السلام عليكم و رحمة الله و بركاته :::
الأصول اللســانيــة في المصادر العربية ـــ د. محمد كشّاش
مقدمـــة :
الإنسان بشكل عام ينظر إلى نهايات الأمور لا إلى بداياتها، وإلى أواخر الأشياء لا إلى أوائلها ومبدئها. يجني الثمرة ويحكم على طعمها ويثني على بائعها، ويغضّ النظر عن زارعها ومستنبتها. ويلقي الطَّرْف على لوحة زيتية، فيمدح قماشها وخاماتها، ويعترف بفضل صانعها، من دون النظر إلى جهوده، وما كابده في إخراجها؛ لذلك تراه يناقش في ثمنها، بالنظر إلى كلفة موادها وخاماتها… والأمور في الحياة على النمط المذكور تدور. والذي حمل الناس على هذا السلوك، نظرتهم إلى خواتم الموجودات؛ فبنوا حكمهم على الظاهر وأهملوا الباطن، فضلاً على عدم الحاجة إلى التتبع والتعمق، والانصراف إلى التدبر والتحقق.
إلى جانب أساس آخر، يتمثل في بروز عقدة نقص العربي تجاه الغربي، وشعوره بالتقصير والدونية، فينسب كثيراً من مبادئ العِلْم وبذوره الأولى إليهم، حجته تطورهم التقني وارتفاع مستواهم الحضاري، وتوفر إمكانيات الاختراع والنيّة على الاكتشاف والابتكار والإبداع… مع أن في آبار العربية كثيراً من الإشارات، والمبادئ والأغراس التي تشير إلى أسس علوم أينعت في الأيام الحاضرة… ولم يكن هناك مَنْ ينتدب نفسه لتثميرها واستخراج مدّخرات آبارها؛ فسبقنا غيرنا إلى الريادة، وكتب لنفسه السيادة، وبقينا في الخلف نعاني العجز، وندعي القصور وعدم القيادة. من شواهد العلوم، التي عملت على إنضاجها الإشكالية المتقدمة، اللسانية أو الألسنية (Linguistic) عامة والعلامية (Semiology) خاصة. هل عرف العرب العلوم المذكورة في ميدان الدراسات اللغوية؟! أم اكتفوا بالنحو والصرف؟! فظهرت اللسانية من جنى الحضارة الغربية؟! وإذا كان الأمر كذلك، كيف تمكنوا من التواصل وعرفوا التعبير بالإشارات والعلامات التي تمت إلى السيمياء (Semiology)؟؟! عند انتفاء معرفتهم السيمياء، تسقط مصداقية الدراسة ((اللغة والحواس))!!…، وتتلاشى فرضية البحث؛ لاستنادها حينئذٍ إلى الحدس؟!
العلامية: مفهومها، نشأتها وتطورها
السيمياء أو نظام العلامات، علم يبحث في اللغات والإشارات والتعليمات.. الخ. وبالتعريف المذكور ظهرت ثلاثة اتجاهات. الأول ترأسه دوسوسير (De Saussure) الذي اعتبر اللغة المنطوقة والمكتوبة جزءاً من السيمياء، قال : اللسان عبارة عن نسق من الدلالات التي تعبر عن المعاني، ومن ثم يمكن مقارنته بالكتابة وبالأحرف الأبجدية عند المصابين بالصمم والخرس، وكذلك مقارنته بالطقوس الرمزية وبأشكال الآداب وسلوكها، وبالإشارات المتعارفة عند الجنود وغير ذلك. ويرتئي دوسوسير جعل السيمياء –وهو العلم- برأيه- الذي يدرس حياة الرموز والدلالات المتداولة في الوسط المجتمعي- جزءاً من علم النفس العام… والاتجاه الثاني يمثله شارل بيرس (Peirce) وهو رجل منطق وفلسفة، ارتأى نظرية عامة في العلامات دعاها ((السيميوتيك)) (Semiotique) أو السيمياء معتبراً فيها: أن المنطق في معناه العام، هو مذهب علامات شبه ضروري كما حاولت أن أظهره.. وأضاف إنه لم يكن باستطاعتي يوماً ما دراسة أي شيء –رياضيات كان أم أخلاقاً.. أم تاريخ علوم..- دون أن تكون الدراسة سيميائية .. وثمة اتجاه تزعمته فئة اعتبرت الفنون والآداب أشكال اتصال تعتمد على أنظمة العلامات، التي صدرت بدورها عن نظرية عامة للعلامة.
