رؤية نقدية لقصة (ميلاد خبيث) غادة مصطفى 44965210

يُعد النقد الأدبي عملية تحليل وتفسير وتقييم للأعمال الأدبية، وتتم عملية النقد من خلال أربع مراحل وهي الملاحظة والتحليل والتفسير والتقييم.
يتم في المرحلة الأولى قراءة النص الأدبي ومحاولة فهم معناه، ويقوم الناقد في المرحلة الثانية بتحليل النص الأدبي وتفكيكه إلى عناصره الأولية ومعرفة طريقة تنظيم الأجزاء مع بعضها البعض
رؤية نقدية لقصة (ميلاد خبيث) للكاتبة السورية آية سبّاغ
ميلادٌ خبيثٌ
لم تستطع السّماء حبس دموعها عمّا سيأتي، كانت تلتقط النّيات من قلوب العابرين تحتها، وترعد منذرة الخطر إن أبصرت سوءا قادما من أهل الأرض، حتّى إذا فعلت الأيّام فعلتها هاجت السّماء وماجت، حتّى لتظنّ نفسها أنّها أمطرت الغيوم بدل القطر، و أخذت عن السّحب مهمّتها، علّها تغسل سواد الأرض بنصع بياضها..
ترنّح الشّتاء من بعيد معلنا قرب وصوله، فبعث نسيم الخريف رسولا عنه، شرعت النّاس أبواب بيتها، وفتحت النّوافذ كي تُشبع الجدران من هذا النّسيم بعد كبت صيفيٍّ طويل، وقبل قدوم الرّياح العاتية، لكن على غير ميعاد، فاضت السّماء حين التقطت أنفاسا مسمومة تنذر بميلاد شرّ لا مفرّ منه، أحكمت النّاس إغلاق النّوافذ لئلا تتسلّل المياه منها، فتصطاد الطيّبين منهم، فرغت الشّوارع من النّاس، وسمحت السّاحة للمتنكّرين برداء الفضيلة بالظّهور، فهرع الشّاب إلى منزلها ودن أن يناقشها قال: لم أجد أجمل من هذا الظّرف الّذي دفعتِ به لتهيّئي لنا جوّ اللّقاء.
_اقتربت منه حتّى اختلطت أنفاسهما وقالت: بل سياسة الخوف الّتي تبثّها في قلوب النّاس كانت أكثر فظاعة من هذا الظّرف.
علت صوت ضحكاتهما وقبل أن يهمّا بالاختفاء تشبّثت مكانها ولم تبدِ أيّ حركة وقالت: لكنّي جائعة لكلّ شيء، جشعي أعماني عن سوء العواقب، أخشى على الأمّة من الهلا..
وضع يده على فمها يتحسّس نعومة خدها بطول أصابعه: ومنذ متى كنت تخشين على النّاس الفقر، وتمنعين لقاءنا لأجلهم؟ اسّتلّها من منزلها، وسارا حيث تتفرّق النّاس وتغمض الكائنات عيونها عنهما (كانت من عادتهما أنّهما ينجبان مخلوقا يتقمّص شعورها كما كان قبل اللّقاء، فحين كانت خائفة أنجبت الخوف في قلوب النّاس، وحين طغت وتجبّرت، أنجبت الظّلم والفساد، واليوم كانت جائعة، فرقّ قلبها لهذا المصاب القادم) كانت تعي الخطر المهرول من بعيد، لكن جشعها ولهفتها كانتا أكبر....
بغضون أيّام وضعت طفلا ورمته على حافّة الطّريق في حيّ شعبيّ فقير، كان يشبه أطفال الأربع سنوات بحجمه، لكنّه كان رثّ الهيئة، رديء المظهر، نتن الرّائحة، عابس الوجه، يميل برغباته وعواطفه رغم صغر سنه إلى مساكين النّاس صغارا كانوا أو كبارا ...ولم يردّد سوى جوع جوع ...
اقتربت فتاة صغيرة لها جدائل صفراء وتحمل كسرة خبز وقطرات ماء _أشارت إليه بيدها: مرحبا أنا فردوس وأنت؟ ...تعال لنلعب...بوجه عابس: أعطني الخبز أوّلا
.. وأنا؟ _أعطيك الكثير إن أعطيتني
لم تفهم منه شيئا لأنّها صغيرة وأعطته كسرتها الخبز وماءها، كانت عيونه تطاردها، لم يتكلّم بلسانه لكن عيونه كأنّها مستعارة من عيون رجل كبير خبيث، وتكرّر الأمر لأيّام، وحينما تمكّن من قلبها أخبرها ألّا تتأخّر عليه؛ ليلبّي احتياجاته. وفي صباح الغد، استعطفت أمّها واستنجدت بنحولة جسمها حتّى تعطيها حصّة إخوتها من الخبز والماء بسبب حاجتها لهم، فما إن سلّمتها إيّاهم حتّى ركضت وأعطت الزّاد لهذا الولد، الْتَهمهم على عجل، كبالغ يستطيع بلع إناء في دقيقة، تعجّبت كثيرا لكنّها أخفت عجبها تحت رداء الابتسامة البريئة، نهض إليها على عجل وأراد أن يعبّر لها عن امتنانه، لكن لا توجّهه إلا طبيعته الدّنيئة، فعانقها من بطنها وقضم منها قضمة، قطع شقفة من كبدها وأكمل نهشها حتّى سقطت، تتلوّى من ألمها، وتحاول جمع فتات الكبد السّاقط من بين أسنانه، الْتَمَّ النّاس حولها وتعالت الأصوات
_ من فعل بك هذا؟
_أشارت بإصبعها على الجوع.
