كانت تصفق لها لتطفىء شمعتها الأولى...ونظرت الى زوجها مبتسمة وتنهدت... فقال لها:" ما رأيك بالسفر الى سوريا رحلة لمدة يومين من المرح ..." عندها حملتها سحابة الذكريات إحدى عشر عاماً الى الماضي لتعيشه مجدداً بلمحة بصر...
قال لها: "يا إلهي ... يا ويل قلبي عليكِ ... كيف ستكون حياتكِ من بعدي ... إلهي أرزقها بذوي الاخلاق الطيبة والحسنة ..."
متمدد على الفراش ينازع المرض وعيونه ذابلة من الحزن.. لفظ آخر أنفاسه وعبَّر عما يجول في قلبه .. ثم إستسلم للموت...أمسكت يده بكلتا كفيها... كأنها تتمسك بحبل الأمل... إغرورقت عيناها بالدموع لكنها ابت أن تتدحرج على خديّها... خوفاً من فقدان آخر حلقة تربطها به... تجمدت داخل جفنيها ... وغلفتها حلقة الصدمة... حتى صوت البكاء أبى أن يتبعثر خارج أنفاسها...
" لا حول ولا قوة بالله العلي العظيم .. إن لله وإن إليه راجعون" .. هذا ما تفوه به مختار ضيعتها:" خذيها معكِ يا إبنتي الى البيت لكي تتمتع ببعض الراحة...كي نجمع أفكارنا حول مراسيم دفن "الحنون" ونقوم بواجبنا معه ... ربنا إجعل مثواه الجنة.."موجهاً الكلام لابنته "إحسان" البالغة من العمر سبعة وثلاثون عاماً... لم يكن أحد بجوارها سواهما... فقد وعده المختار "أبو دياب" الإهتمام بها بعد موته... خاصة بعد أن أطلعه على حقيقة هويتها... متمنياً منه أن لا يضعها في دار للأيتام وأن يكمل معه مسيرة قراره عندما قرر الإحتفاظ والإعتناء بها...
كانت طفلة في عامها الأول عندما شاء القدر أن يضعها أسيرة التشرد، بعد أن فقدت والديها إثر حادث سيارة على طريق الشام... و"الحنون" هكذا كان لقبه كان الوحيد الشاهد على هذه المآسات... وبما أن القدر شاء حرمانه هو أيضاً من نعمة الأولاد فقد قرر أن يرعى تلك الطفلة... وأخفى حقيقة مصادفته لها داخل صدره كي لا تكون سجينة دار الأيتام... ولجأ بها الى زوجته "مريم" التي ما لبثت السعادة أن غمرتها بقدومها وقامت بتربيتها لمدة أربع سنوات قبل عودتها الى التراب...
اصابتها نحافة الجسد جراء التعب وسهر الليالي بالقرب ممن إعتادت بمناداته والدي وفجيعتها الكبيرة ... جعلت ظهر "روعة" تلك الفتاة البالغة من العمر عشر سنوات أن تكون أشبه بعجوز أرهقت الحياة كاهلها....غمرتها "إحسان" وقالت لها:" تعالي يا روعة
غمرتها إحسان وقالت لها :" تعالي يا روعة ... حان وقت مدك بقسط من الراحة... لا تقلقي نحن بجانبك.."وبالقوة غمرتها وإنسحبت بها خارجاً حتى نشلت يدها من يد "الحنون" ... فلم تغادر "روعة" جثمان والدها... رغم أن جسدها كان هو فقط بإتجاه الباب أما رأسها الملتف الى الخلف لم يغادر المكان إلا أن تلاشى نظرها تدريجياً عن والدها وكأنها تحتفظ بآخرعقدة تربطها به...