ومهما يكن من أمر الاتجاهات السابقة، فإن الأدق منها والأكثر تداولاً مذهب غيرو
(Guiraud)، وهو: ((الدراسة التي تتناول العلامات غير الألسنية)) .
ترتب على افتراق علماء اللسانية في تحديد السيمياء، اختلاف حدود العلامات، فمنهم من جعلها ضيقةً مثل كلاوس (G.Klaus) الذي قصر مجاله على الألفاظ، وآخرون توسعوا قليلاً منهم مورس (ch. Morris) وسيبيوك (Th. Sebeok) اللذان وضعا تحت لوائه العلامات التي يستعملها الحيوان. وتعدى آخرون الحدود المرسومة متوسعين في دلالة السيمياء إلى مجال اشتمل على الاتصال بين الخلايا الحية
(Bionique)، وما بين الآلات سيبرنتيكا
(cybernetique)، بالإضافة إلى الاتصال الحيواني (Zoo semiotique((])…
عدّ إيكو (U.Eco) الحقول التي يتضمنها السيمياء، وما يدخل تحت نطاقها، فجاءت على نحو: علامات الحيوانات، علامات الشم، الاتصال بواسطة اللمس، مفاتيح المذاق، الاتصال البصري، أنماط الأصوات والتنغيم
(Intonation)، التشخيص الطبي، حركات وأوضاع الجسد، الموسيقى، اللغات الصورية، اللغات المكتوبة، الأبجديات المجهولة، قواعد الآداب، الايديولوجيات، الموضوعات الجمالية والبلاغة.. وهي بجملتها مواضيع تمت إلى السيمياء بصلة كبيرة.
برزت الدراسات السيميائية، بالنظر إلى المراجع، منذ ما يقارب منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وذلك أن دوسوسير (1857-1913م) وبيرس (1839-1944م) كانا من مؤسسيها. ثم استمرت في النمو والازدهار، ولما تزل حركتها ناشطة، ودراساتها مشعبة… وقد رددت المراجع تاريخ نشأتها المذكور، جاء في أحدها: ((إن محاولة تأسيس نظرية موحدة شاملة للعلامات لم تقم إلا في أوائل القرن العشرين على يد الفيلسوف الأميركي بيرس (Pierce) من جهة، والعالم الألسني السويسري دوسوسير (De Saussure) من جهة أخرى..)). وفي المرجع نفسه، ورد مثل القول المتقدم: ((من الستينات ومجال علم السيمياء يُظهر نشاطاً متزايداً على كافة الصعد. ففي أكثر من بلد أخذت تتألف جمعيات
تُعنى بهذا العلم، أقدمها الجمعية
الدولية للدراسات السيميائية (1969)
(International Association For Semiotic Studie(]). وكذلك ورد في المراجع الأجنبية ما يصب في الخانة نفسها. قال غيرو (Guiraud): ((هكذا نشأت منذ بداية هذا العصر –القرن العشرين- النظرية العامة للعلامات)) .
والقراءة المتأنية للتحديدات الزمانية التي تخصّ نشأة العلامات أو السيمياء تقرّ بأن علماء العربية وسواهم لم يعرفوا مثل الدراسات المذكورة، يترتب عليه أن التعبير بالعلامات ضرب من الوهم، ومعه تسقط مصداقية الكتاب. ولكن الغوص عميقاً في بطون مصادر النحو والبلاغة والفلسفة العربية، وسبر أعماقها والوصول إلى أبعد غور فيها، يبدل وجه الأقوال السابقة، ويظهر الحقيقة بأجلى حلتها.
لقد عرفت الحضارة العربية علم العلامات، ومارسه الناس في حياتهم، واعتمدوا عليه في اتصالاتهم، قبل أن يقعدوا قواعده، ويضعوا أصوله. من طليعة تبليغهم بالعلامات ما ورد في حديث أبي بكر حين عهد إلى عمر (رضي الله عنهما) بالخلافة، قال: ((كُلُّكُم ورِمَ أنْفُهُ)) ، أي اغتاظ؛ لأن المغتاظ يورم أنفُهُ ويَحْمَر. فقد عبر أصدق تعبير، وأكثره لياقة عما أصاب الحاضرون من حسد وغيرة عن طريق ما علت أنوفهم من احمرار… وهي لفظة إشارية تحكي الواقع بصدق ويقين.
