النقد بين الحداثة والتقليد
الكلمات ُ حُبلى بمعانيها والقابلاتُ تعبئ ُخاطرتها بالخوف وأشهـُرُ الولادة تجاوزت عدتها كالعادة مرتين فسُكبتِ التعابير ُفي المخاض ِمكسوة ً بالشبهات ِ المنطلقة ِ من فوهةِ ( تخالف تعرف) مازلنا نتبادلُ رشقاتِ الجدال ِتاركينَ أنفسنا وراء التقدم ِ الأدبي حتى تعرِضَ القناعة ُ مائدتها بعد فواتِ الأوان ِ هكذا رأينا الأمرَ من قبل في موضوع الحداثة وكيف نشبتِ الاجتهاداتُ بين المنطقِ والشبهةِ فحاجة ُ الزمنِ المُلحـَّة ِهي التي تقضي بإظهار ما هو حديث فقد اختلف الكثيرون في كينونة الحداثة فهل هي مخالفة العرفِ الأدبي أم هي مخالفة القاعدة الصرفية في اللغة وهل هي الخروج من التفاعيل إلى الحرية المطلقة في الشعر ومن صفة المتكلم إلى صفة الغائب في السرد ، فمنهم من يرى في كسر القاعدة الصرفية بدون مبرر علماً أن هناك جذرٌ يمكن نحتـُه ُ بصورة ٍعلمية ٍحتى يدركَ مقصدَهُ الأخير ومنهم من يرى الخروج عن العرف الأدبي هو مبرر لتطوير اللغة ويستشهد بلسان العامة من الناس وكيف وصلت الجيم إلى الياء وغالباً ما يروِّجُ هذه الاجتهادات الذين يعتـدُّون (بالمبدأ الاعتباطي) في اللغة أو المتأثرين به تاركين التطور التكاملي في قصديَّة ِ اللغة ومثالهُ ما نتحدث به ألان عندما نستخدم كلمة (أدب) فبدأت من (أدُبَ) هيـَّأ المأدبة فعُدَّ الكرمُ في طبيعتهِ من الأخلاق فآلت إلى مانعرفهُ ألان( أدب) فالشعر والقصة والرواية والنثر ..الخ مأدبة أخلاقية ٌيتغذى منها الفكر ، أما من يرى وجود الشعر النثري على طاولة الأدب هو عين ُ الحداثة بحجة أن شعرَ التفعيلة إذا ترجمَ سوف يترجمُ منثوراً فالقولُ بهذا ينطبقُ على باقي الأساليب الأدبية عندما تترجم وهي من النثر كالقصة والرواية والمقال ناهيك َ عن الشعر الشعبي ، نعم هو نقلة نوعية لكن الحقيقة هي الشاعريـَّة ُ كيفما وجدتْ في التفعيلة ِ أوفي النثر يعلن ُ من خلالها الكاتبُ انّهُ شاعر؛ فالحداثة ُ: هي تحديث ُ التعبير في الأساليب ِالأدبيةِ سواء كانت من شعر التفعيلة أو من الشعر النثري إضافة إلى الغرابة التي تشدُّ المتلقي من أول لحظة القراءة فدخلت القصة في الشعر كما دخلت اللغة الشعرية في القصة فالحداثة يجب أن تكونَ تطويراً منطقياً يـُقرأ من خلال اسطر الكاتب لا عبثي غايته ُ الشهرة ؛ أما أدب مابعد الحداثة فهو لا يختلف مع الحداثة بالتعبير لكنه يعاكسها في الاتجاه فالحداثة في كلِّ أزمانها المتسامية كانت تتناول النصف الأول من الذات الإنسانية /الإيثار/ التسامح / التواضع / التفاخر/ الرثاء ... الخ ، أما ما بعد الحداثة فقد تناولت النصف الثاني من الذات الإنسانية التي يكمن فيها جانب الخلود إلى أل (أنا) لكن بطريقة غير مباشرة فالكاتب يغوصُ في مكنوناتِ نفسه ِ ليكشف ما تختزنـُهُ الذاتُ الإنسانية من مثالبٍ وهو بالطبع يقصِدُ منْ يتصف بما اخرجَ من صفات ، وقد يقول قائل : إن هذا الأسلوب موجود كما في قول ألجواهري :
هيَ النفسُ نفسي يسقط ُ الكلُّ عندها إذا سلمتْ فليذهبِ الكونُ عاطبا
نعم إن الشاعر غاصَ في مكنونات نفسه وعرضها بطريقة جميلة لكن هذه الطريقة واضحة ويعـدُّها نقاد مابعد الحداثيين مباشرة في لون مابعد الحداثة .
