بسم الله الرحمن الرحيم قصدية النيلي بقلمه الأخوة الكرام .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته استجابةً مني لطلب بعض الأخوة للتعريف بالقصدية.. أقوم بنشر محاضرة للمرحوم النيلي الذي يوجز فيها التعريف المنشود.. وسأنشر المحاضرة على شكل حلقاتٍ إن شاء الله.. تاركاً المجال مفتوحا لاستفساراتكم المتعلقة بها محاولاً أن تكون استجابتي أقربُ ما تكون للموضوعية وراجياً أن تكون الاستجابة من القراء الكرام والمشاركين كذلك. فـ... شاكراً ومقدّراً. القصدي التعريف بالحلّ القصدي عالم سبيط النيلي سنبدأ بمثالٍ واضحٍ للتوصل إلى تعريف الحلّ القصدي، ففي قوله تعالى: (كلاّ إن كتاب الفجار لفي سجَّين) المطففين/7 قال: مجاهد: سجّين صخرة في الأرض السابعة السفلى واختاره الضحاك، وقال أبو عبيدة: سجّين: شديد. قال الطوسي: وقيل السجّين هو السجن على التخليد مثل شرّيب من الشرب. وقال غيرهم: سجّين: جهنم وقيل وادٍ أو جبٍّ فيها. انظر التبيان ج30/299. كلّ ما يريد الحل القصدي قوله هو أن النص القرآني قد عرّف (سجّين) في نفس النسق، بل وتساءل عنه عالماً بأن المتلقي لا يعلم ما هو فقال: وما أدراك ما سجّين؟. وهذا استفهام واضح في الدلالة على أن المتلقي لا يدري ما هو، ثمّ أجاب فقال: كتابٌ مرقوم. إذن فتعريف (سجّين) موجود وهو كتاب مرقوم، وعلى ذلك فإن تعريف سجّين قد تمّ خلافاً للنص عند المفسرين واختلفوا فيه رغم وجوده داخل العبارة موضوع البحث!!. ولا يمكن أن نسمّي هذا العمل غفلةً أو سهواً ما دامت هذه العملية قد طالت كلّ لفظ، بل وبُنيت ورتِّبت المعاجم على أساسها. وصورتها المرعبة الكبرى تتمثل في إعطاء اللفظ معنى عن طريق لفظ آخر في المعجم. يتلخّص الحلّ القصدي في عبارةٍ واحدةٍ تمثّل الردّ المتكامل شكلاً ومضموناً والمتضمّن لكافة الحلول على الاعتباط الفكري برمته. وقبل ذكر هذه العبارة لا بدّ من توضيح ما نعنيه بالاعتباط. الاعتباط اسمٌ أطلقناه على كلّ: (حكم ذاتي المنشأ على موضوعٍ ما منكِراً أو متجاهلاً عناصره الداخلية كلاًّ أو جزءاً). والاعتباط اللغوي على هذا التعريف هو جزءٌ من الاعتباط الكلي العام. وهذا هو الفرق بين الشخص الموضوعي والشخص الذاتي. فالحل القصدي هو النقيض التام للحل الاعتباطي، بمعنى أنه إذا كان الموضوع هو (س) فإنه (س) ويبقى (س) حتى يحصل تغيّر في الموضوع فيتغير الحكم تبعاً له. فالموضوعي هو الذي يحكم على (س) على أنه (س)، والذاتي هو الذي يزعم أن (س) قد يكون (ص) أو (ع) أو أنه في الموضع كذا هو (ص) وفي الموضع الآخر هو (ع). فالموضوع حاكمٌ لنفسه على نفسه، والإنسان إنما هو مكتشفٌ لهذا الحكم لا غير، وليس له أي حقّ مطلقاً في أن يقرّر حكماً على الموضوع غريباً عن عناصره الذاتية. الموضوع إذن هو الذاتي والإنسان المكتشف يجب أن يكون موضوعياً ـ بمعنى أنه يلاحظ ذلك الموضوع وحكمه الذاتي. فإذا أصبح المكتشف ذاتياً أيضاً وأراد إلقاء حكمه الخاص على الموضوع حدث التنافر واستعصى عليه كشف الموضوع. الموضوعي هو الذي يعترف