ومن الممارسة العملية-الطبيعية، إلى رحاب الدراسات الجادة المنهجية، تطل دراسة الجاحظ (ت 255هـ/869م) التي تعتبر بحقّ بحثاً سيميائياً أصيلاً. قال في باب البيان: ((والبيان اسمٌ جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يُفْضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أيَّ جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري القائل والسامع، إنما هو الفَهْم والإفهام، فبأي شيء بلغتَ الأفهامَ وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع)) . ولما كان الهدف عند الجاحظ ((إنما هو الفهم والإفهام))، وهو يحتاج إلى علامات تنقله ((فبأي شيء بلِّغْتَ الأفهام وأوضحت عن المعنى))، برزت عنده العلامات التي تنقل المعنى. وهي تدور ما بين لفظ وغير لفظ، قال الجاحظ معدداً العلامات والإشارات التي تدل على المعاني: ((وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ ثم الإشارة، ثم العَقْد ثم الخط ثم الحال التي تسمى نِصْبةً)) .
وتحقيقاً لعلم العلامات، راح يفصل الإشارات التي تنقل المعاني المختلفة، ويشرح كيفيتها، وتطورها مستجيبة للدواعي الحضارية. فالإشارة تكون باليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب، أما إذا تباعد الشخصان فبالثوب وبالسيف. وتختلف دلالات إشارة السيف، فقد يتهدد رافع السيف والسَّوط؛ فيكون زاجراً ومانعاً رادعاً، ويكون وعيداً وتحذيراً. ويحدد الجاحظ المواقف الاجتماعية التي تستدعي التعبير بها، على نحو قوله: وفي الإشارة بالطَّرْف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس من بعض ويُخْفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص.
والعَقْد الحساب، وهو دون اللفظ والخط، قال البغدادي مفسراً إياه: ((والعَقْد نوع من الحساب يكون بأصابع اليدين، يقال له حساب اليد. وقد ورد منه في الحديث: وعقد عقد التسعين..)) . وهو يشتمل على معانٍ كثيرة ومنافع جليلة.
أما النَّصْبة فهي الحال الناطقة بغير لفظ، والمشيرة بغير يد. من أمثلتها في نطق الجماد بدلالة الحال، قول الفضل بن عيسى بن أبان: ((سَلِ الأرضَ فَقُلْ: مَنْ شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبكَ حواراً، أجابتك اعتباراً)) .
وبجملة الإشارات والعلامات يتمكن الإنسان من الإفصاح في غير مقام. وعند الجهل بإحداها، يخرج السلوك اللغوي إلى البوار: ((ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله عزّ وجلّ الحساب في الآخرة، وفي عدم اللفظ وفساد الخط والجهل بالعَقْد فساد جُلّ النِّعَم، وفقدان جمهور المنافع، واختلال كل ما جعله الله عزّ وجلّ لنا قواماً، ومصلحة ونظاماً)) .
وتخطى الجاحظ مبادئ العلامات إلى غير كتاب من كتبه، كالحيوان الذي أجمل فيه ما فصله في البيان..
وعلى هَدْي الجاحظ، جاءت مباحث ابن قتيبة (ت276/889م) في العلامات. أورد في كتاب ((العِلْم والبيان)) الوسائل غير اللفظية التي تمكن من تبليغ المقاصد، على نحو: الاستدلال بالعين والإشارة والنصبة. من أمثلة الاستدلال بالعين، معرفة الحب والبغض من خلال حركة العين، حجته قول الأعرابي: [من البسيط]
إِنْ كَاتَمُونَا القِلَى نَمَّتْ عُيُونُهُم
والعَيْنُ تُظْهِرُ مَا فِي القَلْبِ أو تَصِفُ
ثم أتى بشاهد الجاحظ عند الاستلال على النصبة، أو الحال الناطقة بالهيئة والوضعية.
