قراءة نقدية للمكان المغلق والمفتوح لقصيدة هذيان الذاكرة /2 للشاعر العراقي علي الهاشمي
هــذ يــان الذاكرة / 2
الحلم لا يفارق حديقة بيتنا القديم
شجرة السدرة العجوز تلعب الكرة معي
كرتي جوراب يتيم
محشو بدفء الشتاء
.............................
جبل البرسيم على عربة الخشب
يوقظني كل صباح
الحصان الذي يجرها
انهكه الجوع والتعب
..............................
معسكر للجيش عند ناصية الشارع
هرولة الجنود المنسقة
بانشودتها الازلية
"طالع لك ياعدوي طالع"
تشعرني بالامان
...............................
السماء ورقة بيضاء
عليها رسم لطائرة
الجميع يصوب سلاحه ويطلق
نلوذ تحت اسرتنا
نلملم قصاصات الورق
يثير المكان فينا شعورا بالانتماء وآخر بالانفلات بما يوقظه من ذكريات حاضرة واخرى اندثرت في عالم لا نستطيع الانتماء اليه , الا اننا نستذكره بحضور المكان او تعمل ملكات الخيال على تشكيله ,فيبعث الحياة في رفات من الصعب احياؤه ,كما انه يمتلك دلالات عدة اذ يمتاز برمزيته اللامتناهية ومستوياته فضلا عن احتوائه تقاطبات تميز الامكنة عن بعضها بالموضع والمعنى فضلا عن الانفتاح والانغلاق من حيث المساحة والفضاء ,فيقبل المكان كما اكد افلاطون تعاقب الاجسام المتمكنة فيه فتبقى طروسه تنبض لتسطر تأريخا قديما واساطير من الخيال لتمثل مدنا وشعوبا احيانا نلمسه فنشعر بتكون كياننا بوجوده ليرمز المكان تاريخ البشرية فيعبر عن الانسان بكل مايحمله من اتجاهات وميول ويرسم سلوكياته ,فالمكان لايتشكل الا باختراق الشخصيات له من خلال الاحداث ليكون المحوي هنا هو من يشكل الحاوي له فيتقوقع في داخله محددا معالمه مرتبطا به ,فتتطابق الشخصية والفضاء الذي تشغله بتحول المكان الى تعبيرات مجازية من خلال ومضات مرسلة من رموزه ودلالاته مصورة قاطنيه, ليكون المكان كما اكد لوتمان مجموعة من الاشياء المتجانسة والظواهر والحالات والوظائف والصور والدلالات المتغيرة التي تشكل علاقات شبيهة بتلك العلاقات المكانية المعتادة كالامتداد والمسافة .
يتشكل المكان من جميع الدلالات الملازمة له والتي تكون عادة مرتبطة بعصر من العصور ,اذ ان لكل عصر دلالاته ورموزه الخاصة والتي تتبعها تحليلات خاصة بذلك العصر وظروفه وثقافاته ,حيث ان لكل عصر ثقافته ورؤيته الخاصة للعالم وهو ما تسميه جوليا كريستيفا اديولوجيم العصر,فالمكان الذي يتلون بالحالة الفكرية الثقافية او النفسية للشخصيات المحيطة به وعلاقاتها الاجتماعية مكان له دلالة تفوق دوره المألوف , ويعد الشاعر العراقي علي الهاشمي من الشعراء الذين امتازوا بعمق الكلمة واكتناز الامكنة المتغايرة في الشكل والمضمون , فتراه تارة يرسم امكنة واقعية واخرى خيالية ضبابية , فحينا يثير فينا الحنين الى الماضي وحينا اخر يزيد من انتمائنا للامكنة التي تحوينا , وبين هذا وذاك تاخذنا اماكنه نحو عوالم غريبة الاطوار عتيقة اصيلة توشحها الذكريات الجميلة والمؤلمة في ذات الوقت , مع تناقلها خلال الازمنة التي تتلاشى في الغربة والحنين .
الحلم لا يفارق حديقة بيتنا القديم
شجرة السدرة العجوز تلعب الكرة معي
كرتي جوراب يتيم
محشو بدفء الشتاء
فالحديقة التي تلازمت وبيت الطفولة القديم اصطبغت بلون المعيشة لشخصيات القصيد , حيث افضت الينا بالحالة النفسية لمن يقطن البيت , ذلك المكان الذي كان ميقاتا للاحلام المؤجلة التحقيق التي ترسم صورة اليأس والحرمان , كما ان المكان يتوالد ليبصق ساحة تحتضن جوارب يتيم ممزقة ليكون المكان هنا ممزوج برائحة الحالة الاقتصادية المتهرئة لشخصيتها,فالحدائق اماكن مفتوحة تمتاز برفاهية مرتاديها , فالمكان المفتوح يمتاز بافقه الواسع الذي يرمي الى الانفتاح الفكري والنفسي فضلا عن الاجتماعي , الا ان الشاعر وببراعة رسم مكانا مفتوحا متضادا في الطرح , حيث مثل الانغلاق على مرحلة مؤلمة هي الطفولة المثقلة بالاحلام المتناثرة في بقاع العقم, وهذا التضاد ينم عن اسلوب غرائبي يجتذب المتلقي ويثير في داخله عدة تساؤلات فضلا عن انتقال الشاعر من الامكنة المغلقة المتمثلة بالبيت الى المكان المفتوح وهو الحديقة فبرع في هذه الانتقالة المنسابة المتناسقة السياق ..فتحول الفضاء المكاني الى الانا المؤنسنة راسما بذلك الخطوط الاولية للذاكرة الجمعية بصيغتها المخيالية ,فللمكان ذاكرته الخاصة وللذاكرة مكانها الخاص وللزمان ذاكرته ومكانه المتحرك الخاص .
جبل البرسيم على عربة الخشب
يوقظني كل صباح
الحصان الذي يجرها
انهكه الجوع والتعب
فجبل البرسيم فضاء مكاني تداخل مع مايسمى بالفضاء الدلالي المتمثل بايقاظ الشخصية كل يوم على مائدة الجوع والاستلقاء على سرير التعب الذي تطرحه الكلمات واتساقها ,فيبدو الاول مختلفا جدا بل ونقيضا لما يطرحه التعبير الادبي او يقدمه في صياغة القرائن الاولى, فالجبل بما يحمله من سمات القوة والصلابة والشموخ يحيلنا الى تعب وارهاق وجوع ,ومع تحول المتلقي الى وحدة تماس مع ابعاد النص ينتقل الموضع المحدد الى المكان المفتوح الذي يشكل الانسان مركزه اولا والامكنة المؤنسنة ثانيا لتبرز منه مجموعة منظومات العلامات واتساقها في اصطنافاتها الجديدة يناقض فيها الحقيقي والمجازي ليكون دواخل الشخصية امكنة مجازية اجتاحها الاعياء والهلاك والقحط ليتقدم فيها الثاني على الاول فدلالة الحرمان والوهن متقدمة على دلالة القوة والشموخ للجبل, والمقصود بالاول جملة القوانين الفيزيائية والتشكيلية الموسومة بتموضع المكان ومحدوديته الفيزيائية ,والمقصود بالثاني الانتقال المحقق للفضاء المكاني المجازي المسكوت عنه , فمنظومة العلائق الموضوعية والسيميائية التي تحدد طوبولوجيا المكان بالنسبة لمنظومة الامكنة الاخرى المحيطة والمرتبطة معه بعلاقات التأثر والتأثير فحديقة البيت قبرت احلام قاطنيه مما ادى الى تحول البيت ذلك المكان الذي يمتاز بحميميته بالنسبة الى قاطنه قد تحول الى الضد فبات مقبرة موحشة لامنياته حيث يتم الانتقال بعد ذلك ومن خلال المواصفات السيميائية للمكان .
معسكر للجيش عند ناصية الشارع
هرولة الجنود المنسقة
بانشودتها الازلية
"طالع لك ياعدوي طالع"
تشعرني بالامان
فمعسكر الجيش مكانا ذات مساحات واسعة ومفتوحة تحيلنا الى الشعور النفسي المريح , مما ساعد على فتح فضاءات داخل الفضاء النفسي للشخصية ساعدتها بالانتقال من حالة الضيق والفقر والحرمان الى تألق بعض من الاحساس بالامان , ليرتبط المكان بالادراك الحسي النفسي على الاشياء المحسوسة لتوضيحها والتعبير عنها ,وفي المكان يتحدد موضوع او محل ادراكاتنا ,وهو يحتوي بالتالي على كل الامدادات المتناهية وانه نظام تسابق الاشياء في الوجود ,كما ان الصورة المساحية توحي بالامتداد المساحي المكاني والذي بدوره يشير الى تخفيف الضغط النفسي وتجسد ذلك في شعور الشخصية بالامان , فلا تقتصر على الاشارة للمحسوس في اطاره المكاني الضيق وانما تتجاوزه ليصبح الموضوع الموصوف منسجما مكانيا على مساحة كبيرة او صغيرة , كما يؤكد (وليم جيمس) ان جميع الاحساسات مكانية أي ذات امتداد فاحيانا تتسع الاحساسات باتساع المكان فحديقة البيت توسعت الى ساحة تدريب للجيش الامر الذي وسع مدارك الشخصية فاخرجها بكل حرفية من الانغلاق والاختناق الى الانفتاح والتنفس في فضاءات لامتناهية.
السماء ورقة بيضاء
عليها رسم لطائرة
الجميع يصوب سلاحه ويطلق
نلوذ تحت اسرتنا
نلملم قصاصات الورق
يمثل تحت السرير مكانا مغلقا منزويا يثير الخوف والوحدة والقنوط داخل ساكنه , فيحيله الى الانزياح نحو ضيقه القديم وثقل انفاسه,فيكون ذو تأثير سلبي ينقض على الشخصية , فتنحت ذاكرته ايام الطفولة التي كانت تزهر افراحا ومتعة الطيران بطائرات ورقية هي لعبة الفقراء ومتعتها اللامتناهية , الا انها للشخصية لحظات رعب من التصويب عليها وتمزيقها , الامر الذي يدلنا على نهاية احلامه واماله المتواضعة والمرهفة كالورق تتمزق باظفار الزمن لتسكن تحت السرير , ذلك المكان المغلق او الضيق انسب الى تجسيد حالة الخلو الى النفس وتداعي الافكار حول احداث الماضي وتحليلها لتكون دعامة شرطية لاجراء الحوار الداخلي لمن يقطن ذلك المكان .
ترتبط دلالات المكان فيما بينها ارتباطا وثيقا ,فدلالة العنوان الرمزية تحيلنا الى معالم المكان لرسم صورة ذهنية خيالية توضح العلاقات القائمة بين عناصر تلك الصورة ,قد تكون تلك العلاقات اجتماعية لتمسح دلالات المكان الاجتماعية بصورة سطحية افقية معبرة عن بنائية المجتمع وطبقاته , "فكل مكان كبير او صغير ,قائم او متحرك ,ثابت او متغير يحتوي الحدث والشخصية وينفتح على الاخر مباشرة او بالواسطة ويلاقيه بالصلة او التفاعل او التأثير , فتحت السرير ذلك المكان على صغره وضيقه وثباته يحوي الشخصية ويؤثر بها تاثيرا مبرحا متنامي نحو الحرمان والجوع والخوف مم يؤثر سلبيا على البناء التكويني للشخصية , ليتنافر وساحة التدريب المفتوحة ذات الدلالات النفسية الواسعة والتي تجعل الشخصية منفتحة متألقة تشعر بالامان , وهذا الالتقاء المتنافر الذي احترفه الشاعر ادى الى انتقال الشخصية من حالة الى نقيظتها مما جعل الشخصية تتأرجح بسبب تاثير المكان على بنائيتها وكان المكان فرشاة تلوين الشخصية فضلا عن طبيعة العلاقات التي تربطها ونوع تلك الالتقاءات وما تضفيه تلك الطبقات من تلون على المكان بين الراقي المنسجم المتعالي الى البسيط الغير متناسق المنسجم باشيائه الحميمة ومكنون العلاقات التي تجمع بين كل تلك التشكلات ,وقد تبئر الدلالات الاجتماعية للمكان المجتمع وامكنته بابراز القيم السائدة والعقائد والطقوس الدينية والاحتفالية الخاصة بكل جماعة انسانية تنتمي الى تنظيم اجتماعي معين , فيحيلنا المكان هنا الى الاحياء الشعبية ذات الازقة الضيقة , بطبقاتها الاجتماعية الواهنة اقتصاديا ونفسيا وحتى اجتماعيا , فلم يجد اليتيم الا السدرة يلعب معها بجوارب مثقوبة, واللعب بالطائرات الورقية وشجرة السدر كلها دلالات اجتماعية في الامكنة متعبة تسقطه تلك الامكنة على نفسية الساكن او الزائر فيمتلك المكان حينها دلالات نفسية ذات تاثير فاعل في الذات الانسانية ينتقل من السلب والايجاب, فالمكان يحوي دلالة رمزية روحية يتحول فيها الى رمز لذاته فيعبر بدلالاته عن احداث لايمكن الحديث عنها الا بوساطة المكان كالبيت والحديقة وساحة التدريب واحداثا تنحو منحا سياسيا كقتل احلام الشباب والدمار والكوارث الانسانية الغير طبيعية التي تصيب الانسان بالهلع والاضطراب والشعور بالاغتراب ,وقد ينساب المكان في الزمان لتبحر الذات الانسانية نحو الخيال حيث يلغى الزمان والحس الانساني في ان واحد حين ابحرت الشخصية في زمان الطفولة ليكون المكان الزماني اداة التداعي المنساب ثم الانتقال الى مرحلة الشباب وساحة التدريب المتعالية الاناشيد ذات الطابع التفعيلي ثم الى المكان المجازي للراوي وهو الزمن الحالي فنجد الانتقالات الزمانية الثلاث استمدت مداها من الامكنة , وابحرت في ذات الشخصية, لذا يمتلك المكان الزماني القدرة على تحديد الفضاءات الزمنية لذلك يعد هذا النص الشعري من النصوص الشعرية المكتنزة بالامكنة المتباينة كالمكان المغلق والمكان المفتوح , وطبيعة العلاقة المتضادة بين تلك الامكنة وما تملكه من علاقات متشعبة بين طيات دلالاتها, وطبيعة التحولات المكانية التي اثرت في تكوين الشخصية , فضلا عن انتقالات المكان التي ادت الى الانتقالات الزمنية وما ارتسمته على ردود افعال الشخصية , وبذلك فان الشاعر تمكن من الرسم المتميز للمكان المغلق والمفتوح والتحول الدلالي لكليهما .
أمل الغزالي.