كما هو في استقراء هالة كوثراني في تحليل شعر مابعد الحداثة لمقاطع لشاعرات هذا اللون ولآراء المفكرين:
شكل "ما بعد الحداثة" بالنسبة إلى المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار معضلة زمنية وفجوة في الزمان الذي صوّره المفهوم الحداثي على انه تتابع وتقدم. فليس ما بعد الحداثة كما يقول ليوتار، عصراً جديداً، بل هو إعادة كتابة لبعض المظاهر التي ادعت الحداثة فهمها وأهمها تأسيس شرعيتها على أساس أن الهدف منها هو الخلاص العام للبشرية. وما بعد الحداثة بالنسبة إلى ليوتار أيضا تأتي قبل وبعد الحداثة بمعنى أنها جزء من الخطاب الحداثي. فلا يكون العمل حداثياً إلا إذا كان ما بعد حداثي. ويقول ليوتار إن فكر ما بعد الحداثة ليس سوى صياغة لاسطيقاً ما بعد الحداثة التي بدورها تمثل انعكاساً لمجتمع ما بعد الحداثة. ولا شك في أن ثمة تغييرات لا تحصى طرأت على حياة الشاعر العربي في العقدين الأخيرين فسارع إلى التعبير عنها شعراً. وإذا تناولنا أعمال شاعرات عربيات بدأن كتابة الشعر في العقدين الأخيرين كميسون صقر ألقاسمي وإيمان مرسال وسوزان عليوان لرأينا مدى تأثرهن بما بعد الحداثة.
مقطع من قصيدة ميسون صقر :
سأعيد صياغة هذا المكان
ليكن هذا لكرسي في مكان آخر
سأستغني عن بعض الأثاث
والسعادة
وأكون من هذا المكان – مكاناً خاصاً
لا يحمل صياغة غير صياغتي
ولا تكوّنه الأشياء الكثيرة الثمينة
سأعيد ترتيبه بسيطاً
عبر تصوري
وسأجعل اختياره لي
لاحظ التعبير هنا غير مكشوف، أشارت الشاعرة إلى أفعال أل ( أنا ) من حيث تغيير الكرسي والأثاث وهما شيئان يرمزان إلى أشياء خاصة في العائلة ومن ثمَّ عامة كالدولة .
الشعر عن الذات
لقد عادت الذات الفردية إلى الشعر العربي لكنها عادت صغيرة في لايقينيتها وخوفها وترددها. وهي ذات قلقة ومأساوية تعاني الفصام والتشظي والخوف بعد سقوط الأفكار التي آمنت بها. فامتلأت بالشك تجاه العالم الخارجي الذي خذلها. وسيطر عليها الإحساس بعدم الانتماء إلى كيان واحد ثابت فرفضت التسليم بالمطلقات ولم تعد تعترف بها وراحت تدمرها ونجحت في التخلص من تقليد النموذج الأعلى. فتقول ميسون صقر في "السرد على هيئته":
البيت الذي ينام فيه الأب مستريحاً لأنه رب العائلة، وإلام التي تظل تطحن الشعير بالصبر والليالي كي يقوم ابنها من تشرنقه. وكي تزف ابنتها الوحيدة إلى حلم ، هو البيت الذي بلا ستائر يستريح الصوت فيه... فمن قال انه وطن كبير للعائلة تلك السائرة في دروب متآكلة...".
وهي ذات لا تثق في نفسها، مملوءة بالشك في ما تنجزه وتدعيه، كما تقول ميسون صقر في كتابها "السرد على هيئته". وهي تهزأ من نفسها وتتوقع الأسوأ دائماً ولا تتعامل مع أي وضع بوصفه خلاصاً، كما في شعر المصرية إيمان مرسال:
ربما الشباك الذي كنت اجلس بجانبه
كان يعدني بمجد غير عادي...
فكرت أن اسمّي شارعنا باسمي
شرط توسيع بيوته،
وإقامة غرف سرية،
بما يسمح لأصدقائي بالتدخين داخل أسرتهم
دون أن يراهم إخوتهم الكبار...
للأسف شيء ما حدث...
ثم أنني أرى نفسي كثيراً
بين غرفة النوم والحمام،
حيث ليس لدي معدة حوت،
لإفراغ ما اعجز عن هضمه.
وانتقلت إلى عالم خارجي آخر لا تسعى إلى إظهاره في معالم ناصعة، كما يقول أبو ديب، فلا تظهر منه سوى أشيائه المادية المحسوسة وتفاصيله وروائحه ومطره وشمسه وقمره وجباله وترابه وأشجاره كما في شعر سوزان عليوان:
كلما حط على كتفه طائر
تذكر الشجرة التي كأنها،د
مقعد منسي في حديقة
هذه الذات تنشغل باللحظة الراهنة دون أن تلتفت إلى المستقبل الذي لا يعنيها أو تهتم بالماضي إلا إذا كان ماضيها الشخصي الفردي القريب، إلا أنها ذات بلا ذاكرة تربطها بالعالم الخارجي بعدما تخلصت من ثقل التاريخ. هي ذات راهنة، اللحظة الراهنة زمنها وشعر اللحظة شعرها. فهي تدع اللحظة تمر عادية بهدوء ودون أن تناقش خلالها قضايا العالم الخارجي. هكذا يصبح الشعر انعكاساً للحظة الراهنة العادية البسيطة.
انه شعر التفاصيل اليومية التي حلت محل السرديات الكبرى فلجأ إلى القصص والممارسات الصغيرة والأحداث المحلية. شعر منشغل بالذات في لحظتها الراهنة لا يبث إلا هواجس الصوت المنفرد وهمومه.
شارعان في عناق، عند تقاطع
إشارة معطلة
تحملق في المارة بعين حمراء
تتواطأ الشاعرة مع ذاتها، فتنشغل في الذات الفردية وتغوص في ما تنتمي إليه هي وحدها، في تجربتها الخاصة. يبدو تفكير الشاعرة مستمر في ذاتها حتى تنغلق عليها، فتقول ميسون صقر في السرد على هيئته "تظل فرديتي هي الخاصة جداً والأحادية جداً". وتظهر حالة الفصام التي تعيشها هذه الذات، خصوصاً أنها تنتمي إلى امرأة خليجية أو عربية اختلفت عن النموذج الأعلى الذي كان عليها محاكاته، فهي تخرجُ عبر الشعر من سجن بني في وعيها.
ويظهر في هذا الشعر تعدد الأصوات وتداخل الأجناس الأدبية، فالشاعرة ترسم معالم قصة في قصيدتها وتلجأ إلى سردها في أسلوب يبتعد عن الشعرية وفي استخدام المفردات التي تنتمي إلى الحياة اليومية كما في شعر إيمان مرسال:
سنذهب معاً إلى مدينة الملاهي
وندخل بيت المرايا
لترى نفسك أطول من نخلة أبيك
وتراني بجانبك قصيرة ومحدبة.
سنضحك كثيراً بلا شك ....
هذه لمحات من هذا اللون الجديد في الشعر أما في سرد مابعد الحداثة فلم يتجرأ أدباء العرب على كتابتـِه ِ ومازال محصور بين أدباء أميركا لتخبـُّط المتشددين بشبهات عندما استشهدوا بقوله تعالى ( وكرمنا بني آدم ) ، فالتكريم هنا خَلقي لا خُلـُقي لأنه لو كان خُلـُقي لرفعَ الخطأ عن بني ادم ؛ فضلاً عما ذ ُكرَ أن هناك آيات ذكرت الإنسان بالذم ( ثمَّ رددناهُ أسفل سافلين ) و ( إن الإنسان لربهِ لكنود ) و( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر ) فقصدية ُ التكريم لبني آدم هي وجود العقل حكماً مابين النفس الأمارة والنفس اللوامة إضافة ً إلى جمال حسنِ التقويم ، فمتى نستشعر تداعيات الزمن في التحديث بعقلنا الراجح أو بتراثنا ألقراني فيضمنا المجد التليد إل[/size]ى أحضانه ؟.
الكلمات ُ حُبلى بمعانيها والقابلاتُ تعبئ ُخاطرتها بالخوف وأشهـُرُ الولادة تجاوزت عدتها كالعادة مرتين فسُكبتِ التعابير ُفي المخاض ِمكسوة ً بالشبهات ِ المنطلقة ِ من فوهةِ ( تخالف تعرف) مازلنا نتبادلُ رشقاتِ الجدال ِتاركينَ أنفسنا وراء التقدم ِ الأدبي حتى تعرِضَ القناعة ُ مائدتها بعد فواتِ الأوان ِ هكذا رأينا الأمرَ من قبل في موضوع الحداثة وكيف نشبتِ الاجتهاداتُ بين المنطقِ والشبهةِ فحاجة ُ الزمنِ المُلحـَّة ِهي التي تقضي بإظهار ما هو حديث فقد اختلف الكثيرون في كينونة الحداثة فهل هي مخالفة العرفِ الأدبي أم هي مخالفة القاعدة الصرفية في اللغة وهل هي الخروج من التفاعيل إلى الحرية المطلقة في الشعر ومن صفة المتكلم إلى صفة الغائب في السرد ، فمنهم من يرى في كسر القاعدة الصرفية بدون مبرر علماً أن هناك جذرٌ يمكن نحتـُه ُ بصورة ٍعلمية ٍحتى يدركَ مقصدَهُ الأخير ومنهم من يرى الخروج عن العرف الأدبي هو مبرر لتطوير اللغة ويستشهد بلسان العامة من الناس وكيف وصلت الجيم إلى الياء وغالباً ما يروِّجُ هذه الاجتهادات الذين يعتـدُّون (بالمبدأ الاعتباطي) في اللغة أو المتأثرين به تاركين التطور التكاملي في قصديَّة ِ اللغة ومثالهُ ما نتحدث به ألان عندما نستخدم كلمة (أدب) فبدأت من (أدُبَ) هيـَّأ المأدبة فعُدَّ الكرمُ في طبيعتهِ من الأخلاق فآلت إلى مانعرفهُ ألان( أدب) فالشعر والقصة والرواية والنثر ..الخ مأدبة أخلاقية ٌيتغذى منها الفكر ، أما من يرى وجود الشعر النثري على طاولة الأدب هو عين ُ الحداثة بحجة أن شعرَ التفعيلة إذا ترجمَ سوف يترجمُ منثوراً فالقولُ بهذا ينطبقُ على باقي الأساليب الأدبية عندما تترجم وهي من النثر كالقصة والرواية والمقال ناهيك َ عن الشعر الشعبي ، نعم هو نقلة نوعية لكن الحقيقة هي الشاعريـَّة ُ كيفما وجدتْ في التفعيلة ِ أوفي النثر يعلن ُ من خلالها الكاتبُ انّهُ شاعر؛ فالحداثة ُ: هي تحديث ُ التعبير في الأساليب ِالأدبيةِ سواء كانت من شعر التفعيلة أو من الشعر النثري إضافة إلى الغرابة التي تشدُّ المتلقي من أول لحظة القراءة فدخلت القصة في الشعر كما دخلت اللغة الشعرية في القصة فالحداثة يجب أن تكونَ تطويراً منطقياً يـُقرأ من خلال اسطر الكاتب لا عبثي غايته ُ الشهرة ؛ أما أدب مابعد الحداثة فهو لا يختلف مع الحداثة بالتعبير لكنه يعاكسها في الاتجاه فالحداثة في كلِّ أزمانها المتسامية كانت تتناول النصف الأول من الذات الإنسانية /الإيثار/ التسامح / التواضع / التفاخر/ الرثاء ... الخ ، أما ما بعد الحداثة فقد تناولت النصف الثاني من الذات الإنسانية التي يكمن فيها جانب الخلود إلى أل (أنا) لكن بطريقة غير مباشرة فالكاتب يغوصُ في مكنوناتِ نفسه ِ ليكشف ما تختزنـُهُ الذاتُ الإنسانية من مثالبٍ وهو بالطبع يقصِدُ منْ يتصف بما اخرجَ من صفات ، وقد يقول قائل : إن هذا الأسلوب موجود كما في قول ألجواهري :
هيَ النفسُ نفسي يسقط ُ الكلُّ عندها إذا سلمتْ فليذهبِ الكونُ عاطبا
نعم إن الشاعر غاصَ في مكنونات نفسه وعرضها بطريقة جميلة لكن هذه الطريقة واضحة ويعـدُّها نقاد مابعد الحداثيين مباشرة في لون مابعد الحداثة .
كما هو في استقراء هالة كوثراني في تحليل شعر مابعد الحداثة لمقاطع لشاعرات هذا اللون ولآراء المفكرين:
شكل "ما بعد الحداثة" بالنسبة إلى المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار معضلة زمنية وفجوة في الزمان الذي صوّره المفهوم الحداثي على انه تتابع وتقدم. فليس ما بعد الحداثة كما يقول ليوتار، عصراً جديداً، بل هو إعادة كتابة لبعض المظاهر التي ادعت الحداثة فهمها وأهمها تأسيس شرعيتها على أساس أن الهدف منها هو الخلاص العام للبشرية. وما بعد الحداثة بالنسبة إلى ليوتار أيضا تأتي قبل وبعد الحداثة بمعنى أنها جزء من الخطاب الحداثي. فلا يكون العمل حداثياً إلا إذا كان ما بعد حداثي. ويقول ليوتار إن فكر ما بعد الحداثة ليس سوى صياغة لاسطيقاً ما بعد الحداثة التي بدورها تمثل انعكاساً لمجتمع ما بعد الحداثة. ولا شك في أن ثمة تغييرات لا تحصى طرأت على حياة الشاعر العربي في العقدين الأخيرين فسارع إلى التعبير عنها شعراً. وإذا تناولنا أعمال شاعرات عربيات بدأن كتابة الشعر في العقدين الأخيرين كميسون صقر ألقاسمي وإيمان مرسال وسوزان عليوان لرأينا مدى تأثرهن بما بعد الحداثة.
مقطع من قصيدة ميسون صقر :
سأعيد صياغة هذا المكان
ليكن هذا لكرسي في مكان آخر
سأستغني عن بعض الأثاث
والسعادة
وأكون من هذا المكان – مكاناً خاصاً
لا يحمل صياغة غير صياغتي
ولا تكوّنه الأشياء الكثيرة الثمينة
سأعيد ترتيبه بسيطاً
عبر تصوري
وسأجعل اختياره لي
لاحظ التعبير هنا غير مكشوف، أشارت الشاعرة إلى أفعال أل ( أنا ) من حيث تغيير الكرسي والأثاث وهما شيئان يرمزان إلى أشياء خاصة في العائلة ومن ثمَّ عامة كالدولة .
الشعر عن الذات
لقد عادت الذات الفردية إلى الشعر العربي لكنها عادت صغيرة في لايقينيتها وخوفها وترددها. وهي ذات قلقة ومأساوية تعاني الفصام والتشظي والخوف بعد سقوط الأفكار التي آمنت بها. فامتلأت بالشك تجاه العالم الخارجي الذي خذلها. وسيطر عليها الإحساس بعدم الانتماء إلى كيان واحد ثابت فرفضت التسليم بالمطلقات ولم تعد تعترف بها وراحت تدمرها ونجحت في التخلص من تقليد النموذج الأعلى. فتقول ميسون صقر في "السرد على هيئته":
البيت الذي ينام فيه الأب مستريحاً لأنه رب العائلة، وإلام التي تظل تطحن الشعير بالصبر والليالي كي يقوم ابنها من تشرنقه. وكي تزف ابنتها الوحيدة إلى حلم ، هو البيت الذي بلا ستائر يستريح الصوت فيه... فمن قال انه وطن كبير للعائلة تلك السائرة في دروب متآكلة...".
وهي ذات لا تثق في نفسها، مملوءة بالشك في ما تنجزه وتدعيه، كما تقول ميسون صقر في كتابها "السرد على هيئته". وهي تهزأ من نفسها وتتوقع الأسوأ دائماً ولا تتعامل مع أي وضع بوصفه خلاصاً، كما في شعر المصرية إيمان مرسال:
ربما الشباك الذي كنت اجلس بجانبه
كان يعدني بمجد غير عادي...
فكرت أن اسمّي شارعنا باسمي
شرط توسيع بيوته،
وإقامة غرف سرية،
بما يسمح لأصدقائي بالتدخين داخل أسرتهم
دون أن يراهم إخوتهم الكبار...
للأسف شيء ما حدث...
ثم أنني أرى نفسي كثيراً
بين غرفة النوم والحمام،
حيث ليس لدي معدة حوت،
لإفراغ ما اعجز عن هضمه.
وانتقلت إلى عالم خارجي آخر لا تسعى إلى إظهاره في معالم ناصعة، كما يقول أبو ديب، فلا تظهر منه سوى أشيائه المادية المحسوسة وتفاصيله وروائحه ومطره وشمسه وقمره وجباله وترابه وأشجاره كما في شعر سوزان عليوان:
كلما حط على كتفه طائر
تذكر الشجرة التي كأنها،د
مقعد منسي في حديقة
هذه الذات تنشغل باللحظة الراهنة دون أن تلتفت إلى المستقبل الذي لا يعنيها أو تهتم بالماضي إلا إذا كان ماضيها الشخصي الفردي القريب، إلا أنها ذات بلا ذاكرة تربطها بالعالم الخارجي بعدما تخلصت من ثقل التاريخ. هي ذات راهنة، اللحظة الراهنة زمنها وشعر اللحظة شعرها. فهي تدع اللحظة تمر عادية بهدوء ودون أن تناقش خلالها قضايا العالم الخارجي. هكذا يصبح الشعر انعكاساً للحظة الراهنة العادية البسيطة.
انه شعر التفاصيل اليومية التي حلت محل السرديات الكبرى فلجأ إلى القصص والممارسات الصغيرة والأحداث المحلية. شعر منشغل بالذات في لحظتها الراهنة لا يبث إلا هواجس الصوت المنفرد وهمومه.
شارعان في عناق، عند تقاطع
إشارة معطلة
تحملق في المارة بعين حمراء
تتواطأ الشاعرة مع ذاتها، فتنشغل في الذات الفردية وتغوص في ما تنتمي إليه هي وحدها، في تجربتها الخاصة. يبدو تفكير الشاعرة مستمر في ذاتها حتى تنغلق عليها، فتقول ميسون صقر في السرد على هيئته "تظل فرديتي هي الخاصة جداً والأحادية جداً". وتظهر حالة الفصام التي تعيشها هذه الذات، خصوصاً أنها تنتمي إلى امرأة خليجية أو عربية اختلفت عن النموذج الأعلى الذي كان عليها محاكاته، فهي تخرجُ عبر الشعر من سجن بني في وعيها.
ويظهر في هذا الشعر تعدد الأصوات وتداخل الأجناس الأدبية، فالشاعرة ترسم معالم قصة في قصيدتها وتلجأ إلى سردها في أسلوب يبتعد عن الشعرية وفي استخدام المفردات التي تنتمي إلى الحياة اليومية كما في شعر إيمان مرسال:
سنذهب معاً إلى مدينة الملاهي
وندخل بيت المرايا
لترى نفسك أطول من نخلة أبيك
وتراني بجانبك قصيرة ومحدبة.
سنضحك كثيراً بلا شك ....
هذه لمحات من هذا اللون الجديد في الشعر أما في سرد مابعد الحداثة فلم يتجرأ أدباء العرب على كتابتـِه ِ ومازال محصور بين أدباء أميركا لتخبـُّط المتشددين بشبهات عندما استشهدوا بقوله تعالى ( وكرمنا بني آدم ) ، فالتكريم هنا خَلقي لا خُلـُقي لأنه لو كان خُلـُقي لرفعَ الخطأ عن بني ادم ؛ فضلاً عما ذ ُكرَ أن هناك آيات ذكرت الإنسان بالذم ( ثمَّ رددناهُ أسفل سافلين ) و ( إن الإنسان لربهِ لكنود ) و( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتوصوا بالصبر ) فقصدية ُ التكريم لبني آدم هي وجود العقل حكماً مابين النفس الأمارة والنفس اللوامة إضافة ً إلى جمال حسنِ التقويم ، فمتى نستشعر تداعيات الزمن في التحديث بعقلنا الراجح أو بتراثنا ألقراني فيضمنا المجد التليد إل[/size]ى أحضانه ؟.