"خرج من السيارة زاحفاً بعد أن أصابته رصاصة , زحف بسرعة لأقرب دكان , طرقه بيده المرتجفة دون جدوى , أطلق بضعة طلقات عليه ولكن ما من مجيب , لم يتجرأ أحد على إدخاله ...
فعاد وزحف إلى أقرب جدار ليسند ظهره عليه , كانت دماءه تسيل كدموعٍ بعيونٍ غاضبة , ولم يكن هنالك ما يوقفها , تلمس رسالة حبيبته بجيبه , يتلمس كلماتها ويودعها كما يودع الحياة ... تذكر كم كان يلقي بمشاعره على الصفحات البيض ليرسلها إليها ملطخة بدماء الألم"
أنهى الدكتور جواد محاضرته وعاد بأقدامٍ متعبة إلى مكتبه بجامعة السور بون في فرنسا , كان يشعر بالرياح تجري من خلاله, الشعور ذاته الذي شعر به عندما فقد ابنه قبل أربعة عشرة عاما , تلمس صورة ابنه والشوق إليه لا ينفك يعتصره, فابنه يعيش مع جدته بسوريا , قال لصديقه الدكتور جواد : " لابد وأنني أسوأ والد بالعالم !.. لقد مضى ستة أشهر دون أن أتحدث مع ابني
فكلما كان يتصل بابنه كانت ترد عليه جدته بأنه ليس بالبيت أو أنه لا يرغب بالتحدث لأبيه لأنه ببساطة أخلف بوعده بالعودة لسوريا وأخذه لاسبانيا لحضور مباراة لكرة القدم بين فريقي " برشلونة وريال مدريد" , لم يستطع فعل ذلك بسبب انشغاله بعمله , سأله صديقه جاك: لم لا تعود لسوريا من أجل ابنك؟
أجاب : لأنني لا استطيع ذلك , علي إكمال العام الدراسي
لطالما فضل الدكتور جواد العمل على ابنه , وربما هذا هو السبب الذي دفعه لابقاءه في سوريا مع جدته بحجة أنه يريد أن يتربى بوسطٍ عربي ، حجة لم تقنع حتى ابنه البالغ من العمر ثلاثة عشرة عاماً
سأله الدكتور جاك: ما اسمه؟
أجاب : حامد
ولكن الأمر تغير عندما تحدث مع قريب له على الهاتف, فقد قال له : يؤسفني حقاً ما حدث لابنك دكتور جواد
"ماذا حدث لابني؟!" سؤال كان كصرخة خرجت مدوية من حنجرته , لقد اختفى قبل شهور وكانت جدته تحاول إخفاء الأمر عن ابنها الدكتور جواد طوال الشهور التي مرت , " كيف اختفى ؟!" ... تم اعتقاله ولا أحد يدري ماذا حل به وأين هو
وفجأة وجد نفسه يرتجف على مقعدٍ بطائرة العودة لسوريا, الآن بعد سنواتٍ من إهماله لابنه استيقظ فجأة , وشعر بالنعمة بعد أن فقدها
هرع لداخل بيته وهو ينادي : "أمي .. حامد"
لم يجد أحد سوى الخادمة التي أخبرته بأنها ذهبت لإخبار أحد أقاربها بأنها تريد الذهاب معه للمشرحة للتعرف على حفيدها
"مشرحة ؟..أية مشرحة؟!" تجمدت حبات العرق اللؤلئية على جبهته وهو يتمتم بهلع هذه الكلمات ثم ترنح إلى سيارته القديمة واتجه للمشرحة المقصودة ليجد ابنه متمددا على أحد أسرة المشرحة وجسده مقرحا بالجروح وآثار التعذيب
قال له الضابط المسئول بالمشرحة ببرود : أهذا هو ابنك؟
أمعن به الدكتور جواد بأنظار مصدومة , كان مشهدا مروعا فالجثة كانت مشوهة كثيراً
صاح بهلع: هذا ليس ابني!... ابني كان أجمل صبي .. كانت عيناه زرقاوتين كالسماء وبشرته بيضاء كالثلج , كان أجمل صبي .. هذا ليس ابني!!
دُفِنَ ابنه وأصبحت جثته تحت التراب وأما هو فكان جثةٌ أخرى فوقها ، يتهادى وهو يحوم بغرفته مصدوماً، لم يكن لجسده المثقل بالآلام أن يعرف الراحة بليلة كالحة كهذه ، " لماذا فعلوا هذا بابني ؟!"
اتجه لغرفة والدته وصاح بها بغضب : لماذا لم تخبريني ؟! لماذا لم تخبريني بأمر اختفاءه؟!
أجابت بحزم : ماذا كنت ستفعل إن أخبرتك؟ ... كنت على الأغلب ستتركه كما تفعل بكل مرة .. كما تركته لسنوات هنا
صرخ : أحب ابني!،أعشق ابني!... لقد قتلوني قبل أن يقتلوه
ردت: حقاً، كنت تحبه ؟... لماذا لم تشعره بذلك وهو على قيد الحياة
كان يحاول أن يلقي اللوم على والدته كي يخفف القليل من عذابه ولكن ردودها القاسية زادته عذاباً
بكى بكاءً مريراً طوال الليل ، ولكنه لم لآلامه بلسماً أفضل من الانتقام ، ظلت هذه الفكرة تنخر برأسه حتى أشرقت شمس اليوم التالي ، اتجه إلى احد أقاربه الذين تم اعتقالهم بالحادثة التي اعتقل بها ابنه ، ولكن الحظ حالفه بالخروج الحظ الذي لم يلتفت إلى حامد أبداً
بالرغم من أن آثار التعذيب والضرب كانت بادية على جسده ، كانت هنالك ابتسامه مرسومة على شفتيه ربما كانت ابتسامة ساخرة من الموت الذي لم ينل منه ، رحب بالدكتور جواد وجلسا سويّاً بغرفة الجلوس، بدا مستمتعاً بخيوط الشمس المتسللة من النافذة والمرتمية على وجهه ونسمات الهواء التي كانت تراقص الستائر الرمادية بالغرفة قال بعد لحظات صمتٍ : الإنسان لا يقدر الحياة إلا بعد أن تصبح حياته على المحك ، لم أصدق هذه المقولة حتى عشتها، لم أستمتع بالشمس هكذا من قبل ، ولم أستلذ بكل نفسٍ أستنشقه إلا بعد أن حرموني أنفاسي لأشهر ... وحرموني الشمس والحياة ، للحق أقول ... لقد حرمونا كل هذا لأربعين عاما مضت
- ماذا حدث لابني؟
- انظروا من استفاق من غيبوبته !.. لقد اعتقل ابنك قبل أشهر وأشهر سيد جواد
قاطعه الدكتور جواد وأعاد سؤاله بغضب: ماذا حدث لابني؟
عندما رأى غضبه لم يرد أن يزيده غضبا فأجاب: لا أدري، لقد كنت بزنزانة أخرى
- والضباط المسئولين؟
- لقد تم نقلهم جميعاً ، ثمة إشاعة بأنه تم نقلهم لحمص
- ألا تعرف إلى أين نقلوا بالضبط أو أسماؤهم؟
- وما أدراني ؟ لم نكن يوماً أصدقاءً حتى أسألهم عن أسمائهم !
- إن لم تكن تعرف شيئاً فهنالك من يعرف
طأطأ برأسه وهو يمعن بفكرة ثم قال: هنالك رجل.. لديه علاقات مع الثوار بحمص وهو من كبار الثوار هنا ، لربما يساعدك
أعطاه عنوانه فغادر واتجه إلى ذلك الرجل ، كان اسمه "راضي" ، لقد فقد ابنه الوحيد باقتحام الجامع العمري في الثامن عشر من مارس ، الم فراق ابنه أدخله الثورة من أوسع أبوابها ، أبواب بيته المتهالكة توحي بعدد المداهمات التي شهدها ، لربما يكون قد تعب من أصلاح الأبواب فتركها على هذه الحال ، جلس الدكتور جواد قبالته وهو يتأمل وجهه الخمسيني المنهك،لقد خسرا الخسارة ذاتها فهو بالتأكيد سيتفهم تعطش الدكتور جواد للانتقام
ولكن رفضه هو ما ترك حالة من الذهول على وجه الدكتور جواد ، صاح بتعجب: لماذا؟!
لأنه لا يمكنه الثقة بأية أحد ، هذا كان جوابه ، ما كان ليعطي أرقام وعناوين الثوار لأيٍّ كان ، ورغم محاولات الدكتور جواد العديدة كان يصطدم بجدار الرفض ، خرج غاضباً بالنهاية وجلس مسرعا بسيارته ليلتقط أنفاسه بصعوبة وليهدأ من غضبه ، لا يريد لمن قتل ابنه بهذه الطريقة المروعة أن ينعم بالحياة بعد أن حرم ابنه منها ... يريد أن يراه يتعفن بالجحيم!" ... لا أحد يدري مدى حجم النيران التي بصدره حتى من أشعلها
وفجأة فُتِحَ الباب لتدخل فتاة لا تتجاوز العشرين من عمرها وتجلس بجانبه ، أغلقت الباب بعد أن ركبت و التفتت إليه ثم همست : مرحبا دكتور جواد
حدق بها بدهشة ، حتى أكملت : أنا ابنة راضي ، الرجل الذي طلبت منه المساعدة قبل قليل
ردت : أنا من سأساعدك ، سأرافقك إلى حمص فأنا بفضل والدي أحفظ كل عناوين الثوار البارزين هناك وأرقام هواتفهم
قال بحزم : ماذا تريدين بالمقابل؟
طأطأت رأسها بصمت ، كانت تبحر بفكرة أو بالأحرى بذكرى
ثم همست : لأنني أبحث عن أحدهم مثلك، ولكن الفرق هو أنه من تبحث عنه تكرهه بشدة وأن من أبحث عنه أنا أعشقه بشدة
ابتسمت وهي تريد الكشف عن حبيبها ، لأنها كانت تعي مدى التناقض بينه وبين حياتها وحياة عائلتها الجديدة : إنه عسكري بالجيش النظامي ، أحببته بشدة ... ولكنه اختفى بحمص ، ولم أعرف عنه شيئاً حتى الآن ، لعله أسير لدى ثوار حمص ، من يدري
اتسعت أحداقه للحظات ثم سرت ابتسامة خافتة على شفتيه وقال : أتريدين المجازفة بهذه الرحلة الخطيرة من أجله ؟
أجابت بثقة : نعم!.. أريد رؤيته
صاح بتهكم : لماذا؟
ردت : أنت لا تدري كم رؤية وجهه تعنيني
تمتم بلؤم كلماتٍ كانت أشبه بخنجر بصدرها : أليسوا قتلة أخاكِ؟
أغرورق الدمع بعينيها : نعم ، عندما رأيت تلك المشاهد المسربة ، هؤلاء الذين اقتحموا المسجد وقتلوا أناساً كان من بينهم أخي ،كان يتحدثون لهجة حبيبي ويرتدون ملابسً كان يرتديها ، كانوا يشبهونه بشكلٍ ما ... ما استطعت أن أكرهه ، كرهت نفسي فقط ولا زلت أحبّه!
- ما اسمكِ؟
- تالين
-وما اسمه؟
-علي
وافق على المغادرة معها بصباح اليوم التالي لأنه ببساطة لا يملك خياراً ، كانت آخر قشة يتعلق بها حلمه بالانتقام ، غادرت السيارة وودعته بنظرة خاطفة ، كانت فاتنة بكل من الكلمة من معنى ، شعرها المسترسل ، عيناها الداكنتان تخفيان بئرا من السحر
ألقت حقيبتها بالمقعد الخلفي وجلست بجانبه بصبيحة اليوم التالي ، لم ينطق بحرف منذ أن انطلقت سيارته ولكن أنفاسه كانت تضطرب كلما مرا بالقرب من مدينة يرتفع الدخان فيها أعلى من المباني التي تنهار تحت وطأة قصفٍ أعمى ، ترتجف يداه وهو يرى كيف تدمر مهد الحضارات والجمال، كما تدمرت من قبل ممالك كانت بغاية الروعة والجمال و الآن تغطيها أمتار من الرمال
همست تالين وهي تراقب غضبه : لا تحزن ... إنها بضعة جدران تُهدم ، يمكن إعادة بنائها
ردَّ : ولكن ماذا عن الأرواح بين هذه الجدران؟!
بعد ساعة من دخولهما حمص توقفت سيارتهما في جورة الشياح حسب طلب تالين التي أعطته ورقة وقالت : هذا عنوان " جاد عبدالله " وهو مصور ، يقيم في باب دريب ، اذهب وأحضره إلى هنا سأنتظرك بالمركز الإعلامي للثورة ، هو يعرف مكانه السري جيداً ، سأتحدث معه من المركز الإعلامي كي يأتي معك ، مفهوم؟
- مفهوم
انطلق إلى باب دريب ، كان هنالك انتشار أمني كثيف وحملة مداهمات و اعتقالات وكان مضطراً لفتح هويته أمام كل مجموعة من العسكريين يمر بجانبهم حتى وصل للعنوان ، كان الشارع أمام بيته خالياً من الأمن ، التفت إلى البيت فرأى جاد على السطح يصور حملة الاعتقالات التي تجري بالشارع من الجانب الآخر ، متخفياً بين أحجار "البلوك" المبعثرة هنا وهناك على السطح ، عندما صاح الدكتور جواد :"جاد؟!" لفت نظر رجال الأمن بالجانب الآخر الذين رأوا جاد وأطلقوا النار عليه ، وبرشاقة قفز جاد من على السطح باتجاه الدكتور جواد وصاح به :أركض!
وفجأة وجد نفسه يركض أمام جاد بين الأزقة و الطرقات المحفورة بجدران البيوت المهدمة نصفها والمهجورة من خلال نوافذها المشرعة ، كان جاد يقوده من الخلف بحركاته السريعة والرشيقة ومناوراته وكأنه أعتاد على مثل هذه المطاردات بمدينة يحفظها عن ظهر قلب ، يحفظ كل تفاصيلها وكل طريقٍ فيها وكل مخبأ ، تلافى بأعجوبة نيران الأمن ،حتى اختبئا بمخزنٍ قديم لمواد البناء ، ألتقط جاد أنفاسه بصعوبة ثم التفت إلى الدكتور جواد وقال : شكراً جزيلاً سيدي ، كدت تتسبب بمقتلي!
فردَّ مبرراً : لم يكن هنالك أية أمن بالطريق ولم أكن مدركاً ما لذي تفعله على السطح
قال بغضب : ما لذي أفعله على السطح بيومِ مداهمات ، لا أدري ربما " أنشر الغسيل "!
أخرج كاميرته الرقمية من جيبه وبدأ بمشاهدة ما صوره اليوم
همس الدكتور جواد : كان من المحتمل أن تقتل اليوم على أية حال
أدمعت عيناه عندما شغّل على كاميرته مقطع فيديو صوّره صديق له ، كان آخر فيديو له فقد تم قنصه بنهايته واستشهد
تمتم : نعم ، كان من المحتمل أن أُقتل اليوم وهذا الاحتمال يتجدد بكل لحظة أشغّل عدستي بها ، كثير من أصدقائي قتلوا في سبيل لقطة ، وأجدني أشتاق للموت في سبيل لقطةٍ أيضاً
- لماذا تفعل هذا؟ ... لماذا تعرض نفسك للخطر وللموت ؟ تستلقي على سكة قطارٍ قد يمر بأية لحظة
- كي يرى العالم ماذا يحدث هنا
- لماذا ؟ ... ماذا تنتظر من العالم؟
- لا شيء ، لأنني لا أتوقع شيئا !
بعد لحظات صمتٍ همس جواد : ما اسمك؟
- اسمي جواد أكرم،لقد أتيت لأخذك للمركز الإعلامي بجورة الشياح
- أعرف ذلك ،لقد اتصلوا بي من المركز الإعلامي ، أردت التأكد فقط
بعد ساعاتٍ انتهت حملة الاعتقالات وخرجت قوات الأمن من الحي ، فأستطاع جواد وجاد العودة أخيراً للسيارة والعودة لجورة الشياح ، حدد له جاد مكان المبنى الذي يوجد به هذا المركز السري ، كان قبو هذا المبنى ، وكان أشبه بوكالة إخبارية فقد كانت الحواسيب تنتشر على طاولاته والهواتف لا تتوقف عن الرنين فقتيل هنا وقتيل هناك ، وترتجف الأصابع وهي تطبع أخباراً على الشاشات يندى لها الجبين ، عشرات القتلى كل يوم ، بنشرات الأخبار هم مجرد أرقام وعلى أرض الواقع أرواحٌ عاشت وأحبت وتركت ورائها قلوباً انفطرتم لرحيلهم ، لكل منهم قصة ولكن قصصهم لم تنتهي بموتهم فهنالك دائما من يكمل مشوارهم على هذا الطريق الشائك
عند دخولهما المركز استوقفهما رجل سمين ضاحكاً : جاد ، تعال وشاهد المظاهرة التي قدتها البارحة على الإنترنت ، لقد ألفتُ أغنية جديدة
فردَّ جاد ساخراً : هذا رائع ،انتبه لحنجرتك يا صديقي فقد يتم اقتلاعها !
ارتبك الرجل وصاح : توقف عن هذا المزاح السخيف ... وقد يتم اقتلاع عيناك إن تم القبض عليك أنت أيضاً، كما حدث مع ذاك المصور
ثم خرج الرجل مسرعاً
فقال الدكتور جواد : ألا تخشى هذه النهاية المروعة؟
- لو لم أتخلى عن الخوف لما سلكت طريق الثورة
- ولكن صديقك السمين هذا لم يتخلى عن الخوف
- هذا لأنه دخل الثورة من أجل المال والشهرة ، ستتفاجأ كم هنالك مرتزقة بهذه الثورة ، أشخاص كانوا بلا عمل ، كانوا لا شيء ، ووجدوا بالثورة كل ما كانوا يفتقدونه ... أموال تُرسل إليهم من الخارج من أجل من تضرروا ومن تشردوا وهم يأكلونها بالباطل ، وبفعل سلاحٍ يحملونه أصبح لهم وزنٌ وكلمة زائفين ، حتى لو أصبحوا "ثوار" فهذا لا يمحي ماضيهم ولا يغير ما كانوه بالبداية وما هم الآن تحت اسم"ثوار" ، الكلب يبقى كلباً حتى لو غير اسمه
- إذا لماذا أنت معهم الآن ؟
- لأنني اتبّع المبدأ ،كما أتبّع الإسلام وليس المسلمين فكثير من المسلمين ظلوا
- الثورة بهذا الشكل ضد نظام بشراسة النظام السوري فكرة ليست بالحكيمة بالنسبة إلي ، عندما تصادف كلباً مسعوراً يجب أن تتلافى مواجهته
- إلى متى ؟... مهما فررنا من مخاوفنا سيأتي يوم نواجهها فيه عاجلاً أم آجلاً
قاطعتهما تالين : وأخيراً وصلتما ! ، خلتُ أنكما لن تأتيا أبداً
جواد : وها نحن هنا
تالين : هنالك مجموعة من الجيش الحر هنا ستغادر لباب عمرو وسنذهب معهم ، ستتمكن عندها يا جواد من مقابلة قيادات كبيرة هناك
مرت ساعة وتالين جالسة تنتظر على أحد المقاعد الجلدية جانباً ، تنتظر مغادرة الرحلة ، قلبت بين رسائل حبيبها في مخيلتها لعلها تجد ما يدلها على مكانه الآن :
حمص 3/11/2011
حبيبتي :
لا شيء سوى حبك سلاحاً أملكه ضد الكراهية التي يطلقها الناس ضدي بالشارع ،كل من ارتدى بذلة عسكرية هو ظالم بنظرهم ، كيف أغير هذه الفكرة ؟!، ليس كل عسكري قد تلطخت يداه بالدماء
أجلس وأراقب سكون ، الشوارع خاوية كجسدي تماماً ، عالم خاوي ، ألتفت لرسائلك لأجد عالمي ... حروفك هي ما ملئت عروقي بتلك الروح ، بعد أن غابت كل الأرواح من حولي ، جميع الوجوه مرهقة ، متعبة ، خائفة ... كلنا نعرف أننا سنموت ولكن متى وأين لا أحد يدري !
جميعنا نعرف من الضحايا ولكن لا أحد يدري من الجاني ... الجميع هنا ، كل الأطراف تجد نفسها مظلومة ولكن من الظالم؟!
الخوف والكراهية هو كل ما نراه بأعين الناس هنا ، فقط طفل واحد تجرأ على قول :" الله يحميك" لي ، قالها بصوتٍ منخفض كي لا يسمعه والده ، من المضحك أن يطالب بالحرية ويحرم ابنه منها...
سيظل حبك سلاحاً لي لمواجهة جيشاً من الكراهية!!
حمص 7/11/2011
حبيبتي : تحدثت مع والدتي اليوم بالهاتف ، كذبت عليها .. أخبرتها بأنني بمكتب ولا أضطر لحمل سلاحاً حتى ، وأنني بخير وبصحة جيدة ، فاجأني صوت بكائها ، وكأنَّ مشاعرها كأم أخبرتها بأوجاعي و بحقيقة ما أمر بها ، لن أنجح أبداً بالكذب على أمي ، إنها تشعر بما أشعر به
عندما أغلقت سماعة الهاتف داهمني البكاء أنا الآخر ، الحنين يقتلني ... عندها شعرت بشفاهك على عنقي ، سمعت همساتك التي أطفأت أنيني ، أتكأتي على كتفي بغنج فما أجملك طفلتي!
التفت حولي بدهشة ، لم أجدك .. أكنتِ حقاً هناك ،أم هذا فقط ملاك الحب جاء بطيفك إلي ليواسيني بلحظة انكساري وألمي
حمص 10/11/2011
لا زال البعض ينتظر النصر والبعض الآخر ينتظر الفرج وأنا لازلت أنتظر رؤية وجهك واللحظة التي سترتجفين بها بين ذراعي..
تأخرت رسائلك ، بالرغم من أنكِ تعرفين أن لا مسكن لألمي سوى كلماتك ، رسائلك المهرب الوحيد لي من هذا الواقع المؤلم ، فقط قبلاتك هي ما ستنير الظلمة الدامسة بقلبي الذي يجاهد للبقاء حيّاً
حمص 13/11/2011
اليوم، لا يمكنني أن أحدثك عن الحب وأنا أغسل جسدي الملطخ بدماء أصدقائي ،كنا نسير بسيارة إلى قدرهم عندما أطلقوا النار علينا ، لا أدري إن كانت حقيقة أنني لم أصب بمكروه هو حظ جيد !...قفزت من السيارة لأهرع و اختبأ بباحة أحد البيوت ،أردت أن أرى عدوي ،رأيته بعينان كادتا أن تصرخا من شدة غضبهما ،كان هو الرائد ذاته الذي أخبرتك عنه بأنه أعز أصدقائي ، كان قائد تلك المجموعة ، كان صديقي ... أو كان من خلته صديقا ، والآن صنع من نفسه عدوا لي
وأنا أخلع قميصا عليه دماء عزيزة على قلبي ،وقفت أمام المرآة وأنا أحدق بانعكاسي ،لم أعد أميز بين العدو والصديق ،بين الصواب والخطأ ، لم أعد أعرف حتى نفسي!... أنظر إلى نفسي بالمرآة وأتساءل هل أنا مذنب أم ؟!!
انهرت باكيا على الأرض وتمنيت لو كانت صدرك لأبكي عليه أصدقائي الواحد تلو الآخر ،وأبكيهم بمرارة
هاأنا ذا أفرغ جام غضبي على الصفحات البيض التي سأرسلها وهي تشتعل إليكي
سامحيني حبيبتي إن أسأت إليكي يوما ،سامحيني على كل شيء ، سامحيني حتى على حبك ! ... لأنني صرت حبيبا لك وأنا أرى ملاك الموت يحوم حولي وينتظر اللحظة المناسبة لأخذي بعيدا عنك ،سامحيني على الجرح الذي سأخلفه بقلبك عندما أرحل..
أعرف جيدا أنني وعدوي ذاك سيقتل أحدنا الآخر يوما ،أشعر بذلك بعمق ،سيقتلني أخي ... كم أمضني الواقع الذي وصلنا إليه"
كان عليها أن تعرف من هو "الرائد" الذي حدثها عنه برسالته فلعله مفتاح اللغز ، عادت بها الذكرى إلى ذلك الصباح ببيت علي بالقرب من الشاطئ ،قابلته هناك واستيقظت بصبيحة اليوم التالي ولم تجده بجانبها ، حتى استوقفتها صورة لعلي مع رجل آخر موضوعة على طاولة بغرفة الجلوس حدقت بالصورة للحظات حتى استوقفها صوت علي :"إلام تنظرين؟"
التفتت إلى علي الذي كان يدخن سيجارته على أريكة بغرفة الجلوس ،لشدة تركيزها بالصورة لم تلحظ دخوله
قالت :إلى هذا الرجل ،أهو شقيقك؟
علي :لا أكثر من ذلك
تالين :أنه رفيقك بالجيش
علي :نعم ،برتبة رائد
تالين :ولكنك أنت أيضا برتبة رائد بالرغم من أنه يكبرك بعشرة أعوام على الأقل
طأطأ برأسه وهو يأخذ نفسا طويلا من سيجارته ،هو يعرف جيدا أنه مازال شابا يافعا ولكن ما جعله يقفز لهذه المرتبة هو طائفته
سألته تالين :ما اسم صديقك؟
علي :اسمه...
حاولت تالين تذكر اسم الرائد أو شكله ولكن الذاكرة خانتها
أستوقفها صوت جاد:حان وقت المغادرة
سارت معه خلال الممر الطويل حيث سألها :ألازلتي تذهبين للجامعة؟
كانا يدرسان بالجامعة ذاتها وبالفرع ذاتها ،كلية الأعلام و الصحافة بالسنة الثانية ، ولكن أيّا منهما لم يذهب لدوامة بسبب الأوضاع التي يمران بها
ابتسمت وأجابت بلا ، ثم ركبت سيارة الجيب السوداء بصحبة جاد وجواد وعناصر من الجيش الحر ،عبر النوافذ كان هنالك من يهتف للجيش الحر عند مرور الموكب ومنهم من يرسل نظرات حاقدة إليهم ،فهم يعتقدون أن الجيش الحر يجلب الخراب والدمار لكل مدينة يحلون فيها
نام جواد على مقعد السيارة واستيقظ على صوت تالين :بابا عمرو ترحب بك!
ألتفت إلى النافذة ليرى هذا الحي الذي رمى الموت بظلاله عليه ،مشاهد كئيبة لأبنية قد دمرت ،لوجوه قد فقدت أغلى ما تملك ،لا خيوط استطاعت أن تتسرب من بين الغيوم الداكنة بالسماء ولا الدفء استطاع أن يدخل قلوب الناس التي جمدها الحزن هنا
سأله جاد :بماذا تفكر؟!
أجابه :قريبا ... مع استمرار القتال هنا لن يبقى هنالك جدار ليعلق عليه نعوا لبابا عمرو
جاد :هذا ليس صحيحا ،لن تموت أية مدينة في سورية
جواد :ما لذي يدفعك لقول هذا مالذي يدفعك للابتسام والتفاؤل بالغد ضمن هذه الكارثة التي تسمونها ثورة
جاد :ماذا عسانا أن نفعل أصبح كل السوريين يرددون مقولة نزار قباني "لو كنت أعرف أن هذه خاتمتي ما كنت بدأت!"
عندها سقطت قذيفة بالقرب من الموكب ، كانت بداية لاشتباكات بين الجيش الحر والجيش النظامي ، انحرف السائق مذعورا بسيارته ليوقفها بجانب إحدى المباني وبسرعة خرج الركاب من السيارة ودخلوا المبنى ، كان المكان يهتز بالداخل ويرتجف عند سقوط كل قذيفة أو عند كل انفجار صعد جاد إلى السطح يرغم تحذير الجيش الحر لأن تصوير معركة بهذا القرب أمر بغاية الخطورة ،وبعد ساعات انتهت المعركة وحصيلتها كانت قتلى سوريين من كلا الجانبين أيا كان المنتصر ،تمكن الجيش الحر من أسر عدد من الجيش النظامي سار الرائد كمال بينهم حتى صاح به أحد الأسرى :أنت مجرم! ... لقد قتلت صديقي ،كان من دير الزور وليس من تل أبيب !! ... نحن سوريين مثلكم ألا ترون ذلك؟!!
لم يرد عليه بحرف أمعن بوجوه رفاقه الأسرى بأسىً أجتاحه ،ذاك الشعور لم يتوقعه بعد معركة أنتصر بها ، "أنهم أبناؤنا" هكذا قال لجاد مساء ذلك اليوم بعد أن أجتمع به بمكتبه ،"يقاتلوننا بأبنائنا " زاد على كلامه ،ابتسم جاد وقال : أتشعر بتأنيب الضمير تجاههم؟
الرائد كمال :كثيرا .... أأنا قاتل أم ضحية سؤال يتردد ببالي كثيرا؟!
جاد :ربما قاتلكما واحد ،وكلا الطرفين ضحية ،الرجل الذي زجهم وورطهم بالقتال هو ذاته الذي أجبركم على قتالهم
طأطأ رأسه وهو يمعن بساعته ،ثم قال :لقد اتصلت بالعقيد وقال بأنه يستطيع مقابلة صديقيك عند الساعة الثالثة لذا سأرسل معكم أحد عناصر لإيصالكم لمكتب العقيد الآن...
وما هي إلا ساعة حتى استطاعوا الدخول لمكتب العقيد ومقابلته ،رحب بهم العقيد ثم جلس وهو يقول لقد علمت ما حدث لأبنك و يؤسفني ذلك
رد : ومن أجل هذا أنا هنا من أجل ما حدث لابني
العقيد:نحن سنساعدك على قدر استطاعتنا وأنت مرحب بك هنا بالمدينة التي تحررت
هز جواد رأسه وهو يكرر ساخرا مقولة العقيد :"المدينة التي تحررت"
رد العقيد : ألديك اعتراض على ذلك؟
الدكتور جواد :انظر عبر نافذتك الكبيرة وأمعن النظر بمدينتك التي دمرت ،لم تحرروها ... لقد قتلتموها
رد العقيد بتشنج :لقد جعلنا منها أسطورة!
سكت الدكتور جواد بعد سماعه لرد لم يقنعه ،وأكمل العقيد:سيتحدث الناس جيلا بعد جيل عن الحي الذي صمد ،سيكون تاريخها شعلة لهم
شعلة ؟!!... وماذا كان وقودها أليس دماء الأبرياء ؟! ،طفل بعد طفل امرأة بعد امرأة كان ثمن صمود هذا الحي ،يحملون السلاح من أجلك سوريا ...وماذا حملوا لك سوى الألم؟!!
عندها دخل أحد الحراس وقال :سيدي هنالك عنصر يريد التحدث إليك
العقيد:ألا يمكنه الانتظار حتى أنهي مقابلتي مع الدكتور جواد؟
الحارس:لا ،يقول إن الأمر يخص الدكتور جواد
فقال العقيد بدهشة :حقا؟...فليدخل إذاً
عندها دخل شاب لا يتجاوز العشرين من عمره بلباسه العسكري وسلاحه ،كان شكله مألوفا بالنسبة للدكتور جواد ولكنه لم يكن متأكداٍ أين رآه ،بدأ بالتحدث باللهجة الحورانية بعد عرف عن نفسه باسم "وسيم" قال :أتيت أطلب عفوا أعرف جيدا أنني لا أستحقه دكتور جواد ،ما كان ينبغي أن آخذ طفلاً إلى مكان خطر ليقع بأيدي وحوش على شاكلة بشر
لم يرد الدكتور جواد على طلب الغفران الذي قدمه وسيم ، لم يكن متأكدا من أنه قد يستطيع مسامحة أحد على ما حصل لأبنه ،لم يستطع حتى مسامحة نفسه ،فقط نطق بصعوبة :أخبرني بالتفصيل ماذا حدث؟!
أجاب :كنا خارجين من المسجد بتلك الجمعة ،وكان أحد الرجال يحشد لمظاهرة للذهاب إلى درعا وفك الحصار عنها ،كان الجميع منجر وراء العاطفة ،لم يفكر أحد بحكمة ، فكيف نذهب بصدور عارية إلى مدينة يحاصرها الأمن والجيش بمدرعات ودبابات ولكن الاندفاع الغير مخطط له ،كان سيد الموقف ، وحتى الرجل الذي هيج الناس ودفعهم إلى الذهاب عاد إلى بيته من أجل تناول الغداء مع عائلته وكأن شيئا لم يحدث!!
المهم أقترب مني حامد خروجنا بدقائق وعندما ركبت دراجتي النارية ، ألح علي بالذهاب معي ،وافقت عندها وركب ورائي ،كان كل شيء يسير بشكل طبيعي حتى اقتربنا من مساكن الضباط بصيدا ، و بدءوا بإطلاق النار على التظاهرة ،كان الرصاص يأتينا من كل ناحية ، السيارة كانت ترتطم ببعضها بشكل جنوني ،الدماء صبغت الشارع ،وأما أنا فسقطت عن دراجتي مع وحامد ،وعيي للحظات وما إن فتحت عيناي حتى رأيت حامد يركض مذعوراً باتجاه بساتين الزيتون القريبة ، لم يكن ببالي سوى فكرة واحدة "ربّاه ،أنا من أحضرته لهنا ،للموت !!"
نهضتُ مترنحاً بجسدٍ يكسوه الألم ،ولحقته ،هرعت بين أشجار الزيتون أبحث عنه ولكنني لم أرى سوى وجوه لونها الخوف بألوانه الشاحبة وهم يجرون قتلاهم وجرحاهم إلى البساتين لعلهم يجدون مابين أغصان الزيتون المسالمة رادعاً لرصاص الكراهية ،وفجأة رأيت حامد ولحقته إلى أن دخلت بيت بالبستان وتبعته إلى القبو ،فاجأني أحدهم برطمي إلى الجدار ثم بالأرض وتقييدي،ألتفت إلى حامد ورأيته يجر أيضا إلى سياراتهم ،كان مذعوراً..
اضطربت أنفاس الدكتور جواد وهو يهمس :وماذا حدث بعدها ؟... أكنتما بنفس الزنزانة؟!!
أجاب :نعم ،كنا أربعين شخصاً بالزنزانة وكان بيننا أطفال كحامد ،وبدئوا يجروننا شخص بعد شخص وساعة بعد ساعة إلى غرفة التحقيق ، الضرب والشتائم لم تكن تتوقف كذلك التفنن بالأجرام ، كم كنت أشتهي أن أبصق بوجه المحقق لو لا خوفي بأن أمنحه شرفا لا يستحقه ،البعض كان يذهب ولا يعود منه سوى صرخاته الأخير والبعض الآخر كان يعود ليلفظ أنفاسه الأخيرة ،ففي هذه الزنزانة المظلمة والباردة وعلى تلك الأرض القذرة كان ترتقي للسماء أنبل الأرواح!
يوم بعد يوم كان يرحل رجل منا ،كنت أحتسب على الجدران كم مضى على وجودي هناك ولعلي أحتسب كم أقترب مني الموت ،فكلما مضى يوم ورحل معتقل أقترب مني الموت أكثر ، وذات يوم جرَّ الأمن حامد لغرفة التحقيق ولم يعد ،ومرت أيام وأيام وأنا أجر لغرفة التحقيق ،ولكن الألم الذي كنت أقاسيه هناك لم يكن أقسى من ألم تأنيب الضمير ،وكلما كان يضربني المحقق كنت أصرخ في أعماقي :"أقوى ،أقوى أرجوك ،فالذنب ذنبي أنا من جلبت طفلاً ليموت هنا"
وبالنهاية وجدت نفسي لوحدي بالزنزانة ،كل من كانوا هنا أصبحوا مجرد ذكرى لمن كان يعرفهم ،بتلك الليلة وقفت أنتظر رجال الأمن فقد حان دوري أخيراً ،"سأموت الليلة ؟!" ... ولم لا؟!! ... فلقد ماتت فيّ كل ابتسامة ،كل ضحكة ،وكل قطرة سعادة وإحساس ... بالإنسانية،أنا ميت مسبقاً ولا يمكن أن يؤلمني تعذيبهم ، عندما سمعت صوت الباب العلوي وأصوات أقدامهم الثقيلة على الدرج انتصبت ورفعت رأسي ،"لن اخفض رأسي" هكذا تمتمت ،فإن نظرت للأسفل لن أرى سوى قبور أصدقائي ،فتحوا باب الزنزانة وقالوا لي كلام لم أتوقعه :"يمكنك الخروج الآن ، لقد صدر عفو من السيد الرئيس ، إنها مكرمة من سيادته "
أحقاً قد غفر لي الرئيس ؟!!... بعد أن قتلتم أصدقائي وعذبتموني وقتلتموني وأنا على قيد الحياة ،أنا ... كيف لي أن أغفر لرئيسكم ؟؟!!
أقترب منه الدكتور جواد وهو يحاول جاهداً ألا يبكي ولكن دموعه سالت رغماً عنه وهو يهمس :هل سمعت آخر صرخات حامد ؟... كيف كانت؟...هل صرخ: (أبي) ؟!...هل صرخ باسمي؟...
أجهش بالبكاء :كيف كانت آخر صرخاته وأنا لا أتذكر منه سوى ضحكاته ؟!
أجابه:حدثني عنك ،قال أنك تريد أخذه لحضور مباراة باسبانيا ،وبأنك كنت تطبخ له عندما كنت تعود من فرنسا ،وكان طبخك سيئاً جداً
أطلق ضحكة بوجعٍ فضيع بين دموعه المنهمرة بغزارة ،الآن أدرك كم كان يعشق ابنه ،كم كان حبه مزروعاً بقلبه وملتصقاً بعظامه ولكنه كان مشغولاً جداً ليلاحظ ذلك!!
بعد أن هدأ الدكتور جواد بدأ بتوجيه الأسئلة لوسيم :أتعرف ما اسم الضابط المسؤول؟
وسيم:المحقق؟... لقد أسقط محفظته بالقرب مني ذات يوم ،كنت ممداً على الأرض وأتلوى من الألم ،لمحت اسمه وعلى الرغم من الدوار الذي انتابني جراء التعذيب إلا أنني حفظته عن ظهر قلب ،كما لم أستطع محو وجهه عن ذاكرتي ، اسمه "رأفت توفيق" وقد علمت أنه تم نقله إلى إحدى القواعد بريف حمص ولهذا أنا هنا ،أتيت من درعا وانضممت إليكم هنا
العقيد :رأفت توفيق ،سنقوم بالتفتيش عن هذا الضابط ،وسأبلغك بأية جديد دكتور جواد
أومأ الدكتور جواد برأسه ثم خرج هو وتالين من المكتب وسارا سويا عبر ذلك الممر الطويل الذي كان يقف بنهايته الرائد كمال ،وما إن رأته تالين حتى قفز بسرعة إلى مخيلتها صورة الرائد كمال مع علي واسمه الذي أخبرها عنه علي
صاحت : الرائد كمال!
التفت إليها الرائد وهي تقترب منه ، ثم قالت :أين علي؟.. أين صديقك؟
همس بدهشة :ماذا ؟!
أخرجت صورة لعلي من محفظتها وأعطته أياها وهي تقول :أرجوك أجبني
بدا صوتها المتوسل وكأنها تقول أرجوك اشف قلبٍ سيموت بمرضٍ اسمه الشوق ،الولع ،الجنون ،الحنين...له أسماء كثيرة والموت واحد!
أمسك الصورة بيدٍ مرتجفة ونظر إليه بعينين دامعتين
قال عندها الدكتور جواد :مالذي يجري تالين؟
التفتت إليه وقالت له بغضب :لقد وعدتني بأن تساعدني ،والآن ساعدني!
قال الرائد بارتباك بعد لحظات من الصمت و الإمعان :من أنتِ؟
أجابت :فتاة تهمها أمره!
أكمل ولم يزل ارتباكه :حسناً ..سآخذك... لهناك
قالها وهو يسير مسرعاً باتجاه باب الخروج ،بدا وكأنه يهرب وكان يجب على تالين أن تتبعه ،تبعته هي والدكتور جواد وركبا معه بسيارته ،لم تنطق بحرف وهي تنظر إليه كقشة تتمسك بها خوفا من الغرق وبدأ بالإجابة دون أن يطرح عليه أحد أية سؤال : لقد قمنا بنصب كمين لرتل من القوات ،لم يكن رتلاً كبيراً وقد قتل الجميع ،ولكن هنالك عسكري واحد استطاع النجاة وبدأ جميع العناصر بالبحث عن هذا العسكري الذي قفز عن شاحنة الموت ،ولكنني أنا الوحيد الذي رأيته ،كان علي ...أمعن كلانا بعيني الآخر ،لم أستطع فعل شيء ،تركته يفر ،سنوات الصداقة والمحبة لم أستطع محوها بلحظة ،ظللت طوال الليل أفكر به ،كان كل ما فعلته ضعفاً وكان علي أن أقتل ضعفي ، أن أقتل مسببه ،وهذا ما عملت على فعله ..
أوقف السيارة جانباً ونزلوا جميعهم ،عند دكان مغلق أخترق بابه عدة طلقات وكان هنالك جدار بالجانب ملطخ أسفله بحمرة الدم
أكمل الرائد كمال :لم ينجو من الكمين الثاني ،زحف من سيارته حتى هذا الجدار ليتلفظ أنفاسه الأخيرة هنا..
وقفت تالين تتلمس دماء حبيبها الملطخة على الجدار ثم انفجرت تصرخ :"أيها المجرم ،أيها القاتل!" كانت تريد أن تهجم على الرائد كمال لو يمسكها الدكتور جواد ويمنعها من ذلك ، كانت تريد تمزيقه إلى قطع صغيرة لتسد بها الثقوب الذي أحدثها بقلبها ، تريد لو تشفي بصرخاته ألمها الفظيع
صاح بها الرائد و رجفانه ووجهه الأحمر يؤكدان بأنه يحاول بصعوبة ألا يبكي ولكن دموعه سالت رغماً عنه بنهاية المطاف : أتمنى لو لم أكن مضطراً لقتله ،أنا القاتل الذي تألم أكثر من ضحيته!!
عندها انهارت باكيةً على كتف جواد وجوارحها تصرخ :علي!
لم تتوقف لحظة عن البكاء عندما ألقاها مساء ذلك اليوم لعلّها تهدأ ،همست له : أرجوك أعطيني دواءً يوقف هذا الألم ، أفعل شيئاً ينسيني رحيله
أجاب : عندما أتمكن من نسيان رحيل ابني سأجعلك تنسين رحيله!
همست :ربما إن حصلت على انتقامك ،للانتقام طعم حلو
رد :ولكنه مر بالوقت ذاته
جعلها تشرب فنجان يانسون مع أقراص منومة لعلها تهدأ قليلاً وتركها لتنام
كان جاد ينتظره عند الباب حتى خرج وأخبره بما وصلهم من الكتائب بريف حمص ،استفتح بقوله :"أنت محظوظ دكتور جواد!"
رد قائلاً:لو لم أدفن ضحكتي مع ابني لكنت ضحكت على هذه المزحة
أكمل جاد :لا ، حقاً... لقد أبلغنا قائد الكتيبة هناك أنهم يخططون للهجوم على القاعدة التي يتواجد فيها غريمك فجر اليوم ،لذلك علينا التوجه لهناك
الدكتور جواد:ومن سيوصلنا لهناك
أجاب:مجموعة من عناصر الجيش الحر ،يريدون المشاركة بالهجوم
شقت سيارتهم السوداء جنح الظلام وما هي إلا ساعتين حتى وصلوا للقاعدة ،كانت المعركة قد بدأت منذ ساعة مبكرة عن موعدها ، نزل العناصر وتوجهوا فوراً للقتال وأما جواد وجاد فاقتربا من الملازم أول "أحمد" الذي كان يدير المعركة من بعيد ويراقب مجرياتها ،قال له الدكتور جواد :لقد اتصل بك العقيد وتسليمنا الضابط "رأفت توفيق"حيا إن انتصرتم هنا
التفت إليهم الملازم وقال :هذا ما لا أستطيع ضمانه لك
ساعة بعد ساعة كانت يمر وقت المعركة ثقيلاً وكأنه أشهر... لا بل سنوات
ساعة بعد ساعة كان الدكتور جواد يقف وأفكار الانتقام تتلاطم برأسه كتلاطم أمواج البحر بليلة عاصفة ، يراقب مجريات المعركة ولا يدري إن كان بانتقامه هذا سد جرحه العميق، إلتفت إلى وسيم الذي كان يقاتل ببسالة أكثر من أي وقت مضى ،لأن الأمر يمسّه الآن
وبلحظة أستطاع الجيش الحر اقتحام القاعدة وأستسلم كل من بقي فيها على قيد الحياة ،وجد الدكتور جواد نفسه يركض إلى داخل القاعدة وبين ممراتها ، حتى وجد وسيم يقف على جثث لعسكريين
قال جواد :أين الضابط؟
وسيم :هذا هو..
أشار إلى إحدى الجثث،فوقف الدكتور جواد مصدوماً وهو يحدق بجثة الضابط
أكمل وسيم: يؤسفني أنك لن تستطيع الحصول على انتقامك كما كنت تريد ،ولكن رؤيته ميتاً هكذا لعلّه يشفي بعضاً من الألم الذي أشعرك به بقتل ابنك
هزَّ برأسه ودموعه تسيل بغزارة ثم قال : إنه ليس قاتل ابني ، من ينزع النور عن عيني ملاك لا يمكن إلا أن يكون شيطاناً
وسيم :إنه شيطان بالفعل ولكن على شاكلة بشر ، نستطيع التأكد على الأقل بأنه لن يستطيع إيذاء أحد كما أذانا بعد اليوم!
فعاد وزحف إلى أقرب جدار ليسند ظهره عليه , كانت دماءه تسيل كدموعٍ بعيونٍ غاضبة , ولم يكن هنالك ما يوقفها , تلمس رسالة حبيبته بجيبه , يتلمس كلماتها ويودعها كما يودع الحياة ... تذكر كم كان يلقي بمشاعره على الصفحات البيض ليرسلها إليها ملطخة بدماء الألم"
أنهى الدكتور جواد محاضرته وعاد بأقدامٍ متعبة إلى مكتبه بجامعة السور بون في فرنسا , كان يشعر بالرياح تجري من خلاله, الشعور ذاته الذي شعر به عندما فقد ابنه قبل أربعة عشرة عاما , تلمس صورة ابنه والشوق إليه لا ينفك يعتصره, فابنه يعيش مع جدته بسوريا , قال لصديقه الدكتور جواد : " لابد وأنني أسوأ والد بالعالم !.. لقد مضى ستة أشهر دون أن أتحدث مع ابني
فكلما كان يتصل بابنه كانت ترد عليه جدته بأنه ليس بالبيت أو أنه لا يرغب بالتحدث لأبيه لأنه ببساطة أخلف بوعده بالعودة لسوريا وأخذه لاسبانيا لحضور مباراة لكرة القدم بين فريقي " برشلونة وريال مدريد" , لم يستطع فعل ذلك بسبب انشغاله بعمله , سأله صديقه جاك: لم لا تعود لسوريا من أجل ابنك؟
أجاب : لأنني لا استطيع ذلك , علي إكمال العام الدراسي
لطالما فضل الدكتور جواد العمل على ابنه , وربما هذا هو السبب الذي دفعه لابقاءه في سوريا مع جدته بحجة أنه يريد أن يتربى بوسطٍ عربي ، حجة لم تقنع حتى ابنه البالغ من العمر ثلاثة عشرة عاماً
سأله الدكتور جاك: ما اسمه؟
أجاب : حامد
ولكن الأمر تغير عندما تحدث مع قريب له على الهاتف, فقد قال له : يؤسفني حقاً ما حدث لابنك دكتور جواد
"ماذا حدث لابني؟!" سؤال كان كصرخة خرجت مدوية من حنجرته , لقد اختفى قبل شهور وكانت جدته تحاول إخفاء الأمر عن ابنها الدكتور جواد طوال الشهور التي مرت , " كيف اختفى ؟!" ... تم اعتقاله ولا أحد يدري ماذا حل به وأين هو
وفجأة وجد نفسه يرتجف على مقعدٍ بطائرة العودة لسوريا, الآن بعد سنواتٍ من إهماله لابنه استيقظ فجأة , وشعر بالنعمة بعد أن فقدها
هرع لداخل بيته وهو ينادي : "أمي .. حامد"
لم يجد أحد سوى الخادمة التي أخبرته بأنها ذهبت لإخبار أحد أقاربها بأنها تريد الذهاب معه للمشرحة للتعرف على حفيدها
"مشرحة ؟..أية مشرحة؟!" تجمدت حبات العرق اللؤلئية على جبهته وهو يتمتم بهلع هذه الكلمات ثم ترنح إلى سيارته القديمة واتجه للمشرحة المقصودة ليجد ابنه متمددا على أحد أسرة المشرحة وجسده مقرحا بالجروح وآثار التعذيب
قال له الضابط المسئول بالمشرحة ببرود : أهذا هو ابنك؟
أمعن به الدكتور جواد بأنظار مصدومة , كان مشهدا مروعا فالجثة كانت مشوهة كثيراً
صاح بهلع: هذا ليس ابني!... ابني كان أجمل صبي .. كانت عيناه زرقاوتين كالسماء وبشرته بيضاء كالثلج , كان أجمل صبي .. هذا ليس ابني!!
دُفِنَ ابنه وأصبحت جثته تحت التراب وأما هو فكان جثةٌ أخرى فوقها ، يتهادى وهو يحوم بغرفته مصدوماً، لم يكن لجسده المثقل بالآلام أن يعرف الراحة بليلة كالحة كهذه ، " لماذا فعلوا هذا بابني ؟!"
اتجه لغرفة والدته وصاح بها بغضب : لماذا لم تخبريني ؟! لماذا لم تخبريني بأمر اختفاءه؟!
أجابت بحزم : ماذا كنت ستفعل إن أخبرتك؟ ... كنت على الأغلب ستتركه كما تفعل بكل مرة .. كما تركته لسنوات هنا
صرخ : أحب ابني!،أعشق ابني!... لقد قتلوني قبل أن يقتلوه
ردت: حقاً، كنت تحبه ؟... لماذا لم تشعره بذلك وهو على قيد الحياة
كان يحاول أن يلقي اللوم على والدته كي يخفف القليل من عذابه ولكن ردودها القاسية زادته عذاباً
بكى بكاءً مريراً طوال الليل ، ولكنه لم لآلامه بلسماً أفضل من الانتقام ، ظلت هذه الفكرة تنخر برأسه حتى أشرقت شمس اليوم التالي ، اتجه إلى احد أقاربه الذين تم اعتقالهم بالحادثة التي اعتقل بها ابنه ، ولكن الحظ حالفه بالخروج الحظ الذي لم يلتفت إلى حامد أبداً
بالرغم من أن آثار التعذيب والضرب كانت بادية على جسده ، كانت هنالك ابتسامه مرسومة على شفتيه ربما كانت ابتسامة ساخرة من الموت الذي لم ينل منه ، رحب بالدكتور جواد وجلسا سويّاً بغرفة الجلوس، بدا مستمتعاً بخيوط الشمس المتسللة من النافذة والمرتمية على وجهه ونسمات الهواء التي كانت تراقص الستائر الرمادية بالغرفة قال بعد لحظات صمتٍ : الإنسان لا يقدر الحياة إلا بعد أن تصبح حياته على المحك ، لم أصدق هذه المقولة حتى عشتها، لم أستمتع بالشمس هكذا من قبل ، ولم أستلذ بكل نفسٍ أستنشقه إلا بعد أن حرموني أنفاسي لأشهر ... وحرموني الشمس والحياة ، للحق أقول ... لقد حرمونا كل هذا لأربعين عاما مضت
- ماذا حدث لابني؟
- انظروا من استفاق من غيبوبته !.. لقد اعتقل ابنك قبل أشهر وأشهر سيد جواد
قاطعه الدكتور جواد وأعاد سؤاله بغضب: ماذا حدث لابني؟
عندما رأى غضبه لم يرد أن يزيده غضبا فأجاب: لا أدري، لقد كنت بزنزانة أخرى
- والضباط المسئولين؟
- لقد تم نقلهم جميعاً ، ثمة إشاعة بأنه تم نقلهم لحمص
- ألا تعرف إلى أين نقلوا بالضبط أو أسماؤهم؟
- وما أدراني ؟ لم نكن يوماً أصدقاءً حتى أسألهم عن أسمائهم !
- إن لم تكن تعرف شيئاً فهنالك من يعرف
طأطأ برأسه وهو يمعن بفكرة ثم قال: هنالك رجل.. لديه علاقات مع الثوار بحمص وهو من كبار الثوار هنا ، لربما يساعدك
أعطاه عنوانه فغادر واتجه إلى ذلك الرجل ، كان اسمه "راضي" ، لقد فقد ابنه الوحيد باقتحام الجامع العمري في الثامن عشر من مارس ، الم فراق ابنه أدخله الثورة من أوسع أبوابها ، أبواب بيته المتهالكة توحي بعدد المداهمات التي شهدها ، لربما يكون قد تعب من أصلاح الأبواب فتركها على هذه الحال ، جلس الدكتور جواد قبالته وهو يتأمل وجهه الخمسيني المنهك،لقد خسرا الخسارة ذاتها فهو بالتأكيد سيتفهم تعطش الدكتور جواد للانتقام
ولكن رفضه هو ما ترك حالة من الذهول على وجه الدكتور جواد ، صاح بتعجب: لماذا؟!
لأنه لا يمكنه الثقة بأية أحد ، هذا كان جوابه ، ما كان ليعطي أرقام وعناوين الثوار لأيٍّ كان ، ورغم محاولات الدكتور جواد العديدة كان يصطدم بجدار الرفض ، خرج غاضباً بالنهاية وجلس مسرعا بسيارته ليلتقط أنفاسه بصعوبة وليهدأ من غضبه ، لا يريد لمن قتل ابنه بهذه الطريقة المروعة أن ينعم بالحياة بعد أن حرم ابنه منها ... يريد أن يراه يتعفن بالجحيم!" ... لا أحد يدري مدى حجم النيران التي بصدره حتى من أشعلها
وفجأة فُتِحَ الباب لتدخل فتاة لا تتجاوز العشرين من عمرها وتجلس بجانبه ، أغلقت الباب بعد أن ركبت و التفتت إليه ثم همست : مرحبا دكتور جواد
حدق بها بدهشة ، حتى أكملت : أنا ابنة راضي ، الرجل الذي طلبت منه المساعدة قبل قليل
ردت : أنا من سأساعدك ، سأرافقك إلى حمص فأنا بفضل والدي أحفظ كل عناوين الثوار البارزين هناك وأرقام هواتفهم
قال بحزم : ماذا تريدين بالمقابل؟
طأطأت رأسها بصمت ، كانت تبحر بفكرة أو بالأحرى بذكرى
ثم همست : لأنني أبحث عن أحدهم مثلك، ولكن الفرق هو أنه من تبحث عنه تكرهه بشدة وأن من أبحث عنه أنا أعشقه بشدة
ابتسمت وهي تريد الكشف عن حبيبها ، لأنها كانت تعي مدى التناقض بينه وبين حياتها وحياة عائلتها الجديدة : إنه عسكري بالجيش النظامي ، أحببته بشدة ... ولكنه اختفى بحمص ، ولم أعرف عنه شيئاً حتى الآن ، لعله أسير لدى ثوار حمص ، من يدري
اتسعت أحداقه للحظات ثم سرت ابتسامة خافتة على شفتيه وقال : أتريدين المجازفة بهذه الرحلة الخطيرة من أجله ؟
أجابت بثقة : نعم!.. أريد رؤيته
صاح بتهكم : لماذا؟
ردت : أنت لا تدري كم رؤية وجهه تعنيني
تمتم بلؤم كلماتٍ كانت أشبه بخنجر بصدرها : أليسوا قتلة أخاكِ؟
أغرورق الدمع بعينيها : نعم ، عندما رأيت تلك المشاهد المسربة ، هؤلاء الذين اقتحموا المسجد وقتلوا أناساً كان من بينهم أخي ،كان يتحدثون لهجة حبيبي ويرتدون ملابسً كان يرتديها ، كانوا يشبهونه بشكلٍ ما ... ما استطعت أن أكرهه ، كرهت نفسي فقط ولا زلت أحبّه!
- ما اسمكِ؟
- تالين
-وما اسمه؟
-علي
وافق على المغادرة معها بصباح اليوم التالي لأنه ببساطة لا يملك خياراً ، كانت آخر قشة يتعلق بها حلمه بالانتقام ، غادرت السيارة وودعته بنظرة خاطفة ، كانت فاتنة بكل من الكلمة من معنى ، شعرها المسترسل ، عيناها الداكنتان تخفيان بئرا من السحر
ألقت حقيبتها بالمقعد الخلفي وجلست بجانبه بصبيحة اليوم التالي ، لم ينطق بحرف منذ أن انطلقت سيارته ولكن أنفاسه كانت تضطرب كلما مرا بالقرب من مدينة يرتفع الدخان فيها أعلى من المباني التي تنهار تحت وطأة قصفٍ أعمى ، ترتجف يداه وهو يرى كيف تدمر مهد الحضارات والجمال، كما تدمرت من قبل ممالك كانت بغاية الروعة والجمال و الآن تغطيها أمتار من الرمال
همست تالين وهي تراقب غضبه : لا تحزن ... إنها بضعة جدران تُهدم ، يمكن إعادة بنائها
ردَّ : ولكن ماذا عن الأرواح بين هذه الجدران؟!
بعد ساعة من دخولهما حمص توقفت سيارتهما في جورة الشياح حسب طلب تالين التي أعطته ورقة وقالت : هذا عنوان " جاد عبدالله " وهو مصور ، يقيم في باب دريب ، اذهب وأحضره إلى هنا سأنتظرك بالمركز الإعلامي للثورة ، هو يعرف مكانه السري جيداً ، سأتحدث معه من المركز الإعلامي كي يأتي معك ، مفهوم؟
- مفهوم
انطلق إلى باب دريب ، كان هنالك انتشار أمني كثيف وحملة مداهمات و اعتقالات وكان مضطراً لفتح هويته أمام كل مجموعة من العسكريين يمر بجانبهم حتى وصل للعنوان ، كان الشارع أمام بيته خالياً من الأمن ، التفت إلى البيت فرأى جاد على السطح يصور حملة الاعتقالات التي تجري بالشارع من الجانب الآخر ، متخفياً بين أحجار "البلوك" المبعثرة هنا وهناك على السطح ، عندما صاح الدكتور جواد :"جاد؟!" لفت نظر رجال الأمن بالجانب الآخر الذين رأوا جاد وأطلقوا النار عليه ، وبرشاقة قفز جاد من على السطح باتجاه الدكتور جواد وصاح به :أركض!
وفجأة وجد نفسه يركض أمام جاد بين الأزقة و الطرقات المحفورة بجدران البيوت المهدمة نصفها والمهجورة من خلال نوافذها المشرعة ، كان جاد يقوده من الخلف بحركاته السريعة والرشيقة ومناوراته وكأنه أعتاد على مثل هذه المطاردات بمدينة يحفظها عن ظهر قلب ، يحفظ كل تفاصيلها وكل طريقٍ فيها وكل مخبأ ، تلافى بأعجوبة نيران الأمن ،حتى اختبئا بمخزنٍ قديم لمواد البناء ، ألتقط جاد أنفاسه بصعوبة ثم التفت إلى الدكتور جواد وقال : شكراً جزيلاً سيدي ، كدت تتسبب بمقتلي!
فردَّ مبرراً : لم يكن هنالك أية أمن بالطريق ولم أكن مدركاً ما لذي تفعله على السطح
قال بغضب : ما لذي أفعله على السطح بيومِ مداهمات ، لا أدري ربما " أنشر الغسيل "!
أخرج كاميرته الرقمية من جيبه وبدأ بمشاهدة ما صوره اليوم
همس الدكتور جواد : كان من المحتمل أن تقتل اليوم على أية حال
أدمعت عيناه عندما شغّل على كاميرته مقطع فيديو صوّره صديق له ، كان آخر فيديو له فقد تم قنصه بنهايته واستشهد
تمتم : نعم ، كان من المحتمل أن أُقتل اليوم وهذا الاحتمال يتجدد بكل لحظة أشغّل عدستي بها ، كثير من أصدقائي قتلوا في سبيل لقطة ، وأجدني أشتاق للموت في سبيل لقطةٍ أيضاً
- لماذا تفعل هذا؟ ... لماذا تعرض نفسك للخطر وللموت ؟ تستلقي على سكة قطارٍ قد يمر بأية لحظة
- كي يرى العالم ماذا يحدث هنا
- لماذا ؟ ... ماذا تنتظر من العالم؟
- لا شيء ، لأنني لا أتوقع شيئا !
بعد لحظات صمتٍ همس جواد : ما اسمك؟
- اسمي جواد أكرم،لقد أتيت لأخذك للمركز الإعلامي بجورة الشياح
- أعرف ذلك ،لقد اتصلوا بي من المركز الإعلامي ، أردت التأكد فقط
بعد ساعاتٍ انتهت حملة الاعتقالات وخرجت قوات الأمن من الحي ، فأستطاع جواد وجاد العودة أخيراً للسيارة والعودة لجورة الشياح ، حدد له جاد مكان المبنى الذي يوجد به هذا المركز السري ، كان قبو هذا المبنى ، وكان أشبه بوكالة إخبارية فقد كانت الحواسيب تنتشر على طاولاته والهواتف لا تتوقف عن الرنين فقتيل هنا وقتيل هناك ، وترتجف الأصابع وهي تطبع أخباراً على الشاشات يندى لها الجبين ، عشرات القتلى كل يوم ، بنشرات الأخبار هم مجرد أرقام وعلى أرض الواقع أرواحٌ عاشت وأحبت وتركت ورائها قلوباً انفطرتم لرحيلهم ، لكل منهم قصة ولكن قصصهم لم تنتهي بموتهم فهنالك دائما من يكمل مشوارهم على هذا الطريق الشائك
عند دخولهما المركز استوقفهما رجل سمين ضاحكاً : جاد ، تعال وشاهد المظاهرة التي قدتها البارحة على الإنترنت ، لقد ألفتُ أغنية جديدة
فردَّ جاد ساخراً : هذا رائع ،انتبه لحنجرتك يا صديقي فقد يتم اقتلاعها !
ارتبك الرجل وصاح : توقف عن هذا المزاح السخيف ... وقد يتم اقتلاع عيناك إن تم القبض عليك أنت أيضاً، كما حدث مع ذاك المصور
ثم خرج الرجل مسرعاً
فقال الدكتور جواد : ألا تخشى هذه النهاية المروعة؟
- لو لم أتخلى عن الخوف لما سلكت طريق الثورة
- ولكن صديقك السمين هذا لم يتخلى عن الخوف
- هذا لأنه دخل الثورة من أجل المال والشهرة ، ستتفاجأ كم هنالك مرتزقة بهذه الثورة ، أشخاص كانوا بلا عمل ، كانوا لا شيء ، ووجدوا بالثورة كل ما كانوا يفتقدونه ... أموال تُرسل إليهم من الخارج من أجل من تضرروا ومن تشردوا وهم يأكلونها بالباطل ، وبفعل سلاحٍ يحملونه أصبح لهم وزنٌ وكلمة زائفين ، حتى لو أصبحوا "ثوار" فهذا لا يمحي ماضيهم ولا يغير ما كانوه بالبداية وما هم الآن تحت اسم"ثوار" ، الكلب يبقى كلباً حتى لو غير اسمه
- إذا لماذا أنت معهم الآن ؟
- لأنني اتبّع المبدأ ،كما أتبّع الإسلام وليس المسلمين فكثير من المسلمين ظلوا
- الثورة بهذا الشكل ضد نظام بشراسة النظام السوري فكرة ليست بالحكيمة بالنسبة إلي ، عندما تصادف كلباً مسعوراً يجب أن تتلافى مواجهته
- إلى متى ؟... مهما فررنا من مخاوفنا سيأتي يوم نواجهها فيه عاجلاً أم آجلاً
قاطعتهما تالين : وأخيراً وصلتما ! ، خلتُ أنكما لن تأتيا أبداً
جواد : وها نحن هنا
تالين : هنالك مجموعة من الجيش الحر هنا ستغادر لباب عمرو وسنذهب معهم ، ستتمكن عندها يا جواد من مقابلة قيادات كبيرة هناك
مرت ساعة وتالين جالسة تنتظر على أحد المقاعد الجلدية جانباً ، تنتظر مغادرة الرحلة ، قلبت بين رسائل حبيبها في مخيلتها لعلها تجد ما يدلها على مكانه الآن :
حمص 3/11/2011
حبيبتي :
لا شيء سوى حبك سلاحاً أملكه ضد الكراهية التي يطلقها الناس ضدي بالشارع ،كل من ارتدى بذلة عسكرية هو ظالم بنظرهم ، كيف أغير هذه الفكرة ؟!، ليس كل عسكري قد تلطخت يداه بالدماء
أجلس وأراقب سكون ، الشوارع خاوية كجسدي تماماً ، عالم خاوي ، ألتفت لرسائلك لأجد عالمي ... حروفك هي ما ملئت عروقي بتلك الروح ، بعد أن غابت كل الأرواح من حولي ، جميع الوجوه مرهقة ، متعبة ، خائفة ... كلنا نعرف أننا سنموت ولكن متى وأين لا أحد يدري !
جميعنا نعرف من الضحايا ولكن لا أحد يدري من الجاني ... الجميع هنا ، كل الأطراف تجد نفسها مظلومة ولكن من الظالم؟!
الخوف والكراهية هو كل ما نراه بأعين الناس هنا ، فقط طفل واحد تجرأ على قول :" الله يحميك" لي ، قالها بصوتٍ منخفض كي لا يسمعه والده ، من المضحك أن يطالب بالحرية ويحرم ابنه منها...
سيظل حبك سلاحاً لي لمواجهة جيشاً من الكراهية!!
حمص 7/11/2011
حبيبتي : تحدثت مع والدتي اليوم بالهاتف ، كذبت عليها .. أخبرتها بأنني بمكتب ولا أضطر لحمل سلاحاً حتى ، وأنني بخير وبصحة جيدة ، فاجأني صوت بكائها ، وكأنَّ مشاعرها كأم أخبرتها بأوجاعي و بحقيقة ما أمر بها ، لن أنجح أبداً بالكذب على أمي ، إنها تشعر بما أشعر به
عندما أغلقت سماعة الهاتف داهمني البكاء أنا الآخر ، الحنين يقتلني ... عندها شعرت بشفاهك على عنقي ، سمعت همساتك التي أطفأت أنيني ، أتكأتي على كتفي بغنج فما أجملك طفلتي!
التفت حولي بدهشة ، لم أجدك .. أكنتِ حقاً هناك ،أم هذا فقط ملاك الحب جاء بطيفك إلي ليواسيني بلحظة انكساري وألمي
حمص 10/11/2011
لا زال البعض ينتظر النصر والبعض الآخر ينتظر الفرج وأنا لازلت أنتظر رؤية وجهك واللحظة التي سترتجفين بها بين ذراعي..
تأخرت رسائلك ، بالرغم من أنكِ تعرفين أن لا مسكن لألمي سوى كلماتك ، رسائلك المهرب الوحيد لي من هذا الواقع المؤلم ، فقط قبلاتك هي ما ستنير الظلمة الدامسة بقلبي الذي يجاهد للبقاء حيّاً
حمص 13/11/2011
اليوم، لا يمكنني أن أحدثك عن الحب وأنا أغسل جسدي الملطخ بدماء أصدقائي ،كنا نسير بسيارة إلى قدرهم عندما أطلقوا النار علينا ، لا أدري إن كانت حقيقة أنني لم أصب بمكروه هو حظ جيد !...قفزت من السيارة لأهرع و اختبأ بباحة أحد البيوت ،أردت أن أرى عدوي ،رأيته بعينان كادتا أن تصرخا من شدة غضبهما ،كان هو الرائد ذاته الذي أخبرتك عنه بأنه أعز أصدقائي ، كان قائد تلك المجموعة ، كان صديقي ... أو كان من خلته صديقا ، والآن صنع من نفسه عدوا لي
وأنا أخلع قميصا عليه دماء عزيزة على قلبي ،وقفت أمام المرآة وأنا أحدق بانعكاسي ،لم أعد أميز بين العدو والصديق ،بين الصواب والخطأ ، لم أعد أعرف حتى نفسي!... أنظر إلى نفسي بالمرآة وأتساءل هل أنا مذنب أم ؟!!
انهرت باكيا على الأرض وتمنيت لو كانت صدرك لأبكي عليه أصدقائي الواحد تلو الآخر ،وأبكيهم بمرارة
هاأنا ذا أفرغ جام غضبي على الصفحات البيض التي سأرسلها وهي تشتعل إليكي
سامحيني حبيبتي إن أسأت إليكي يوما ،سامحيني على كل شيء ، سامحيني حتى على حبك ! ... لأنني صرت حبيبا لك وأنا أرى ملاك الموت يحوم حولي وينتظر اللحظة المناسبة لأخذي بعيدا عنك ،سامحيني على الجرح الذي سأخلفه بقلبك عندما أرحل..
أعرف جيدا أنني وعدوي ذاك سيقتل أحدنا الآخر يوما ،أشعر بذلك بعمق ،سيقتلني أخي ... كم أمضني الواقع الذي وصلنا إليه"
كان عليها أن تعرف من هو "الرائد" الذي حدثها عنه برسالته فلعله مفتاح اللغز ، عادت بها الذكرى إلى ذلك الصباح ببيت علي بالقرب من الشاطئ ،قابلته هناك واستيقظت بصبيحة اليوم التالي ولم تجده بجانبها ، حتى استوقفتها صورة لعلي مع رجل آخر موضوعة على طاولة بغرفة الجلوس حدقت بالصورة للحظات حتى استوقفها صوت علي :"إلام تنظرين؟"
التفتت إلى علي الذي كان يدخن سيجارته على أريكة بغرفة الجلوس ،لشدة تركيزها بالصورة لم تلحظ دخوله
قالت :إلى هذا الرجل ،أهو شقيقك؟
علي :لا أكثر من ذلك
تالين :أنه رفيقك بالجيش
علي :نعم ،برتبة رائد
تالين :ولكنك أنت أيضا برتبة رائد بالرغم من أنه يكبرك بعشرة أعوام على الأقل
طأطأ برأسه وهو يأخذ نفسا طويلا من سيجارته ،هو يعرف جيدا أنه مازال شابا يافعا ولكن ما جعله يقفز لهذه المرتبة هو طائفته
سألته تالين :ما اسم صديقك؟
علي :اسمه...
حاولت تالين تذكر اسم الرائد أو شكله ولكن الذاكرة خانتها
أستوقفها صوت جاد:حان وقت المغادرة
سارت معه خلال الممر الطويل حيث سألها :ألازلتي تذهبين للجامعة؟
كانا يدرسان بالجامعة ذاتها وبالفرع ذاتها ،كلية الأعلام و الصحافة بالسنة الثانية ، ولكن أيّا منهما لم يذهب لدوامة بسبب الأوضاع التي يمران بها
ابتسمت وأجابت بلا ، ثم ركبت سيارة الجيب السوداء بصحبة جاد وجواد وعناصر من الجيش الحر ،عبر النوافذ كان هنالك من يهتف للجيش الحر عند مرور الموكب ومنهم من يرسل نظرات حاقدة إليهم ،فهم يعتقدون أن الجيش الحر يجلب الخراب والدمار لكل مدينة يحلون فيها
نام جواد على مقعد السيارة واستيقظ على صوت تالين :بابا عمرو ترحب بك!
ألتفت إلى النافذة ليرى هذا الحي الذي رمى الموت بظلاله عليه ،مشاهد كئيبة لأبنية قد دمرت ،لوجوه قد فقدت أغلى ما تملك ،لا خيوط استطاعت أن تتسرب من بين الغيوم الداكنة بالسماء ولا الدفء استطاع أن يدخل قلوب الناس التي جمدها الحزن هنا
سأله جاد :بماذا تفكر؟!
أجابه :قريبا ... مع استمرار القتال هنا لن يبقى هنالك جدار ليعلق عليه نعوا لبابا عمرو
جاد :هذا ليس صحيحا ،لن تموت أية مدينة في سورية
جواد :ما لذي يدفعك لقول هذا مالذي يدفعك للابتسام والتفاؤل بالغد ضمن هذه الكارثة التي تسمونها ثورة
جاد :ماذا عسانا أن نفعل أصبح كل السوريين يرددون مقولة نزار قباني "لو كنت أعرف أن هذه خاتمتي ما كنت بدأت!"
عندها سقطت قذيفة بالقرب من الموكب ، كانت بداية لاشتباكات بين الجيش الحر والجيش النظامي ، انحرف السائق مذعورا بسيارته ليوقفها بجانب إحدى المباني وبسرعة خرج الركاب من السيارة ودخلوا المبنى ، كان المكان يهتز بالداخل ويرتجف عند سقوط كل قذيفة أو عند كل انفجار صعد جاد إلى السطح يرغم تحذير الجيش الحر لأن تصوير معركة بهذا القرب أمر بغاية الخطورة ،وبعد ساعات انتهت المعركة وحصيلتها كانت قتلى سوريين من كلا الجانبين أيا كان المنتصر ،تمكن الجيش الحر من أسر عدد من الجيش النظامي سار الرائد كمال بينهم حتى صاح به أحد الأسرى :أنت مجرم! ... لقد قتلت صديقي ،كان من دير الزور وليس من تل أبيب !! ... نحن سوريين مثلكم ألا ترون ذلك؟!!
لم يرد عليه بحرف أمعن بوجوه رفاقه الأسرى بأسىً أجتاحه ،ذاك الشعور لم يتوقعه بعد معركة أنتصر بها ، "أنهم أبناؤنا" هكذا قال لجاد مساء ذلك اليوم بعد أن أجتمع به بمكتبه ،"يقاتلوننا بأبنائنا " زاد على كلامه ،ابتسم جاد وقال : أتشعر بتأنيب الضمير تجاههم؟
الرائد كمال :كثيرا .... أأنا قاتل أم ضحية سؤال يتردد ببالي كثيرا؟!
جاد :ربما قاتلكما واحد ،وكلا الطرفين ضحية ،الرجل الذي زجهم وورطهم بالقتال هو ذاته الذي أجبركم على قتالهم
طأطأ رأسه وهو يمعن بساعته ،ثم قال :لقد اتصلت بالعقيد وقال بأنه يستطيع مقابلة صديقيك عند الساعة الثالثة لذا سأرسل معكم أحد عناصر لإيصالكم لمكتب العقيد الآن...
وما هي إلا ساعة حتى استطاعوا الدخول لمكتب العقيد ومقابلته ،رحب بهم العقيد ثم جلس وهو يقول لقد علمت ما حدث لأبنك و يؤسفني ذلك
رد : ومن أجل هذا أنا هنا من أجل ما حدث لابني
العقيد:نحن سنساعدك على قدر استطاعتنا وأنت مرحب بك هنا بالمدينة التي تحررت
هز جواد رأسه وهو يكرر ساخرا مقولة العقيد :"المدينة التي تحررت"
رد العقيد : ألديك اعتراض على ذلك؟
الدكتور جواد :انظر عبر نافذتك الكبيرة وأمعن النظر بمدينتك التي دمرت ،لم تحرروها ... لقد قتلتموها
رد العقيد بتشنج :لقد جعلنا منها أسطورة!
سكت الدكتور جواد بعد سماعه لرد لم يقنعه ،وأكمل العقيد:سيتحدث الناس جيلا بعد جيل عن الحي الذي صمد ،سيكون تاريخها شعلة لهم
شعلة ؟!!... وماذا كان وقودها أليس دماء الأبرياء ؟! ،طفل بعد طفل امرأة بعد امرأة كان ثمن صمود هذا الحي ،يحملون السلاح من أجلك سوريا ...وماذا حملوا لك سوى الألم؟!!
عندها دخل أحد الحراس وقال :سيدي هنالك عنصر يريد التحدث إليك
العقيد:ألا يمكنه الانتظار حتى أنهي مقابلتي مع الدكتور جواد؟
الحارس:لا ،يقول إن الأمر يخص الدكتور جواد
فقال العقيد بدهشة :حقا؟...فليدخل إذاً
عندها دخل شاب لا يتجاوز العشرين من عمره بلباسه العسكري وسلاحه ،كان شكله مألوفا بالنسبة للدكتور جواد ولكنه لم يكن متأكداٍ أين رآه ،بدأ بالتحدث باللهجة الحورانية بعد عرف عن نفسه باسم "وسيم" قال :أتيت أطلب عفوا أعرف جيدا أنني لا أستحقه دكتور جواد ،ما كان ينبغي أن آخذ طفلاً إلى مكان خطر ليقع بأيدي وحوش على شاكلة بشر
لم يرد الدكتور جواد على طلب الغفران الذي قدمه وسيم ، لم يكن متأكدا من أنه قد يستطيع مسامحة أحد على ما حصل لأبنه ،لم يستطع حتى مسامحة نفسه ،فقط نطق بصعوبة :أخبرني بالتفصيل ماذا حدث؟!
أجاب :كنا خارجين من المسجد بتلك الجمعة ،وكان أحد الرجال يحشد لمظاهرة للذهاب إلى درعا وفك الحصار عنها ،كان الجميع منجر وراء العاطفة ،لم يفكر أحد بحكمة ، فكيف نذهب بصدور عارية إلى مدينة يحاصرها الأمن والجيش بمدرعات ودبابات ولكن الاندفاع الغير مخطط له ،كان سيد الموقف ، وحتى الرجل الذي هيج الناس ودفعهم إلى الذهاب عاد إلى بيته من أجل تناول الغداء مع عائلته وكأن شيئا لم يحدث!!
المهم أقترب مني حامد خروجنا بدقائق وعندما ركبت دراجتي النارية ، ألح علي بالذهاب معي ،وافقت عندها وركب ورائي ،كان كل شيء يسير بشكل طبيعي حتى اقتربنا من مساكن الضباط بصيدا ، و بدءوا بإطلاق النار على التظاهرة ،كان الرصاص يأتينا من كل ناحية ، السيارة كانت ترتطم ببعضها بشكل جنوني ،الدماء صبغت الشارع ،وأما أنا فسقطت عن دراجتي مع وحامد ،وعيي للحظات وما إن فتحت عيناي حتى رأيت حامد يركض مذعوراً باتجاه بساتين الزيتون القريبة ، لم يكن ببالي سوى فكرة واحدة "ربّاه ،أنا من أحضرته لهنا ،للموت !!"
نهضتُ مترنحاً بجسدٍ يكسوه الألم ،ولحقته ،هرعت بين أشجار الزيتون أبحث عنه ولكنني لم أرى سوى وجوه لونها الخوف بألوانه الشاحبة وهم يجرون قتلاهم وجرحاهم إلى البساتين لعلهم يجدون مابين أغصان الزيتون المسالمة رادعاً لرصاص الكراهية ،وفجأة رأيت حامد ولحقته إلى أن دخلت بيت بالبستان وتبعته إلى القبو ،فاجأني أحدهم برطمي إلى الجدار ثم بالأرض وتقييدي،ألتفت إلى حامد ورأيته يجر أيضا إلى سياراتهم ،كان مذعوراً..
اضطربت أنفاس الدكتور جواد وهو يهمس :وماذا حدث بعدها ؟... أكنتما بنفس الزنزانة؟!!
