسْمُوا إلىَ أَحَدِ
فَمَطْلَـبُ القَوْمِ مَوْلاَهُمْ
وَسَيِّدَهُمْ
يَا
حُسْنَ مَطْلَبِهِـمْ لِلْوَاحِد الصَّمَدِ
مَـا إنْ تَنَازَعَـهُمْ دُنْيَا وَ
لاَشَرَفٌ
مِنَ
الْمَطَـــاعِمِ وَاللَّذَّاتِ وَالْوَلَدِ
وَلاَ لِلُبْسِ ثِيَـــابٍ فَائِـقٍ
أَنِقِ
وَلاَ
لِـرَوْحِ سُرُورٍ حَـلَّ فى بَلَدِ
إلاَّ مُسَـــارَعَـةً فِى إثْرِ
مَنْزِلَةٍ
قدْ
قَارَبَ الْخَطْوَ فِيهَـا بَاعِدُ الأَبَدِ
فَهُمْ رَهَــائِنُ غُـدْرَانٍ
وَأَوْدِيَةٍ
وَفِى
الشَّوَامِخِ تَلْقَاهُمْ مَعَ الْعَدَدِ
.. تلك هى الخصائصُ العامة للتراث
الشعرىِّ الذى تركه الصوفية ، وإذا كانت هذه
الخصائص عامة ، فإنَّ من ورائها بعض السمات
المميِّزة لكل شاعرٍ صوفىٍّ على حِدَّة . كهذا
الولع بالتصغير والجناس الذى نجده فى شعر ابن
الفارض وجمود اللفظ وتوالى المترادفات عند ابن
عربى والخيال الواسع ورقة التصوير عند عفيف الدين
التلمسانى والتدفق الإبداعى عند جلال الدين
الرومى.. وغير ذلك ؛ إلا أن هذه السمات الخاصة
بأبيات كل شاعرٍ منهم ، لاتخرج عن الخصائص العامة
للشعر الصوفىِّ ، وإنما تنضاف إليها .