مما ورد في كتاب (عيار الشعر ) لابن طباطبا العلوي قوله في تأليفه الشعر:
ينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فضلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت، فلا يباعد كلمة من أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد كل مصراع، هل يشاكل ما قبله؟، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إلا من دق نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشعر من جهة الرواة والناقلين له فيسمعون على جهة ويؤدونه على غيرها سهواً، ولايتذكرون حقيقة ما سمعوه منه، كقول أمرئ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
هكذا الرواية وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النسج فكان يروي:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم وأتبطن كاعباً ذات خلخال
وكقول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحاً
كتاركة بيضها في العراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقال الفرزدق:
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب اذاعته رياح السمائم
كان يجب أن يكون بيت لابن هرمة مع بيت للفرزدق، وبيت للفرزدق مع بيت لابن هرمة فيقال:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحا
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم
ويقال:
وإنك إذا تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعاً وإلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له. وإذا تأملت أشعار القدماء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع. كقول طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم ارفد
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، كقول الأعشى:
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فيأف تنوفات وبهماء خيفق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله.
وكقوله:
أغر أبيض يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول وإن كان كل واحد منهما قائماً بنفسه. وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نفض تأليفها، فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة، وجزالة ألفاظ، ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطناه في أول الكتاب، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً، كالأشعار التي استشهدنا بها في الجودة والحسن واستواء النظم، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها. فإذا كان الشعر على هذا المثال سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها رواية، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه إصراراً يوجبه تأسيس الشعر كقول البحتري:
سليل البيض قبرها فأقاموا ... لظباها التأويل والتنزيلا
فيقتضي هذا المصراع أن يكون تمامه: وإذا سالموا أعزوا ذليلا وكقوله:
أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فداؤك ما أبقيت مني فإنه ... حشاشة صب في نحول عظامي
صلي مغرماً قد واتر الشوق دمعه ... سجاما على الخدين بعد سجام
فليس الذي حللته بمحلل.
يقتضي أن يكون تمامه: وليس الذي حرمته بحرام.
وأحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى الذي أريدت له ويكون شاهدها معها لا تحتاج إلى تفسير من غير ذاتها كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمت يا عمرو لو نبأك ... إذاً نبها منك داه عضالا
إذا نبها ليث عريسة ... مقيتاً، مفيداً نفوساً ومالا
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
فتأمل تنسيق هذا الكلام وحسنه. وقولها مقيتاً ثم فسرت ذلك فقالت نفوساً ومالا، ووصفته نهاراً بالشمس، وليلاً بالهلال، فعلى هذا المثال يجب أن ينسق الكلام صدقاً لا كذب فيه، وحقيقة لا مجاز معها فلسفياً كقول القائل:
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا دار أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي؟
ينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فضلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت، فلا يباعد كلمة من أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد كل مصراع، هل يشاكل ما قبله؟، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إلا من دق نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشعر من جهة الرواة والناقلين له فيسمعون على جهة ويؤدونه على غيرها سهواً، ولايتذكرون حقيقة ما سمعوه منه، كقول أمرئ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
هكذا الرواية وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النسج فكان يروي:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم وأتبطن كاعباً ذات خلخال
وكقول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحاً
كتاركة بيضها في العراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقال الفرزدق:
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب اذاعته رياح السمائم
كان يجب أن يكون بيت لابن هرمة مع بيت للفرزدق، وبيت للفرزدق مع بيت لابن هرمة فيقال:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحا
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم
ويقال:
وإنك إذا تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعاً وإلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له. وإذا تأملت أشعار القدماء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع. كقول طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم ارفد
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، كقول الأعشى:
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فيأف تنوفات وبهماء خيفق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله.
وكقوله:
أغر أبيض يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول وإن كان كل واحد منهما قائماً بنفسه. وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نفض تأليفها، فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة، وجزالة ألفاظ، ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطناه في أول الكتاب، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً، كالأشعار التي استشهدنا بها في الجودة والحسن واستواء النظم، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها. فإذا كان الشعر على هذا المثال سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها رواية، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه إصراراً يوجبه تأسيس الشعر كقول البحتري:
سليل البيض قبرها فأقاموا ... لظباها التأويل والتنزيلا
فيقتضي هذا المصراع أن يكون تمامه: وإذا سالموا أعزوا ذليلا وكقوله:
أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فداؤك ما أبقيت مني فإنه ... حشاشة صب في نحول عظامي
صلي مغرماً قد واتر الشوق دمعه ... سجاما على الخدين بعد سجام
فليس الذي حللته بمحلل.
يقتضي أن يكون تمامه: وليس الذي حرمته بحرام.
وأحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى الذي أريدت له ويكون شاهدها معها لا تحتاج إلى تفسير من غير ذاتها كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمت يا عمرو لو نبأك ... إذاً نبها منك داه عضالا
إذا نبها ليث عريسة ... مقيتاً، مفيداً نفوساً ومالا
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
فتأمل تنسيق هذا الكلام وحسنه. وقولها مقيتاً ثم فسرت ذلك فقالت نفوساً ومالا، ووصفته نهاراً بالشمس، وليلاً بالهلال، فعلى هذا المثال يجب أن ينسق الكلام صدقاً لا كذب فيه، وحقيقة لا مجاز معها فلسفياً كقول القائل:
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا دار أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي؟