وتوجهت إحسان بها الى المنزل ريثما قام المختار أبو دياب بمراسم الدفن وأكمل واجباته مع صديقه وإبن قريته وعاد الى المنزل بعد يوم مرهق طويل..جلس على الأريكة وقال:" كيف حالتها روعة الآن يا إحسان .." أجابت :" الله المستعين يا أبي...فأن مآساتها ليست بالقليل... لم يكن سواه عائلتها.. لم ترضى الاستلقاء على السرير الا بعد جهداً جهيد ...ولولا الارهاق العابر بجسدها ما كانت نامت بهذه السهولة... ماذا ستفعل الآن... هل هنالك ما يجول في بالك ؟..." قال:" لا والله يا إبنتي .. مازال الضحيج في رأسي يدوي ... هذه القصة أصابتني بالدوار ... ألا يكفي انها تشردت رضيعة.... المسكينة حتى وهي طفلة أيضاً ستتشرد..." أجابته إحسان:" خطرت لي فكرة... ما رأيك لو أستشير رب عملي بأن تكون رفيقة لإبنته "جاكلين" وفي نفس الوقت نكون قد أمَّن لها ملجأ يحميها منغدر الناس وهكذا ستبقى على مرأى من عيني للوقت الحاضر... ريثما تنضج وتكبر ولكل حادث حديث ..."
كانت إحسان تمارس عملها كمدبرة منزل ومسؤولة عن الإهتمام وكل الالتزامات المتعلقة بفتاة مقعدة لدى أسرة عريقة في بيروت... فوالدها رجل أعمال ثري وليس لديه الوقت الكافي لملازمتها... فهو دائما السفر من بلد الى آخر حسب متطلبات أعماله.. وكانت إحسان تتمتع بالثقة التامة لهذه الوظيفة ... أجاب المختار إبنته بعد أن شرد قليلاً :" الله يرضى عليكِ يا إبنتي ... إهتمي بهذا الموضوع ... جزاك الله خير...".
كانت إحسان كل آخر اسبوع تصعد قريتها للإطمئنان على والدها لتعود في اليوم التالي الى عملها وألقت بها الصدفة ان تجعلها شاهدة فيما حل بالطفلة المسكينة " روعة" ... وقررت الإهتمام بها... وكانت على ثقة بأن رب عملها لن يمانع قرارها ... فستكون روعة صديقة إبنته التي تلازم المنزل بإستمرار حين ... و كالدمية التي منحت لها في حين آخر...
ف" جاكلين" نادراً ما تغادر المنزل إلا إذا كان والدها يتمتع ببعض الفراغ فيأخذها لتناول الغذاء في الخارج وكان خروجها برفقته أشبه ب "زوروني في السنة مرة"...
لذا كانت على يقين بأن خطتها ستلقى النجاح....وما أقدمت عليه "إحسان" كان قيدالتنفيذ الى أن وصلت الى القرية بعد أسبوع وكانت "روعة" برفقتها في اليوم التالي...
طرقا باب غرفة "جاكلين" و أذنت لهما بالدخول...مشرقة الوجه... منتشية بسعادة لقاء "روعة" بعد أن أخبرتها إحسان بما تتميز تلك الطفلة المهذبة والقنوعة... جاكلين:" أهلاً وسهلاً تفضلي ... أنا جاكلين ... وأنتِ مؤكداً روعة... إعتبريني كأختك الكبرى يا عزيزتي... سأكون رفيقتك بدأً من اليوم ... وكل ما تحتاجينه إطلبيه من إحسان فلا تخجلي" ثم وجهت كلامها الى إحسان" رجاءاً إحسان كل ما تحتاجه روعة من ثياب وحاجات اجلبيه لها ولا تشغلي بالك بأي شي..."
كانت جاكلين رقيقة وحنونة ... تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً... لا شيء يمكن أن يسعدها أكثر كالاقتراب من صديقة تلازمها وتشاركها فراغها... رغم أن استاذ الدروس الخصوصية يأتي يومياً يجهد على تدريسها وتثقيفها ... كما تزورها الخياطة دائماً للعناية بأناقتها ... وكل طلباتها مجابة دون تردد... نظرت جاكلين بعيني روعة ورأت فيهما الحزن فقالت لها: "ما بكِ يا روعة ... تحدثي أنا لك ِآذان صاغية... مما تخشين ؟" أجابت روعة بتلقائية وعفوية: " تشردت من جديد" تلفظت بها كفتاة كبيرة تدرك عمق مآساتها...والغصة عالقة بحنجرتها... جاكلين:" لا يا روعة ... ألم أقل لكِ أنني أختكِ، واصبحتِ من إحدى اعضاء الاسرة ...لا تتفوهي هكذا ... أيرضيكِ حزني ؟" نظرت روعة الى
يسعد مساكم العطر قوافل من الياسمين لمروركم الكريم..تحياتي
المتشردة - الحلقة الرابعة
نظرت روعة الى جاكلين وتداركت بسرعة بديهتها مأساة صديقتها الجديدة ...ان الحياة تمنحنا أشياء يفتقدونها آخرين...نعمة لا نقدر قيمتها إلا بعد لمس مآساتها في عيون الآخرين... تنهدت بسرها شاكرةً ربها على نعمة السير ... وإبتسمت مرغمة كي لا تشعر جاكلين بعطفها وشفقتها.
ما لبثت روعة أن إعتادت على حياتها الجديدة وأصبحت جاكلين تشكل عالمها الوحيد. علمتها القراءة والكتابة وإهتمت بها وتابعت معها الدراسة وشاركتها كل فرحة ... فبعد مرور خمس سنوات على إستقرارها في هذا المنزل ...الذي بات مقرها الوحيد حتى إنتقلت جاكلين الى نفس التراب الذي إحتوىوالدها ووالدتها... جراء إصابتها بمرضٍ غالبا ً لا يتجاوز المصابون به الرابعة عشر من أعمارهم.. فكانت الأعوام المضافة لها كهدية قدر ل "روعة "...
فما عاد من داعٍ لبقاء إحسان في هذا المنزل بعد وفاة جاكلين وما عاد هذا المنزل مآوى ل "روعة "... وعادت متشردة من جديد....
قالت إحسان لروعة :" أنا استلمت وظيفة لدى سيدة من إحدى الاقارب التابعة لجاكلين ،تعمل مديرة مدرسة، ولا أستطيع جلبكِ معي ... لكنها وعدتني إنها ستخاطب مسؤولة التنظيفات في المدرسة "أم علي" لتقيمين معها ... كي تساعدينها من جهة و تنامين في حجرتها من جهة أخرى ... فهي وحيدة وليس لديها أسرة ... وهنا قد اتمكن دائماً من الاطمئنان عنكِ... فخذي حذركِ من صحتك فأنتِ أصبحتِ الآن كبيرة ولا تحتاجين للتوصية "
لم يكن أمام روعة سوى القبول ... فلا يوجد لديها إختيار آخر... فإحسان هي مصدر الحنان الوحيد لها، وملجأ مصائبها الوحيد. كانت تثق بها وبمحبتها، وتدرك أن اختيارها هو الحل الانسب ..
