بسم الله الرحمن الرحيم
البحث عن نخبة داخل النخبة
عالم سبيط النيلي
يبدو أن لكل جيلٍ غرورٌ كامنٌ يجعله يعتقد انه فتح أبواباً من المعرفة لم يستطع الأوائلُ الولوجَ في مثلها، واكثر ما يكون هذا الشعور لدى النخبة بمختلف فروعهم العلمية والأدبية والإنسانية.
وأذا كان هذا الشعور ملائماً للطبيعة التطورية لهذا الكائن وسمةً حسنةً من سمات الرواد في كل عصرٍ، فهو علامةٌ على (الجمود) من جهة أخرى، حينما تكون الأبواب الجديدة مجرد بنىً فوقيةٍ قائمةٍ على نفس المبادئ القديمة. ومن شأن ذلك أن يجعل (العقل الجماعي) الذي يعي الأشياء بطريقة خاطئة أحياناً، والذي تتخبَّط فيه فصيلةٌ كاملة من هذا الخلق كما هو مقرر في علم الاجتماع.. من شأن هذا العقل أن تنتقل عدواه إلى النخبة نفسها.
وبدلاً من الجمود على مفاهيم خاطئة كما هو الحال عند العوام، من الممكن جداً رؤية مفاهيم أخرى (راقية) ، جمدت عليها النخبة دهراً طويلاً من غير أن تلاحظَ أن التناقضات فيها أكبرَ وأشدَّ خطورة من تناقضات العوام، فيغطي شعورها بأنها من النخبة أو هي النخبة على شعورها بتلك التناقضات.
ويكون الانتباه إلى هذا الأمر أقلَّ احتمالاً حينما يكون واجب النخبة الرصد والنقد كما في نخبة النقد الأدبي مثلاً، حيث يكون واجب (نقد النقد) في أحسن الأحوال هو التنبيه إلى الفوارق أو الأخطاء في أساليب النقد لا إلى أسس النقد نفسه. فهذه النخبة مثلاً تختار النص بشرط فئويٍّ أو بأسلوبٍ انتقائيٍّ يضمن لها عدم التصادم مع ما تشعر بأنه من اختصاص نخبة أخرى – كما في النصوص التي لها صلةٌ بالفكر الديني أو الغيبيات أو العقائد، مع أن تلك النصوص هي نصوصٌ أدبيةٌ من الطراز الراقي ضمن المعايير النقدية. فهي أذن تهجر النصوص التي تبدو أنها غير أدبية هجراناً مؤكداً بالرغم من أن الناقد بالمعنى الأدقّ حاكمٌ على كل إبداعٍ أو نشاطٍ إنسانيٍّ ذي تأثيرٍ معيَّنٍ على الخَلْقِ محدَّدٍ بنصٍّ. وهذا يقودنا إلى أنَّ المعايير التي تحدِّدُ ما هو النص الأدبي هي نفسها بجاجةٍ إلى المراجعة.
وهناك أمر آخرٌ أكثر خطورة كأن يتحوَّل العمل النقدي كما في هذا المثال إلى أن يكون هدفاً بحدِّ ذاته. وإذا كان الأمر كذلك فسرعان ما يتحوَّل الأدب نفسه عن وجهته ليكون غايةً في ذاته هو الأخر، وذلك للعلاقة (الترقبية) بينهما التي أعني بها أن المبدعَ يترقَّب ردوَدَ الفعل، والناقدَ يترقَّب منه التغيُّر، وهي أحسن أحوال التأثير المتبادل بينهما.
وإذا اجتمع الأمران – أي إذا كان كلٌّ منهما غايةً في ذاته انفصمت العلاقة (الترقبية) وحدث ضياعٌ من الجهتين، والذي قد يستمر حقبةً طويلةً قبل أن يفيق أحدٌ من سباته، ويعلنَ أن كلَّ ما قد قيل يُعَدُّ إسرافاً في القراطيس لا غير.
إنَّ الفكرة التي يطرحها هذا الموجزُ للبحث تتلخَّصُ في السؤال الآتي:
هل إنَّ العالم الحالي يروق لك؟
وإذا كان الجواب: نعم.. فلتترك أذن الحديث عن المعاناة والتغيُّر، ومن ثمَّ الإبداع والنقد.
وإن كان الجواب:لا.. فلتبحث إذن عن عالمٍ جديدٍ، ولكن بشرط أن تكون أنت جديداً أو في أسوا الأحوال مستعداً للتجدُّد كلما اقتضت ضرورةُ العالم الجديد ذلك.
يتبع..