وارتقت السيمياء إلى درجة أصبح لكل موقف إشاراته التي تخصه، وهي تقوم مقام ألفاظه. فمواقف العشق والحب –على سبيل المثال لا الحصر- لها علاماتها، التي كثيراً ما لهج بها الشعراء والأدباء، وتناولها الناس.. فمن علاماتها التي سجلها ابن عبد ربه (ت328هـ/940م): [من الطويل]
ولِلحُبِّ آياتٌ إِذَا هِيَ صَرَّحَتْ
تَبَدَّتْ عَلاَمَاتٌ لَهَا غُرَرٌ صُفْرٌ
فَبَاطِنُهُ سُقْمٌ وظَاهِرُهُ جَوَى
وَأَوَّلُهُ ذِكْرُ وآخِرُهُ فِكْرُ
وجدّوا أكثر لاستخراج علامات، يعرفون بواسطتها العاشق الولهان من غيره، فأضافوا بسعيهم الحثيث أمارات أخرى، منها لَجْلَجة اللسان، والاعتلال بالحَصْر والعِي، على حد قول أحمد بن أبي طاهر: [من الطويل]
عِتَاباً كَأَيَّامِ الحَيَاةِ أعدُّهُ
لأَلْقَى بهِ بَدْرَ السَّمَاءِ إِذَا حَضَرْ
فَإِذَا أَخَذَتْ عَيْنِي مَحَاسِنَ وَجْهِهِ
دُهِشْتُ لِمَا أَلْقَى فَيَمْلِكُنِي الحَصَرْ .
واستدلوا على العاشق بعلامة أخرى تتمثل في دموع العين. وقد ارتقت إشارة الدموع إلى درجة باتت معه سمة من سمات العاشق، جسّدها الشعار المعروف ((لسان كتوم ودمع نموم)). ومن استعماله في الشعر ما أنشده الجُنَيْد: [من المتقارب]
لِسَانِي كَتُومٌ لأَسْرَارِكُم
ودَمْعِي نَمُومٌ لِسِرّي مُذِيعْ
وَلَوْلا دُمُوعِي كَتَمْتُ الهَوَى
وَلَوْلاَ الهَوَى لمْ تَكُنْ لِيْ دُمُوعْ
وبلغ اهتمام العرب بالدراسات السيميائية مبلغاً، خصّوا فيه الحقول الدلالية بعلامات معينة، تعرف بها، ويتواصل عبرها. من أبرزها ميدان الحب، الذي أجملوا علاماته، بعدما كانت أشتاتاً متفرقات، تنقل على كل شفة ولسان. عقد ابن قيم الجوزية باباً أسماه ((في علامات المحبة وشواهدها))، يستدل بها عليها، منها: إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه، وإغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرْفِهِ نحو الأرض، وذلك من مهابته له، وحياؤه منه وعظمته في صدره، ومها أيضاً كثرة ذِكْر المحبوب واللهج بذكره وحديثه، والانقياد لأمر المحبوب وإيثارُهُ على مراد المحب، وقلة صبر المحبّ عن المحبوب، والإقبال على حديثه وإلقاء سمعه كلِّه إليه ... وهي علامات نفذ فيها ابن قيم الجوزية إلى أعماق النفس، واستخرج دفائنها وأتى بكنوزها وكشف عن خفاياها كأعظم ما يأتيه المحلل النفسي اليوم، يشهد له حديثه في أحد العلامات، قال: .. ومنها البَهَتُ والروعة التي تحصل عند مواجهة الحبيب . أو عند سماع ذكره، ولا سيما إذا رآه فجأةً أو طلع بغتةً، كما يقول الشاعر: [من الطويل]
فَمَا هُوَ إِلاَّ أنْ أرَاهَا فُجَاءَةً
فَأَبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
فَأَرْجِعُ عَنْ رَأْيي الّذِي كانَ أوَلاً
وأَذْكُر مَا أعْدَدْتُ حِينَ تغيبُ
وربما اضطرب عند سماع اسمه فجأةً.. وقد اخْتُلِفَ في سبب هذه الرَّوْعَة والفزع والاضطراب، قيل: سببه أن للمحبوب سلطاناً على قلب محبه أعظم من سلطان الرعيَّة، فإذا رآه فجأةً راعه ذلك ما يرتاع مَنْ يرى مَنْ يُعَظِّمُهُ فجأة، فإن القلب معظِّمٌ لمحبوبه خاضع له، والشخص إذا فجِئه المعظَّم عنده راعه ذلك. وقيل: سببه انفراج القلب له، ومبادرته إلى تلقِّيه فيهرب الدم منه فيبرد ويرعد ويحدث الاصفرار والرِّعدة..
