كان يوماً ماطراً يوم إعدامه .. كان المكان مليء بالجنود .. جاءوا به تجره الأغلال و السلاسل حتى ألقته أمام مقصلة الإعدام .. الإضاءة خائفة من أن تتسلط على ملامحه المنبوذة .. عيونه العسلية البارزة كانت تهجو كل الأشياء من حوله .. جسمه الضخم المقسم كان شاهد على جريمته .. العلامة الفارقة ذات الأربع غرز بجوار عينه اليمنى كانت تقف في صف سجل تاريخه المتحامل عليه بالعنف ..
الحراس يتهامسون لقد قتل زوجته هذا المجرم .. لقد " يتم " أولاده الثلاثة !..كيف سيتعايشون مع هذا الماضي الفوضوي عندما يكبرون .. لتقطع عنقه المقصلة .. ليأكل أطرافه دود الأرض .. ليتذوق جسده وطأة الألم .. ليموت بشناعة .. لتنبش قبره الكلاب النازحة لكل ذي لحم و عظم .. تباً لـ قلبه الصلد المتحجر .. الموت له في الدنيا .. و الجحيم في الآخرة ..
و هو واقف بهدوء يفتش عقله .. لعله يجد ذكرى قديمة تحنو عليه .. و تخفف عنه عبئ هذه التفاصيل الغارقة في رائحة الدم .. ينساق مع رياح الماضي .. يتذكر آخر مرة حمله أبوه على كتفه و هو يقول له : " ارفع يديك لسماء يا ولدي ، دائماً عندما يحيط بك اليأس أرفع يديك لسماء ، أطلب أشيائك دائماً من السماء ، فمن السماء تسقط الأمنيات يا ولدي " .... يتنهد آه ..
ذكرى أمة تنتزعه من ذكرى أمنيات أبيه .. يطرق رأسه الأرض .. تستحي جريمته من نظرات أمه .. ترتجف أقدامه الواقفة الموقف .. يتمتم : " لروحك يا أمي أنها دعابة ، أنه مشهد سيعرض لمرة واحدة فقط ، لروحك لن يتكرر مرة أخرى ، أحداثه تافهة يا أمي لا تشاهدينه ، أنهم يمثلون الكذب يا أمي ، حتى هذه المقصلة كاذبة ، هذه لم يصنعونها لإبادة أحلامي ، و لا لهدم مستقبلي الركام ، أنها جافة ، إنها بلاستيكية الحواف ، قابلة للطي و الانثناء يا أمي ، أنهم كاذبون يا أمي ، أنهم مخادعون ، أنه مشهد النهاية لبقايا أيامي المشنوقة مسبقاً يا أمي ، حتى هؤلاء الجنود و الجلادين ممثلون ، بعضهم لا يعرف دوره ، بعضهم لا يحفظ حواره ، كلهم كاذبون ، أنا الممثل الوحيد الحقيقي في هذا الوهم الكاذب يا أمي. " ..
دمعته مرتبكة من أن تسيل على خده الخشن ، أنها تبحث عن خد ناعم يعرف طعم الملح ، و يعرف ملامح الدموع ، دمعته مترددة بين أن تسقط و بين أن تحتبس و تحتسب هذه الدقائق الباقية ، و بحزم يوقفها و ينهرها ، و يهمس لها : لن أنزف مني اليوم غير الدم ، ألا تكفي سنيني العجاف التي قضيتها في العتمة ، ألا يكفي انتظاري العقيم لزيارة شخص لا أتذكر ملامحه ، ألا يكفي هذا الحطام الذي يمزقني ، ألا يكفي هذا السقف الذي حفظت تشققاته ، ألا يكفي أنني أتلاشى و إنني مجرد كتلة لا نهائية من فراغ , و من معرفة كل ما تمتلكه هذه الزنزانة النتنة ، ألا يكفي بأن أنفي أعلن ثورته على رائحة الكدر و الهم و لم ينتصر ، لن تسقطي ، لن أذرفك اليوم ، لن أنزف مني اليوم غير الدم .
يبتسم و هو ينظر للجلاد الضجر ذو الملابس السوداء القاسية ، و يرفع رأسه لسماء ، يفتح فمه ليتذوق لآخر مرة قطرة ماء .. يتحسس وجهه المطر .. عيناه ترى وجوه أبناءه الثلاثة مع القطرات الساقطة : ستصدقونهم ، أعلم أنكم ستصدقونهم ، و كيف ستصدقونني و أنا المجرم ، القاتل ، الوحش ، الغير متدين ، و تكذبون كل صاحب فم ، يفتخر بأنه عاصر تاريخ يلحق الأذى المعنوي بالأبرياء ، كيف تكذبونهم ؟! ، كيف تصدقوني ؟! ، و لكن لا عزاء للأراضي الجدباء ، لا عزاء للأعشاب اليابسة ، لا عزاء للإنسان ، و لا للمقابر المزدحمة بالخواء ، لا عزاء يقنعكم بـ إني لم ....
يقاطع أفكاره الجلاد بقراءة بيان إعدامه ، يحاول أن يسمع البيان لا يستطيع .. عقله متضارب بينه و بين آخر لحظات حياته .. روحة تحاول الهرب من المقصلة .. يتجاهل الجلاد .. يتجاهل البيان .. يتجاهل حتى روحة المنهكة .. يغرق داخل أعماقه المظلمة .. يبحث عن صك غفران مبلل بالمستحيل .. يتعثر بالواقع .. يتشابك مع روحة .. يتداخل بعضه مع بعضه .. و يتعايش مع لحظة جموده المنسجم مع قبره المفتوح الذي ينتظر جسده .. و يبتسم !
و يقول بصوت مستتر عن كل أذن : أنا لم أقتلها ، ، ها أنا أقولها للمرة الألف ، أنا لم أقتلها ..
ينتهي البيان .... صوته المستتر يُكمل الحكاية : عندما أغمى عليها ظننت أن الأكسجين فارقها ، حاولت إنعاشها ، لم تستجب ، ظننت أنها ماتت ، رفعت يدي لسماء ، لتسقطها علي أمنيه ، أحببتها من فوق كتف أبي ..
يجره الجلاد نحو المقصلة .. و صوته المستتر يُكمل الحكاية : يدي معول ، سقطت من الأعلى لتكسر ضلع في صدرها ، جسدها الضعيف المتهالك انتفض ، انتفض ، انتفض ليبصقها النفس الأخير جثه لا حراك فيها ..
ينحني تحت المقصلة .. و صوته المستتر يُكمل الحكاية : و ماتت .. و الأموات لا يسقطون من السماء يا أبي ، الأموات لا يسقطون من السماء ....
و للأسف ..
( الموت ) لا يقبل التفاوض و التفاهم .