لعل من المفيد جدا ان نأخذ بدراسات الاولين وأبحاثهم في صناعة الشعر وادواته لذا راق لنا ان نطلع على ما جاء في كتب الاقدمين من اشارات الى كيفية البناء الشعري وصياغته ومن قبيل المثال نأخذ مثلا ماقاله
ابن طباطبا العلوي في كتابه (عيار الشعر) :
إذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه؛ بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها. ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، يستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويت ويسديه وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه، وكالنقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين الرائق، ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها. وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القيادة، ويقف على مراتب القول، والوصف في فن بعد فن، ويتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته وحكاياته، ويحضر لبه عند كل مخاطبة ووصف، فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها بالعامة، كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك. ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجة وإبداع نظمه.
ويسلك منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق، ومن وصف الرعود والبروق إلى وصف الرياض والرواد ومن وصف الظلمان والأعيار إلى وصف الخيل والأسلحة، ومن وصف المفاوز والفيافي إلى وصف الطرد والصيد، ومن وصف الليل والنجوم إلى وصف الموارد والمياه والهواجر والآل، والحرابي والجنادب. ومن الافتخار إلى اقتصاص مآثر الأسلاف، ومن الاستكانة والخضوع إلى الاستعتاب والاعتذار، ومن الإباء والاعتياض إلى الإجابة والتسمح، بألطف تخلص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به وممنزجاً معه، فإذا استقصى المعنى وأحاطه بالمراد الذي إليه يسوق القول بأبسر وصف وأخف لفظ لم يحتج إلى تطويله وتكريره.
والشعر على تحصيل جنسه ومعرفة أسمه، متشابه الجملة، متفاوت التفصيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم، وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس؛ ومواقعها من اختيار الناس إياها كمواقع الصور الحسنة عندهم، واختيارهم لما يستحسنونه منها. ولكل اختيار يؤثره، وهوى يتبعه، وبغية لا يستبدل بها ولا يؤثر سواها.
وقد جمعنا ما اخترناه من أشعار الشعراء في كتاب سميناه تهذيب الطبع يرتاض من تعاطى قول الشعر بالنظر فيه، ويسلك المنهاج الذي سلكه الشعراء، ويتناول المعاني اللطيفة كتناولهم إياها، فيحتذي على تلك الأمثلة في الفنون التي طرقوا أقوالهم فيها.
فمن الأشعار أشعار محكمة متقنة الألفاظ حكيمة المعاني، عجيبة التأليف إذا نقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها. ومنها أشعار مموهة، مزخرفة عذبة، تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحاً، فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها، وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه، فبعضها كالقصور المشيدة، والأبنية الوثيقة الباقية على مر الدهور، وبعضها كالخيام الموتدة التي تزعزعها الرياح، وتوهيها الأمطار، ويسرع إليها البلى، ويخشى عليها التقوض.
ابن طباطبا العلوي في كتابه (عيار الشعر) :
إذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه؛ بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها. ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، يستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويت ويسديه وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه، وكالنقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين الرائق، ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها. وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القيادة، ويقف على مراتب القول، والوصف في فن بعد فن، ويتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته وحكاياته، ويحضر لبه عند كل مخاطبة ووصف، فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها بالعامة، كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك. ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجة وإبداع نظمه.
ويسلك منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق، ومن وصف الرعود والبروق إلى وصف الرياض والرواد ومن وصف الظلمان والأعيار إلى وصف الخيل والأسلحة، ومن وصف المفاوز والفيافي إلى وصف الطرد والصيد، ومن وصف الليل والنجوم إلى وصف الموارد والمياه والهواجر والآل، والحرابي والجنادب. ومن الافتخار إلى اقتصاص مآثر الأسلاف، ومن الاستكانة والخضوع إلى الاستعتاب والاعتذار، ومن الإباء والاعتياض إلى الإجابة والتسمح، بألطف تخلص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به وممنزجاً معه، فإذا استقصى المعنى وأحاطه بالمراد الذي إليه يسوق القول بأبسر وصف وأخف لفظ لم يحتج إلى تطويله وتكريره.
والشعر على تحصيل جنسه ومعرفة أسمه، متشابه الجملة، متفاوت التفصيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم، وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس؛ ومواقعها من اختيار الناس إياها كمواقع الصور الحسنة عندهم، واختيارهم لما يستحسنونه منها. ولكل اختيار يؤثره، وهوى يتبعه، وبغية لا يستبدل بها ولا يؤثر سواها.
وقد جمعنا ما اخترناه من أشعار الشعراء في كتاب سميناه تهذيب الطبع يرتاض من تعاطى قول الشعر بالنظر فيه، ويسلك المنهاج الذي سلكه الشعراء، ويتناول المعاني اللطيفة كتناولهم إياها، فيحتذي على تلك الأمثلة في الفنون التي طرقوا أقوالهم فيها.
فمن الأشعار أشعار محكمة متقنة الألفاظ حكيمة المعاني، عجيبة التأليف إذا نقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها. ومنها أشعار مموهة، مزخرفة عذبة، تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحاً، فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها، وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه، فبعضها كالقصور المشيدة، والأبنية الوثيقة الباقية على مر الدهور، وبعضها كالخيام الموتدة التي تزعزعها الرياح، وتوهيها الأمطار، ويسرع إليها البلى، ويخشى عليها التقوض.