لكن لسوء الحظّ أنّ حجم الجوع تضاعف عند أول قضمة، فجهل المجتمعون حولها هويّته. تضخّمت جثّته وازدادت نظرته العدائيّة لقلّة طعامه، يودّ استراق مافي السّوق من طعام، وما في الكرة من بشر، ومازال على سياسته المتّبعة، كثير الصمت، يجلب المارّة إليه ليتصدّقوا عليه ببضع لقيمات، حتّى إذا تمكّن منهم نهش بطونهم وأرْداهم في فرشهم، تراجع اقتصاد المدينة بسبب مرض أغلب النّاس فيها، وانهارات العملة، وترك النّاس عملهم، وكلّما نهش أحدهم من بطنه، طواه كما تُطوَى صفحة الكافر بعد إيمانه، وأذن له باقتراب الأجل، وعند احتضاره لا يستطيع نطق سوى الجوع من فعل هذا الجوع...
علت مكانة ما يسمى(الجوع) وتسلّط على معامل الأدوية وشاحنات الخضراوات، يلتهم كلّ مايراه، وينهش كلّ مقترب منه من بطنه إذا أرادوا أخذ الطّعام منه. يدخل على المدن المدمّرة ليحظى بكومة خراب يعيش فيها _تلك هي بيئته_ وكلّما دخل مدينة بما يحمله من طعام وشراب إلى مكان كثرت الحروب فيه، انكبّ النّاس عليه، يريدون كلّ شيء منه، وهو يجدهم لقمة طيّبة سائغة لينهش قلوبا جديدة
ذاع صيته، وازدادت هيمنته، ليجتاح مناطق ويسيطر على أخرى، ويتحكّم بأرزاقهم وقوت يومهم، وكلّما خيّم بجبروته على قرية، جلست النّاس في بيتها تأمل الموت وتجهّز له قلّة قوتها ومستلزماتها. اجتمعت المدن لتحلّ هذه العقبة، وخطّطوا لإلقاء القبض عليه وذلك باتّحاد كافّة المدن المصابة، نجحت الخطّة، وظنّوا أنّ الأمر توقّف هنا، وسلّموه لمجلس الأمّة، وفي أثناء التّحقيق قيل له:
_من أين جئت؟
_قال من خرابة بعيدة
_وما اسم والديك؟
_لا أدري ماذا تعني، لكنّي رأيت شيئين، ينادي أحدهما الآخر بالسّياسة والثّاني بالظّروف، ومنذ ميلادي وأنا جائع أميل برغبة شديدة نحو الضّعيفين والعبيد بالدّرجة الأولى، وأنت (بنظرة قادحة، مهدّدة بالمواعيد) إن لم تطلق سراحي سأَلتَهمُِ فؤادك، حين تقبضوا على السّياسة والظّروف، من جاء بي عدائيّا متوحّشاً... حاكموني.
_ينادي المحقّقُ على الحارس: _يابنيّ بسرعة شديدة أطلقوا سراحه، ووقّعوا له أنّه مريض نفسيّا ولا يحقّ لأحد محاسبته، هو بريء يلبي رغبات نفسه الطبيعيّة، والناس هم المجرمون يعترضون طريقه، فليلاقوا حتفهم.
الرؤية النقدية للقصة
مساء الخير
قراءة نقدية في قصة ( ميلادٌ خبيث)
نبدأ من عنوان القصة الذي حمل المضمون ببراعة فالخبث لا يأتي بالفطرة بل تنتجه أو لنقل تولده ظروف وسياسة مجتمعية تجعل الكائن يتسم بالخبث بسبب المعطيات المحيطة به والعنوان هنا أدى دوره بالاتصال المباشر بالمضمون ..
بداية العتبة النصية كانت موفقة جدا عندما ذكر الكاتب كلمة ( السماء )على اتساعها ليفسح المجال لفكر القارئ بالتحليق في الأفق وأكمل بكلمة دموع التي تعبر عن الحزن الذي سينتج بسبب الخبث ..
روعة الانتقال بتسلسل جذاب يشدُّ اهتمام القارئ كانت كمن يغرس شجرة في أرض خصبة ..
صور بيانية أدت وظيفة الايحاء لتنقل للقارئ مشاعر الحزن والخيبة التي جسدتها الكاتبة كما في قولها
( أنفاساً مسمومة .. ميلاد شر ) لتنتقل بعدها إلى استخدام التجسيد
والقهقهة الخبيثة بين السياسة والظرف
وهنا السياسة رمز للتأنيث
والظرف رمز للمذكر ولا تأنيث فيه أبداً لأننا لا ننظر إلى الجمع في التذكير والتأنيث بل للمفرد ..
أناقة الحوار والتصوير الحي للمشاهد التي قام بها الجوع جعلتنا نتخيل المشهد وكأننا نراه حقاً .. وهذه براعة ما بعدها براعة ..
النص القصصي جاء متيناً مترابطا أدى رسالته برمزية جميلة وجاء توظيف عنصر الزمن ظاهراً جلياً ..
بداية الشتاء .. حيث يشتد البرد و تزداد الحاجة إلى الطاقة والطعام الذي يعوض عن البرد ...
اللغة بالمجمل أدت وظيفتها من خلال التمايز في النبرات بين الشخصيات فكشفت عن البعد المعرفي ...فالقاضي حكم بغير العدل لأن مستواه المعرفي جعله يقضي بالبراءة لأنه لا أحد يحق له أن يحاسب السياسة والظروف ...
حقيقة القصة يكتب فيها الكثير الكثير لأنها تنطوي على الرسالة الحقيقية للأدب ...
بقلمي : غادة مصطفى