بالحكم الواقعي للموضوع، والذاتي هو الذي يصدر من نفسه حكماً على الموضوع متجاهلاً معطياته الداخلية المرتبطة به. الموضوعي هو الذي يريد أن يتعرّف على الموضوع فعلاً فهو إذن صادقٌ، والذاتي يزعم أو (يفترض) أنه يعرف الموضوع مسبقاً فهو إذن كاذب. الموضوعي يستطيع السيطرة على الموضوع لأنه يحاول اكتشافه، والذاتي يبقى جاهلاً ويبقى الموضوع هو المسيطر عليه. والموضوعي متواضعٌ والذاتي مستكبرٌ. والموضوعي كريم النفس وفيٌّ للحقّ والذاتي لئيمٌ وأناني. وإذا كانت هذه الفروق بين الموضوعية والذاتية بسيطةٌ جداً لغةً ومفهوماً فإنها أعسر شيء على الإنسان عملاً، بل هي أعسر عملٍ يقوم به ابن آدم من بين أعماله كافةً، ذلك لأن هذا الفرق هو مركز ابتلاء الخلق كلهم وعليه يجري العقاب والثواب في الدنيا والآخرة، بل كان أول اختبار في الملأ الأعلى قد جرى لأجل هذا التفريق. وتميز يومئذ فريقان: الذاتي وهو فريق إبليس الذي حكم على الموضوع (والذي هو آدم) بحكمه الخاص، والفريق الثاني: الموضوعي وهو فريق الملائكة الذين أقرّوا بعناصر الموضوع وكونه أفضل منهم ويستحق السجود له، وهي أول قصة تلاقيك عندما تقرأ القرآن الكريم. جَعَلَ الذاتيُّ الذي هو إبليس من نفسه طرفاً في الموضوع! وهو أصلاً ليس طرفاً فيه فقال: (أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين). وحينما ابتدأ الكلام بالأنا فقد ابتدأت الأنانية والحسد وحَكَم على الموضوع (آدمَ) ظلماً أنه أدنى رتبةً منه!. معلومٌ أن كلّ شخصٍ ذاتي هو ظالمٌ في النهاية لأنه لا يعطي لأي موضوع حقّه!. ولم يكن ذلك بسبب التباسٍ حصل في المعطيات أو المعلومات.. كيف والحكم الموضوعي نفسه قد أعلنه من لا يحكم إلاّ بالحق والعدل وهو الله العزيز الغني عن كلّ مخلوق فقال لهم: (أسجدوا لآدم)؟. وهذه مساعدةٌ منه تعالى لفهم الحكم لأنه قال لهم مسبقاً: (فإذا سويّنه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، ولكنهم لا يعلمون متى يحصل على هذه المرتبة التي تؤهله لسجود الملائكة له، فجاء الحكم مرة أخرى ليساعدهم في أداء السجود في وقته الصحيح. وكان بإمكان إبليس أيضاً أن يعلم أن حكم الله هو حكمٌ موضوعيٌّ من خلال الدراسة المُقارنة!. ذلك لأنه حكم لنفسه بالأفضلية من خلال الظواهر، ولم يقم بدراسةٍ مقارنةٍ ولا يريد أن يفعل، لأنه يدرك جيداً أن حكم الله هو حكمٌ واقعيٌّ وموضوعيٌّ. فقوله : (أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين) يبدو في ظاهرِه مقارنةً علميةً وموضوعيةً. ولكن هذا القول هو مجرّد أكذوبةٍ وتمويهٍ فهو مخالفٌ لعناصر الموضوع، ذلك لأن النار لا مصدر لها سوى الوقود وكافة أنواع الوقود ترجع إلى الطين. فالمنشأ إذن واحد ولكن آدم أفضل كأفضلية الكلّ على أحد أجزاءه. وهذه مقارنة بسيطة جداً وواضحةٌ جداً، إذ سيكون الطين أفضل من النار. ولا زال هناك من يدافع عن إبليس لأنه يشاركه في الذاتية ويزعم أن إبليس رئيس الموحدين لأنه رفض السجود لغير الله! متجاهلاً أن رفض السجود الذي أمر الله به هو