عاشت روعة برفقة ام علي ...تساعدها بالتنظيف...وكانت تسترق العلم من خلف الأبواب... لتنكب ليلاً على مراجعة ما إكتسبته في ذاكرتها... كانت تهوى الثقافة وتحب إكتساب المعرفة والادب، حتى رأتها صدفة المديرة، تمسك بيدها قلم ودفتر وتسجل عليه المعلومات، فنادت عليها: " روعة ... تعالي..." إرتعدت روعة من المديرة وتلعثمت بالحديث وقالت:" كنت فقط... كنت فقط ..." قاطعتها المديرة: " لا بأس ... لابأس... أتحبين القراءة والكتابة؟" أجابت روعة :" نعم ... كثيراً" قالت المديرة:" ما هي مهمتك بعد إغلاق المدرسة؟" أجابت روعة:" جمع النفايات من الغرف وتنظف واحة الملعب ومساعدة أم علي بالتنظيفات العامة نظرت المديرة الى روعة وكان كل ما يجول بخاطرها هو
نظرت المديرة الى روعة وكان كل ما يجول بخاطرها هو "الله المستعان ... طفلة بنت خمسة عشر عاماً كم ستقوى على هذه المهمات الكبيرة .." أضافت :" اذاً عملك ينحصر بعد دوام المدرسة اما قبل الظيهرة لديكِ الوقت الكافي من الملل " أجابت روعة:" نعم سيدتي..." قالت لها:" اذاً ما رأيكِ لو تجالسين التلاميذ من سنكِ وتشاركيهم الدراسة ... وأنا سأجلب لكِ الكتب والدفاتر ... ولا تخشي من أم علي أنا من سيطلعها..."
إتسعت عيني روعة من المفاجأة السعيدة وركضت وعانقتها بشدة كأنها لا تصدق ما سمعته آذانها... وأضافت :" تتكلمين بجدية.." فضحكت المديرة بصوت مرتفع وقالت:" وهل هنالك هزار فيما بيننا ... هيا دعيني ارى مدى رغبتكِ وشطارتكِ وغداً صباحاً كوني جاهزة كي أرشدكِ على صفكِ... لكن لا أريد الكسل والاهمال ... فلتكوني المتفوقة الأولى... فالعلم يا ابنتي كالمثل القائل من جد وجد ومن حصد زرع ... وإن كنتِ من طالبي العلم لن يقف بطريقكِ شيء"...
هرولت روعة من أمام أنظار المديرة الى غرفتها كأنها تحاول أن تهرول الوقت معها أيضا... كي يشرق يوم جديد وتباشر بالمهمة الجديدة... لم تكن تصدق ما سمعت ... ستصبح تلميذة مثل أؤلئك التلاميذ... سترتاد المدرسة التي أصبحت منزلها الثاني... ستحقق أمنية صديقتها جاكلين التي شددت عليها بإكمال إكتساب العلم... وأن تتحدى الظروف مهما إشتدت عليها فالشهادة الجامعية هي سلاحها في الحياة....
ثلاث سنوات أكملت فيهم روعة دراستها... ونالت شهادة البكالوريا... كانت تكد وتتعب ... تقوم بواجباتها في النهار من متابعة الأساتذة.... وبمهماتها العمليةبعد دوام المدرسة... لتلجأ ليلاً الى كتابها وتغفو من الإرهاق وما زال يلازم صدرها ويشاركها وسادتها وغفوة التعب...بعدها إستمرت على نفس الهدف ... دوام نهاري للجامعة وليلاً للدراسة وبعد الظهر مساعدة أم علي بمهماتها اليومية. الى أن نالت شهادتها الجامعية، وكان الحضور من أهلها في حفلة التخرج المختار أبو دياب وإبنته إحسان، أم علي، وخطيبها قاسم الشاب الذي أحبته منذ دخولها الجامعة، والذي أقسم لها أن يستمر بحبها لآخر يوم في حياته ... كان يدعمها معنوياً لتحقيق هدفها ... هذا هو رصيدها العائلي الحالي.
لم تعد روعة " المتشردة " بعد أن تزوجت قاسم ... هاهي اليوم تعيش بسعادة كاملة... أسست منزل وأنجبت طفلة أطلقت عليها إسم "أمل" لأنها كانت دائماً تتمسك بطرف أمل حتى نالت رغباتها...
وبمساعدة إبنتها في إطفاء شمعتها الاولى ... تمنَّت روعة أن التاريخ لا يعيد نفسه مع رصيدها الجديد..."أمل".
النهاية اتمنى ان تكون قد نالت اعجابكم...مساكم سعيد