اللغة الموحدة ومثالية التعبير
من الواضح أنَّ الثروة اللغوية كلّما زادت لدى الفرد السوي، فإنَّ قدرته على التعبير عن ما في نفسه من انطباعاتٍ عن عالمه بما فيه من أشياء ومجردات تزداد بشكلٍ مطّردٍ مع مدى هذه الثروة.
لكنَّ هناك عاملاً أكثر أهميةٍ من الثراء اللغوي يمكن اعتباره المفصل الحيوي في عملية التعبير المثالي تمَّ إغفاله وإغفال أثره في الدراسات اللغوية القديمة والمعاصرة لدى عامة المفكرين اللغويين والتربويين المسلمين. هذا العامل هو ما أسميه بالمدى النوعي لتلك الثروة. وهو عاملٌ أكثر أهمية بما لا يقاس من العامل الكمي من أجل الوصول التعبير المثالي عن ما يعتمل في داخل النفس من انفعالٍ إزاء الأشياء والأفكار.
وأقصد بالمدى النوعي ما تحمله الألفاظ من دلالاتٍ كامنةٍ للتعبير عن الأشياء التي ينفعل بها الفرد. فهذا المدى يُعنى بالبعد المعنوي للألفاظ والتراكيب والجمل والعبارات التي تتشكل من البُنيات اللفظية.
إنَّ تحجيم المعنى الدلالي للمفردات أو الألفاظ سيؤدي بالتأكيد إلى تحجيم المعنى المراد من العبارات لترجمة الواقع إلى نصوصٍ تتماثل معه تماثلاً أقرب للمطابقة. وهذا التحجيم يؤدي بالنتيجة إلى اتهام اللغة أي لغةٍ بالقصور عن القدرة على ملاحقة الصور التي يفرزها الواقع أو التي ينتجها الخيال. وهكذا سيتسمُّ أصحاب هذه اللغة بضحالة الفكر وكثرة الاجترار والتقليد الفكري لأصحاب اللغات الاخرى.. وقلة الابداع واقتصاره على نخب قليلةٍ جداً نسبةً إلى المجموع المتمثل بعامة افراد المجتمع.
وواحدة من أكبر دلائل القصور في اللغة العربية قياساً إلى لغةٍ عالميةٍ أخرى كالانكليزية مثلاً هو ما نلاحظه من التحجيم المفزع لمعاني المفردات بحيث تكون مطابقة لمعاني لمفردات أخرى، وهو ما يسمى بظاهرة الترادف في اللغة.
وهي ظاهرة تكاد تعمَّ ألفاظ اللغة كلها كما قد نشاهد من كثرة إيراد المترادفات في مؤلفات اللغويين القدامى حدّ الولع والتفنن.
ونتيجة الترادف إذ يحجم المعنى إلى دلالة لفظ آخر هي من بين أمورٍ أخرى الجمود الفكري والانفصال بين الذات وكوامنها وبين قدرتها على التعبير الصحيح عن هذه الكوامن بسبب كون الترادف قد حدَّ من هذه القدرة التعبيرية التي هي من بديع صنع الخالق عزَّ وجل.
وإذن فرغم أنَّ المرء قد يحظى بثروةٍ لغويةٍ لا بأس بها لكنه لا يكون قادراً على التعبير بها عن انفعالاته إزاء الأشياء من طريق الشعر مثلاً أو تصوير الفكرة أدبياً أو تحديدها بأسلوبٍ علمي، ذلك لأنه يفتقد إلى البعد النوعي لهذه الثروة. ثراء
الانكليز وعامة لغويي الغرب انتبهوا إلى هذا الأمر منذ زمانٍ طويلٍ.. ولذلك فإنهم إذ يزيدون الثروة اللغوية لناشئتهم طولاً فإنهم يوسعونها عرضاً وذلك من خلال إضفاء معنى شرحي مختصرٍ لكلِ لفظةٍ وليس من طريق تحديد معنى اللفظ بلفظٍ آخر مثله. وهو ما يُلاحظ بوضوحٍ لدى كافة المعاجم العربية قديمها وحديثها. وللآن فإني لم أقع على معجمٍ لفظيٍّ ـ دلاليٍّ في آنٍ واحدٍ خاصٍ باللغة العربية اللهم إلاَّ ما في معاجم المصطلحات العلمية أو الفلسفية. في حين أن الانكليز لديهم معجم أكسفورد الذي يهتمّ أساساً بشرح الألفاظ بعباراتٍ تفي بالمراد المعنوي منها مع ضرب الأمثلة الواضحة الدالة على هذا الشرح.
وهذه الطريقة هي وحدها التي تحقق العامل النوعي الذي يغني الفكر ويوسع من آفاق المعرفة وينمي القدرة المثالية على التعبير المتوافق مع مراد النفس.