معصيةٌ لله وعنادٌ واستكبارٌ على الموضوع وتجاهلٌ لعناصره الذاتية. وهذا بديهي أو عادي جداً. فالذاتي سوفسطائي بطبيعته، ويعتبر الموضوع ملكه الخاص فيتصرّف به كيف شاء ويحكم عليه بما شاء. ومن المعلوم أن الاختلاف في هذه الحالة واقعٌ لا محالة، إذ لمّا كان الموضوع عرضةً لأكثر من شخصٍ ذاتيٍّ فستكون هناك عدَّة أحكام لا حكمٌ واحدٌ. فحينما تجاهل المفسرون معطيات الموضوع في (سجّين) أعجب أبا عبيدة أن يجعله (شديد) فجعله كذلك، ورأى الآخر أنه من السجن فقال: (أنه سجن في الأرض السابعة)، وقال الآخر: (هو جبّ)، وقال الرابع: (جهنم)، وقال الخامس: (بل هو واد في جهنم)!. أما مالكُ النص جلّ وعلا نفسه الذي عرّفه وقال: (كتاب مرقوم)فقد أهدرت حقوقه (حاشا لله)!!. لأنه لم يقل أي واحد منهم قط أن (سجّين) هو كتاب مرقوم كما عرّفه النص في داخل النسق. قلتُ: إن التفريق بين الموقفين الذاتي والموضوعي هو تفريقٌ بسيطٌ جداً ومتيسرٌ لكلّ واحدٍ مهما كانت ثقافته العامة، ولكن الصعوبة تكمن في التطبيق فقط. فهو أمرٌ عسيرٌ جداً من الناحية النفسية، فلا يوجد من كلّ الأفعال الإنسانية قاطبةً ما هو أعسر من تطبيق الموقف الموضوعي عملياً كما لا يوجد أيسر من فهمه مطلقاً. ويبدو لي واضحاً من هذا ثلاث نتائج في الأقل: الأولى: على هذا الأساس وُجدَِ قومٌ لم يتعلموا من أحدٍ فأذعنت لهم الموجودات وعناصر الطبيعة لأنهم بلغوا من الموضوعية حداً ألغوا فيه حكمهم الذاتي إلغاءً تاماً فجاءهم العلم بالأشياء والسيطرة عليها من أيسر السبل وأقربها جرّاء قيامهم بالأمر العسير. الثانية: على هذا الأساس نفسه يجري حساب الخلق، إذ لا يُعقل أن يكون الحساب عسيراً ومروعاً كما هو في النص القرآني والمأثور ويكون فهم الموقفين عسيراً أيضاً!!. لا بدّ من التقابل. . فأنت تقلّل العسر في المحاسبة على العامل كلّما كان الأمر أشدّ إبهاماً عليه، وكلّما كان أكثر قصوراً في إدراكه. ولذلك تنقلب المعادلة هنا، فليس الإيمان نتيجة للعلم وسعة الاطلاع!!، بل العلم هو نتيجة للإيمان الصحيح، أي نتيجة للموضوعية. الثالثة: إن النصّ الشرعي على هذا ميسور الفهم لإتمام الحجة على الخلق بنفس النسبة المذكورة في التفريق بين الموقفين. ويؤكد ذلك النص نفسه حينما لا يفتأ يذكر أنه (مبين) وآياته (بيّنات) و(مبيّنات) و(مفصلات). . . الخ. والموقف الذاتي خالف النتائج الثلاث جميعاً. فعنده بشأن النتيجة الأولى أن الفهم هو العسير والتطبيق هو السهل، ولذلك يقدّم لنا نصائحه في عدم جواز ممارسة أي نوع من تفسير أو فهم النص الإلهي ما لم يدخل المرء فترة غسيل سلوكي يفحص خلالها عن مدى ما بلغه من قدرةٍ في إجراء التقديرات على النص حسب الذاتية. وأما بشأن النتيجة الثانية فالمتعارف عليه أن الأكثر علماً ـ بالطرائق الذاتية طبعاً ـ هو الأكثر إيماناً والأجدر بالاحترام ممن سواه، وبشأن النتيجة الثالثة فالمعروف أن الإبهام في النص القرآني والحذف والتقدير والكنايات تحتاج إلى عقول مكينة لإدراكها. . وفي هذا الكلام (ظاهرياً) تعظيمٌ لشأن القرآن، ولكنه تعظيمٌ يبلغ من صورته أن تكون غايته النهائية أن يجعل منه (كتاباً مهجوراً) ـ وهي شكوى النبي (ص) على قومه. قلتٌ: إن تطبيق الموضوعية هو الأمر العسير على النفوس وليس التمييز بين الموقفين. ويمكن أن نوضح الأمر بمثالٍ آخرٍ ليس من اللغة في شيء. فإن مثله هو مثل إخراج الدنانير من الجيب وإعطاءها للمسكين أو السائل المحروم. فالعملية سهلة جداً ميكانيكياً ولا تحتاج إلى تعليمٍ مطلقاً، بل تحتاج إلى عنصر نفسي فقط هو الكرم أو الجود وحسن الظن بالخلق. ولكن هذه العملية عسيرة جداً على الأكثرية، وهي على البخلاء خصوصاً أشدّ وأعسر. وليس البخل في القرآن إلاّ في هذا المعنى ويدخل الإنفاق المالي كجزء ضئيل منه، ولذلك قال النبي (ص): (البخيل من ذكرتُ عنده ولم يصلّ عليّ)!. فأدخل عدم الصلاة عليه في البخل، بل عرّف البخيل به. ذلك لأن الصلاة عليه إقرارٌ بالأفضلية، وإنما تكمن الصعوبة النفسية في هذا الإقرار. اللهم صلّ وبارك على محمد وآل محمد. لذلك يمكن القول أن الحلّ القصدي لم يكن في جوهره إلاّ مزيجاً من العلاج النفسي وإظهار قيمة اللغة من خلال التأكيد المستمر على نتائج الحلول القصدية على المتلقي. فهو يريد للمتلقي أن يفهم أولاً أنه (أي المتلقي) عدوّ لنفسه وأنه يؤذي ذاته وأن الحلّ يقدّم له نوعاً من التفكير الجديد الذي يحترم فيه الموضوع وبالتالي ستعود المنافع إليه. فهو يحصل على النتائج التي توخّاها من الذاتية عن طريق الموضوعية لا الذاتية، وإنه يحقق ذاته فقط عندما ينكرها أولاً، وهي معادلة صعبةٌ جداً عند كثيرين إلاّ من رحم الله. إذن فتعريف الحلّ القصدي هو في عبارةٍ تُناقض العبارة الآنفة في تعريف الحل الاعتباطي. فالحل القصدي هو: (الحكم على الموضوع من خلال عناصره الداخلية والخاصة به من غير تدخّل من الحاكم بإخفاء تلك العناصر أو بعضها أو إدخال عناصر غريبة فيها من خارج الموضوع). فإذا كان الموضوع جملةً مفيدةً فليس من حقّ المتلقي إحداث أي تغيير في تلك الجملة مهما كانت أهدافه وغاياته. ألا ترى إلى الاتفاقات الدولية والعقود بشكلٍ عامٍّ يتمّ فيها الاتفاق على صيغةٍ لغويةٍ معينة بعد مجادلات كثيرة. وبعد التوقيع لا يجوز لأحد الأطراف أن يدّعي أن مفردةً ما يمكن استبدالها بمفردةٍ أخرى؟. وما ذلك إلاّ لأن أيّ تغييرٍ في أيِّ لفظٍ يلزم منه تغييرٌ مساوقٌ له في الدلالة العامة النهائية للعبارة. وحينما تكون الأطراف كلّها موجودةً ويخشى أحدُها الآخر فلا يحدث أي خرقٍ لمثل هذا الاتفاق، وإنما يحدث فقط لمن كان فيه الطرف الآخر مغيباً مثل النصوص التاريخية والدينية وأمثالها، وذلك لأن المؤلف غير مُلاحَظٍ عند الفاعل والنصّ لا حارس له فيمعن في الجرأة على تغيير كلامه بحسب ما يرغب. وإذا حدث ذلك بين المتحاورين حصل الخلاف قطعاً. إن لدينا عدّة ظواهر تؤكد لنا على قوة الموقف الذاتي وأصحابه وسيطرتهم على الساحة الفكرية عموماً بمختلف اختصاصاتها واتجاهاتها لتمرير الرأي الذاتي وجعله بديلاً للحكم الواقعي. (يتبع......) | |
منقول....