واتسعت ملاحظات علماء العربية لتشمل ميادين أخرى، منها معرفة الكاذب من المنافق بعلامات، كنبرة الصوت، وإيقاع كلامه، يؤازره قوله جلّ اسمه: {فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} [محمد:30]. وفيه دلالة بليغة، تحمل العلامة ((سيماهم)) وآلتها ((لحن القول)). واختلاف النغمات والأصوات تبعاً لاختلاف المقاصد والأغراض مبدأ معروف عند علماء العربية. أشار الأصفهاني إليه بقولـه:
((.. فاختلاف الألسنة إشارة إلى اختلاف اللغات وإلى اختلاف النَّغَمات، فإنّ لكل إنسان نغمة مخصوصة يميّزها السَّمْع كما أن له صورة مخصوصة يميّزها البصر)) .
حكت المظاهر المتقدمة، معرفة علماء العربية بعِلْم العلامات (السيمياء)، ووضع أصوله، واعتماده في سلوكهم التعبيري. ولا أدل على حذقهم له، وسبقهم إليه من ركيزة واحدة تتمثل في استعمال مصطلحاته، وهي:
1- ((السيمياء)) بمعناه اللغوي المقابل ((للعلامات)) مصطلح عربي، استعمل في الميدان اللغوي المتداول اليوم، يشهد له قول الراغب الأصفهاني (ت 502هـ/1108م) في أثناء تفسيره الآية الكريمة: {وَمِنْهُ شجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10]، قال: .. والسِّيماء والسِّيمياءُ العلامة، قال الشاعر: [من الطويل]
لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ .
2- اللسانية (Linguistic) أو الألسنية بحسب المترجمين، مصطلح عربي معروف في حقل الدراسات اللغوية، كما هو معروف اليوم. من شواهد استعماله ما أورده القرطبي (ت 671/11273م) في تفسيره، قال: سمّى الرسول r الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سِحْراً. وفي الموضع نفسه، قال في معرض تفسيره حديث الرسول r ((إن من البيان لسِحْراً)): فالرجل يكون عليه الحق وهو ألْحَنُ بالحجج من صاحب الحق فيَسْحَر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللِّسانة ما لم يخرج إلى حدّ الإسهاب والإطناب .
3-((الدال)) و((المدلول)) و((الدلالة)) مصطلحات لسانية تقابل ((Signifiant) و((Signifié)) و((Sémantique)) في اللغات الأوروبية، وهي مصطلحات متداولة في الدراسات العربية ومصادرها. أورد عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ/1078م) في دلائل الإعجاز استعمالها، قال: فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولاً في النطق… وتابع: وإن العِلْم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق. ومن شواهد استعماله مصطلح ((الدلالة))، قوله: وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف.. وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضمّ كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدلّ على معناها..واستعمالها في الحقل المذكور مطابق لاستعمال اليوم. وتعدى تداولها بيئة اللغويين إلى الفلاسفة. جاء في كتاب ابن سينا (ت 428هـ/1037م) جمع للمصطلحات المذكورة: ((.. وأما دلالة ما في النفس على الأمور فدلالة طبيعية لا تختلف، لا الدال ولا المدلول عليه، كما في الدلالة بين اللفظ والأثر النفساني، فإن المدلول عليه وإن كان غير مختلف، فإن الدال مختلف؛ ولا كما في الدلالة التي بين اللفظ والكتابة، فإن الدال والمدلول عليه جميعاً قد يختلفان)).
4-((علم اللغة)) المقابل للمصطلح الأجنبي
((Linguistic))، مصطلح متداول في بيئة اللغويين والنحويين، وقد استعمله –على سبيل المثال لا الحصر- الزمخشري في أثناء ذكره أصناف العلوم الأدبية، قال: ((اعلم أن العلوم الأدبية ترتقي إلى اثني عشر صنفاً، الأول: علم اللغة …)).