أجاب :نعم ،كنا أربعين شخصاً بالزنزانة وكان بيننا أطفال كحامد ،وبدئوا يجروننا شخص بعد شخص وساعة بعد ساعة إلى غرفة التحقيق ، الضرب والشتائم لم تكن تتوقف كذلك التفنن بالأجرام ، كم كنت أشتهي أن أبصق بوجه المحقق لو لا خوفي بأن أمنحه شرفا لا يستحقه ،البعض كان يذهب ولا يعود منه سوى صرخاته الأخير والبعض الآخر كان يعود ليلفظ أنفاسه الأخيرة ،ففي هذه الزنزانة المظلمة والباردة وعلى تلك الأرض القذرة كان ترتقي للسماء أنبل الأرواح!
يوم بعد يوم كان يرحل رجل منا ،كنت أحتسب على الجدران كم مضى على وجودي هناك ولعلي أحتسب كم أقترب مني الموت ،فكلما مضى يوم ورحل معتقل أقترب مني الموت أكثر ، وذات يوم جرَّ الأمن حامد لغرفة التحقيق ولم يعد ،ومرت أيام وأيام وأنا أجر لغرفة التحقيق ،ولكن الألم الذي كنت أقاسيه هناك لم يكن أقسى من ألم تأنيب الضمير ،وكلما كان يضربني المحقق كنت أصرخ في أعماقي :"أقوى ،أقوى أرجوك ،فالذنب ذنبي أنا من جلبت طفلاً ليموت هنا"
وبالنهاية وجدت نفسي لوحدي بالزنزانة ،كل من كانوا هنا أصبحوا مجرد ذكرى لمن كان يعرفهم ،بتلك الليلة وقفت أنتظر رجال الأمن فقد حان دوري أخيراً ،"سأموت الليلة ؟!" ... ولم لا؟!! ... فلقد ماتت فيّ كل ابتسامة ،كل ضحكة ،وكل قطرة سعادة وإحساس ... بالإنسانية،أنا ميت مسبقاً ولا يمكن أن يؤلمني تعذيبهم ، عندما سمعت صوت الباب العلوي وأصوات أقدامهم الثقيلة على الدرج انتصبت ورفعت رأسي ،"لن اخفض رأسي" هكذا تمتمت ،فإن نظرت للأسفل لن أرى سوى قبور أصدقائي ،فتحوا باب الزنزانة وقالوا لي كلام لم أتوقعه :"يمكنك الخروج الآن ، لقد صدر عفو من السيد الرئيس ، إنها مكرمة من سيادته "
أحقاً قد غفر لي الرئيس ؟!!... بعد أن قتلتم أصدقائي وعذبتموني وقتلتموني وأنا على قيد الحياة ،أنا ... كيف لي أن أغفر لرئيسكم ؟؟!!
أقترب منه الدكتور جواد وهو يحاول جاهداً ألا يبكي ولكن دموعه سالت رغماً عنه وهو يهمس :هل سمعت آخر صرخات حامد ؟... كيف كانت؟...هل صرخ: (أبي) ؟!...هل صرخ باسمي؟...
أجهش بالبكاء :كيف كانت آخر صرخاته وأنا لا أتذكر منه سوى ضحكاته ؟!
أجابه:حدثني عنك ،قال أنك تريد أخذه لحضور مباراة باسبانيا ،وبأنك كنت تطبخ له عندما كنت تعود من فرنسا ،وكان طبخك سيئاً جداً
أطلق ضحكة بوجعٍ فضيع بين دموعه المنهمرة بغزارة ،الآن أدرك كم كان يعشق ابنه ،كم كان حبه مزروعاً بقلبه وملتصقاً بعظامه ولكنه كان مشغولاً جداً ليلاحظ ذلك!!
بعد أن هدأ الدكتور جواد بدأ بتوجيه الأسئلة لوسيم :أتعرف ما اسم الضابط المسؤول؟
وسيم:المحقق؟... لقد أسقط محفظته بالقرب مني ذات يوم ،كنت ممداً على الأرض وأتلوى من الألم ،لمحت اسمه وعلى الرغم من الدوار الذي انتابني جراء التعذيب إلا أنني حفظته عن ظهر قلب ،كما لم أستطع محو وجهه عن ذاكرتي ، اسمه "رأفت توفيق" وقد علمت أنه تم نقله إلى إحدى القواعد بريف حمص ولهذا أنا هنا ،أتيت من درعا وانضممت إليكم هنا
العقيد :رأفت توفيق ،سنقوم بالتفتيش عن هذا الضابط ،وسأبلغك بأية جديد دكتور جواد
أومأ الدكتور جواد برأسه ثم خرج هو وتالين من المكتب وسارا سويا عبر ذلك الممر الطويل الذي كان يقف بنهايته الرائد كمال ،وما إن رأته تالين حتى قفز بسرعة إلى مخيلتها صورة الرائد كمال مع علي واسمه الذي أخبرها عنه علي
صاحت : الرائد كمال!
التفت إليها الرائد وهي تقترب منه ، ثم قالت :أين علي؟.. أين صديقك؟
همس بدهشة :ماذا ؟!
أخرجت صورة لعلي من محفظتها وأعطته أياها وهي تقول :أرجوك أجبني
بدا صوتها المتوسل وكأنها تقول أرجوك اشف قلبٍ سيموت بمرضٍ اسمه الشوق ،الولع ،الجنون ،الحنين...له أسماء كثيرة والموت واحد!
أمسك الصورة بيدٍ مرتجفة ونظر إليه بعينين دامعتين
قال عندها الدكتور جواد :مالذي يجري تالين؟
التفتت إليه وقالت له بغضب :لقد وعدتني بأن تساعدني ،والآن ساعدني!
قال الرائد بارتباك بعد لحظات من الصمت و الإمعان :من أنتِ؟
أجابت :فتاة تهمها أمره!
أكمل ولم يزل ارتباكه :حسناً ..سآخذك... لهناك
قالها وهو يسير مسرعاً باتجاه باب الخروج ،بدا وكأنه يهرب وكان يجب على تالين أن تتبعه ،تبعته هي والدكتور جواد وركبا معه بسيارته ،لم تنطق بحرف وهي تنظر إليه كقشة تتمسك بها خوفا من الغرق وبدأ بالإجابة دون أن يطرح عليه أحد أية سؤال : لقد قمنا بنصب كمين لرتل من القوات ،لم يكن رتلاً كبيراً وقد قتل الجميع ،ولكن هنالك عسكري واحد استطاع النجاة وبدأ جميع العناصر بالبحث عن هذا العسكري الذي قفز عن شاحنة الموت ،ولكنني أنا الوحيد الذي رأيته ،كان علي ...أمعن كلانا بعيني الآخر ،لم أستطع فعل شيء ،تركته يفر ،سنوات الصداقة والمحبة لم أستطع محوها بلحظة ،ظللت طوال الليل أفكر به ،كان كل ما فعلته ضعفاً وكان علي أن أقتل ضعفي ، أن أقتل مسببه ،وهذا ما عملت على فعله ..
أوقف السيارة جانباً ونزلوا جميعهم ،عند دكان مغلق أخترق بابه عدة طلقات وكان هنالك جدار بالجانب ملطخ أسفله بحمرة الدم
أكمل الرائد كمال :لم ينجو من الكمين الثاني ،زحف من سيارته حتى هذا الجدار ليتلفظ أنفاسه الأخيرة هنا..
وقفت تالين تتلمس دماء حبيبها الملطخة على الجدار ثم انفجرت تصرخ :"أيها المجرم ،أيها القاتل!" كانت تريد أن تهجم على الرائد كمال لو يمسكها الدكتور جواد ويمنعها من ذلك ، كانت تريد تمزيقه إلى قطع صغيرة لتسد بها الثقوب الذي أحدثها بقلبها ، تريد لو تشفي بصرخاته ألمها الفظيع
صاح بها الرائد و رجفانه ووجهه الأحمر يؤكدان بأنه يحاول بصعوبة ألا يبكي ولكن دموعه سالت رغماً عنه بنهاية المطاف : أتمنى لو لم أكن مضطراً لقتله ،أنا القاتل الذي تألم أكثر من ضحيته!!
عندها انهارت باكيةً على كتف جواد وجوارحها تصرخ :علي!
لم تتوقف لحظة عن البكاء عندما ألقاها مساء ذلك اليوم لعلّها تهدأ ،همست له : أرجوك أعطيني دواءً يوقف هذا الألم ، أفعل شيئاً ينسيني رحيله
أجاب : عندما أتمكن من نسيان رحيل ابني سأجعلك تنسين رحيله!
همست :ربما إن حصلت على انتقامك ،للانتقام طعم حلو
رد :ولكنه مر بالوقت ذاته
جعلها تشرب فنجان يانسون مع أقراص منومة لعلها تهدأ قليلاً وتركها لتنام
كان جاد ينتظره عند الباب حتى خرج وأخبره بما وصلهم من الكتائب بريف حمص ،استفتح بقوله :"أنت محظوظ دكتور جواد!"
رد قائلاً:لو لم أدفن ضحكتي مع ابني لكنت ضحكت على هذه المزحة
أكمل جاد :لا ، حقاً... لقد أبلغنا قائد الكتيبة هناك أنهم يخططون للهجوم على القاعدة التي يتواجد فيها غريمك فجر اليوم ،لذلك علينا التوجه لهناك
الدكتور جواد:ومن سيوصلنا لهناك
أجاب:مجموعة من عناصر الجيش الحر ،يريدون المشاركة بالهجوم
شقت سيارتهم السوداء جنح الظلام وما هي إلا ساعتين حتى وصلوا للقاعدة ،كانت المعركة قد بدأت منذ ساعة مبكرة عن موعدها ، نزل العناصر وتوجهوا فوراً للقتال وأما جواد وجاد فاقتربا من الملازم أول "أحمد" الذي كان يدير المعركة من بعيد ويراقب مجرياتها ،قال له الدكتور جواد :لقد اتصل بك العقيد وتسليمنا الضابط "رأفت توفيق"حيا إن انتصرتم هنا
التفت إليهم الملازم وقال :هذا ما لا أستطيع ضمانه لك
ساعة بعد ساعة كانت يمر وقت المعركة ثقيلاً وكأنه أشهر... لا بل سنوات
ساعة بعد ساعة كان الدكتور جواد يقف وأفكار الانتقام تتلاطم برأسه كتلاطم أمواج البحر بليلة عاصفة ، يراقب مجريات المعركة ولا يدري إن كان بانتقامه هذا سد جرحه العميق، إلتفت إلى وسيم الذي كان يقاتل ببسالة أكثر من أي وقت مضى ،لأن الأمر يمسّه الآن
وبلحظة أستطاع الجيش الحر اقتحام القاعدة وأستسلم كل من بقي فيها على قيد الحياة ،وجد الدكتور جواد نفسه يركض إلى داخل القاعدة وبين ممراتها ، حتى وجد وسيم يقف على جثث لعسكريين
قال جواد :أين الضابط؟
وسيم :هذا هو..
أشار إلى إحدى الجثث،فوقف الدكتور جواد مصدوماً وهو يحدق بجثة الضابط
أكمل وسيم: يؤسفني أنك لن تستطيع الحصول على انتقامك كما كنت تريد ،ولكن رؤيته ميتاً هكذا لعلّه يشفي بعضاً من الألم الذي أشعرك به بقتل ابنك
هزَّ برأسه ودموعه تسيل بغزارة ثم قال : إنه ليس قاتل ابني ، من ينزع النور عن عيني ملاك لا يمكن إلا أن يكون شيطاناً
وسيم :إنه شيطان بالفعل ولكن على شاكلة بشر ، نستطيع التأكد على الأقل بأنه لن يستطيع إيذاء أحد كما أذانا بعد اليوم!