وقد ذكر النيلي رحمه الله في كتابه اللغة الموحدة أن علم الاجتماع توصل إلى حقيقة أن تحضّر المجتمعات ورقيها يقاس بمدى ثرائها اللغوي.. وإنَّ هناك قبائل لا توجد في لغاتها أكثر من عشر حروفٍ أو أكثر قليلاً. لكنه لم يغفل عن حقيقة أنَّ الثراء الفكري يكمن بالمدى النوعي للثراء اللغوي، ولذلك فقد حمل حملاً شديداً على فكرة الترادف معتبراً إياها فكرةً متناقضةً مع غاية اللغة التي هي التعبير الصحيح عن واقع الأشياء وعالم الأفكار. وللقارئ أن يتابع ذلك في كتابه الحل القصدي في مواجهة الاعتباطية الذي فند فيه فكرة الترادف على كافة المستويات فضلاً عن تفنيده لفكرة المجاز التي كانت أشبه بالمعوض عن ذلك التحجيم الذي جاء بسبب الترادف غير أنه تعويضٌ قد زاد الطين بلةً لكونه قد أدى بعملية التعبير عن الفكر إلى مزيدٍ من الانحراف عن واقع ما هو عليه هذا الفكر. أقصد أنه قد أثرى اللغة نوعياً ولكنه ثراءٌ لا يطابق ما كمنت عليه من قدرةٍ على التعبير وذلك قد أدى إلى إضعاف تلك المقدرة التعبيرية التي ترتبط أساساً بفكرة نظامية اللغة وتحددها بطريقةٍ هندسيةٍ لا تختلف عن ما نراه في عالم الخلق من أنظمةٍ هائلةٍ ودقيقةٍ.
اللغة الموحدة هي خطوة رائدة من أجل الوصول إلى أقصى قدرة للتعبير عن انفعال النفس بالأشياء.. وبشكلٍ يؤدي إلى مزيدٍ من الإبداع الأدبي والعلمي بشكلٍ يتفوق حتماً على باقي اللغات ما دامت هذه اللغة تستند في تأسيسها إلى أرقى نصٍّ قياسي على الإطلاق وهو النص القرآني. ولكن ذلك لن يحدث ما لم نتمكن من وضع المعجم القصدي اللازم لبيان الدلالات الأصلية لألفاظ اللسان العربي الذي أنزل به هذا الكتاب.. وبالتأكيد فهكذا معجم سيكون عمل خلاقٌ فمن يحوز قصب الشرف للبدء به؟
من الواضح أنَّ الثروة اللغوية كلّما زادت لدى الفرد السوي، فإنَّ قدرته على التعبير عن ما في نفسه من انطباعاتٍ عن عالمه بما فيه من أشياء ومجردات تزداد بشكلٍ مطّردٍ مع مدى هذه الثروة.
لكنَّ هناك عاملاً أكثر أهميةٍ من الثراء اللغوي يمكن اعتباره المفصل الحيوي في عملية التعبير المثالي تمَّ إغفاله وإغفال أثره في الدراسات اللغوية القديمة والمعاصرة لدى عامة المفكرين اللغويين والتربويين المسلمين. هذا العامل هو ما أسميه بالمدى النوعي لتلك الثروة. وهو عاملٌ أكثر أهمية بما لا يقاس من العامل الكمي من أجل الوصول التعبير المثالي عن ما يعتمل في داخل النفس من انفعالٍ إزاء الأشياء والأفكار.
وأقصد بالمدى النوعي ما تحمله الألفاظ من دلالاتٍ كامنةٍ للتعبير عن الأشياء التي ينفعل بها الفرد. فهذا المدى يُعنى بالبعد المعنوي للألفاظ والتراكيب والجمل والعبارات التي تتشكل من البُنيات اللفظية.
إنَّ تحجيم المعنى الدلالي للمفردات أو الألفاظ سيؤدي بالتأكيد إلى تحجيم المعنى المراد من العبارات لترجمة الواقع إلى نصوصٍ تتماثل معه تماثلاً أقرب للمطابقة. وهذا التحجيم يؤدي بالنتيجة إلى اتهام اللغة أي لغةٍ بالقصور عن القدرة على ملاحقة الصور التي يفرزها الواقع أو التي ينتجها الخيال. وهكذا سيتسمُّ أصحاب هذه اللغة بضحالة الفكر وكثرة الاجترار والتقليد الفكري لأصحاب اللغات الاخرى.. وقلة الابداع واقتصاره على نخب قليلةٍ جداً نسبةً إلى المجموع المتمثل بعامة افراد المجتمع.
وواحدة من أكبر دلائل القصور في اللغة العربية قياساً إلى لغةٍ عالميةٍ أخرى كالانكليزية مثلاً هو ما نلاحظه من التحجيم المفزع لمعاني المفردات بحيث تكون مطابقة لمعاني لمفردات أخرى، وهو ما يسمى بظاهرة الترادف في اللغة.
وهي ظاهرة تكاد تعمَّ ألفاظ اللغة كلها كما قد نشاهد من كثرة إيراد المترادفات في مؤلفات اللغويين القدامى حدّ الولع والتفنن.
ونتيجة الترادف إذ يحجم المعنى إلى دلالة لفظ آخر هي من بين أمورٍ أخرى الجمود الفكري والانفصال بين الذات وكوامنها وبين قدرتها على التعبير الصحيح عن هذه الكوامن بسبب كون الترادف قد حدَّ من هذه القدرة التعبيرية التي هي من بديع صنع الخالق عزَّ وجل.
وإذن فرغم أنَّ المرء قد يحظى بثروةٍ لغويةٍ لا بأس بها لكنه لا يكون قادراً على التعبير بها عن انفعالاته إزاء الأشياء من طريق الشعر مثلاً أو تصوير الفكرة أدبياً أو تحديدها بأسلوبٍ علمي، ذلك لأنه يفتقد إلى البعد النوعي لهذه الثروة. ثراء
الانكليز وعامة لغويي الغرب انتبهوا إلى هذا الأمر منذ زمانٍ طويلٍ.. ولذلك فإنهم إذ يزيدون الثروة اللغوية لناشئتهم طولاً فإنهم يوسعونها عرضاً وذلك من خلال إضفاء معنى شرحي مختصرٍ لكلِ لفظةٍ وليس من طريق تحديد معنى اللفظ بلفظٍ آخر مثله. وهو ما يُلاحظ بوضوحٍ لدى كافة المعاجم العربية قديمها وحديثها. وللآن فإني لم أقع على معجمٍ لفظيٍّ ـ دلاليٍّ في آنٍ واحدٍ خاصٍ باللغة العربية اللهم إلاَّ ما في معاجم المصطلحات العلمية أو الفلسفية. في حين أن الانكليز لديهم معجم أكسفورد الذي يهتمّ أساساً بشرح الألفاظ بعباراتٍ تفي بالمراد المعنوي منها مع ضرب الأمثلة الواضحة الدالة على هذا الشرح.
وهذه الطريقة هي وحدها التي تحقق العامل النوعي الذي يغني الفكر ويوسع من آفاق المعرفة وينمي القدرة المثالية على التعبير المتوافق مع مراد النفس.
وقد ذكر النيلي رحمه الله في كتابه اللغة الموحدة أن علم الاجتماع توصل إلى حقيقة أن تحضّر المجتمعات ورقيها يقاس بمدى ثرائها اللغوي.. وإنَّ هناك قبائل لا توجد في لغاتها أكثر من عشر حروفٍ أو أكثر قليلاً. لكنه لم يغفل عن حقيقة أنَّ الثراء الفكري يكمن بالمدى النوعي للثراء اللغوي، ولذلك فقد حمل حملاً شديداً على فكرة الترادف معتبراً إياها فكرةً متناقضةً مع غاية اللغة التي هي التعبير الصحيح عن واقع الأشياء وعالم الأفكار. وللقارئ أن يتابع ذلك في كتابه الحل القصدي في مواجهة الاعتباطية الذي فند فيه فكرة الترادف على كافة المستويات فضلاً عن تفنيده لفكرة المجاز التي كانت أشبه بالمعوض عن ذلك التحجيم الذي جاء بسبب الترادف غير أنه تعويضٌ قد زاد الطين بلةً لكونه قد أدى بعملية التعبير عن الفكر إلى مزيدٍ من الانحراف عن واقع ما هو عليه هذا الفكر. أقصد أنه قد أثرى اللغة نوعياً ولكنه ثراءٌ لا يطابق ما كمنت عليه من قدرةٍ على التعبير وذلك قد أدى إلى إضعاف تلك المقدرة التعبيرية التي ترتبط أساساً بفكرة نظامية اللغة وتحددها بطريقةٍ هندسيةٍ لا تختلف عن ما نراه في عالم الخلق من أنظمةٍ هائلةٍ ودقيقةٍ.
اللغة الموحدة هي خطوة رائدة من أجل الوصول إلى أقصى قدرة للتعبير عن انفعال النفس بالأشياء.. وبشكلٍ يؤدي إلى مزيدٍ من الإبداع الأدبي والعلمي بشكلٍ يتفوق حتماً على باقي اللغات ما دامت هذه اللغة تستند في تأسيسها إلى أرقى نصٍّ قياسي على الإطلاق وهو النص القرآني. ولكن ذلك لن يحدث ما لم نتمكن من وضع المعجم القصدي اللازم لبيان الدلالات الأصلية لألفاظ اللسان العربي الذي أنزل به هذا الكتاب.. وبالتأكيد فهكذا معجم سيكون عمل خلاقٌ فمن يحوز قصب الشرف للبدء به؟