5- " معنى المعنى" يناظر المصطلح اللساني المعاصر meaning of meaning من رواد من استعمله في الدراسات العربية البلاغية الإمام عبد القاهر الجرجاني، قال موضحاً المصطلح، مفسراً استعماله بصورة جليةٍ:" الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده... وضرب آخر أنت لاتصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلّك على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ...منها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى، ومعنى المعنى، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك إلى معنى آخر".
وانتشار المصطلحات في التراث العربي دليل على معرفتها من جهة، وشيوع العلوم التي تخصّها من جهة ثانية، لأن المصطلح وعاء للعلم، ومن دونه لا يظهر المصطلح، ولا توجد دواع إليه. والذي يعزز ما نذهب إليه ملاحظة فايل (Weil) في مقدمة كتاب الإنصاف، قال عند كلامه على الفرّاء: ولكن الفرّاء لم يهتم إلا قليلاً جداً بالأخذ المتناقل في هذا العلم، بل يبدو عليه طابع مَنْ يؤسس فرقة، أو مذهباً خاصاً به، وهو يختلف عن سيبويه اختلافاً بيّناً… وكثيراً ما استعمل الفرّاء اصطلاحات تخالف الاصطلاحات المشهورة عند علماء النحو..وفيه إقرار بوجود اتجاه لغوي سيميائي –لساني عربي، بسبب وجود مصطلحاته وأوعيته..
وبالمادة المبيّنة، والمصطلحات المستعملة ثبتت معرفة العرب لعِلْم العلامات (السيميولوجيا)، وممارستهم إياه طبعية سليقة، وعن معرفة ودراية وحقيقة، كما في مباحث علامات الحب، وأمارات المنافق، وآيات الخائف..
وصفوة القول
كان لعلماء العربية إسهام فعالٌ في الدراسات السيميائية (العلامية) خصوصاً واللسانية بمصطلح اليوم عموماً. وهو جهد بدا بجلاء في وضع حجر أساس الدراسات المذكورة، ورسم خطتها، ثم تركهم للأجيال اللاحقة تثميرها وإتمامها ورفع بنائها. وإذا كان جهدهم التأسيسي محدوداً نسبياً، فهو يحاكي زمانه، ويساير مبدأ النشوء والارتقاء؛ لأن كل مبتدئ لشيء لم يُسْبق إليه، ومبتدع لأمر لم يُتَقَدَّم فيه عليه، يكون قليلاً، ثم يكثر، وصغيراً ثم يكبر.
لم نصدر في ما نقول عن تعصب، ولا عن قلة بحث وتنقيب وتعقب، بل نستند فيما نقول إلى الدليل، ويكون الحكم للمنطق والعقل، وعليهما التعويل. وأبرز عيّنة تشهد لصحة الإشكالية التي نقولها مصطلح ((سيمياء)) الذي انتقل بلفظه ودلالته إلى الانكليزية فكان
((Semiology)) وإلى الفرنسية فعرف بِـ
((Sémiologie))، وكذلك إلى الألمانية…
وإذا كان فيه إشارة ودلالة على جهد العرب في الدراسات اللغوية الحديثة، فله دلالة أخرى تقول بوحدة الحضارة الإنسانية، وإسهام المجتمعات فيها، وعدم احتكارها لجماعة دون أخرى، إلا بمقدار إسهامها وكمية جهودها.
لقد عرف العرب علم العلامات وأثْرُوا مباحثه، ولا أجلى لمعرفتهم فيه من أن آثار دراساتهم انعكست جلية في الدراسات المتأخرة. فرأي دوسوسير في السيميائية واعتباره اللغة جزءاً منها، وإلحاقها بعلم النفس عامة وعلم النفس الاجتماعي خاصة، صدى واضح القسمات لآراء الجاحظ، الذي اعتبر أصناف الدلالة خمسة ما بين لفظ وغير لفظ، جاعلاً اللغة من عناصر السيمياء، بالإضافة إلى حديثه عن المواقف التي ترتضي الشكل المعين من الأصناف المذكورة، وربطها بالمقام، وهو حديث علم نفس اجتماعي، من دون أن يسميه.
وبالإشارة المبينة، عسى أن يُرْفع الغبن عن إشكالية، وأن توضع النقاط على حل قضية، عايشها الدارسون وسلموا بما وصل إليهم من حقائق ، كانت محصلة الاستقراء الناقص والمنهج المبتور: