كنت أنتظرها خلف فنجان قهوة و أوراق أدون عليها محاضرتي القادمة
بالجامعة ... وفجأة وجدتني أكتب اسمها دون قصد ودون وعي .. "دعاء" التي
امتلكت حتى اللاوعي في داخلي،برودة الشتاء في برلين دفعتني للبحث عن دفئها ،تلك
المرأة التي استحالت موقداً لقلبي والتي لطالما أشعرتني بالدفء هي النار التي
أحرقتني يوماً ،أعرف جيداً أن نهاية الطريق مسدودة أمامي و لكنني أمضي بهيامها
لأنه لا خيار لي سوى ذلك ، فقلبي لم يضع شروطاً لوالجه فلا يهمه إن كانت دعاء
متزوجة و الأقدار حرمّتها علي .. لقد سمح لها بالدخول إليه منذ اللحظة الأولى التي
سمعت بها صوتها ، كنت ذاهب لرؤية شقيقها عندما سمعتها تغني بين أشجار بيتها ، بتلك
اللحظة لا أعرف كيف اقتحم صوتها الدافئ قلبي ، لم أؤمن بمقولة الشاعر :
والأذن تعشق
قبل العين
أحياناً
حتى عشقت دعاء من خلال صوتها ثم زاد شغفي بها من خلال همساتها ، من
خلال ضحكاتها ، من خلال عيناها اللتان توقفان بكل بريق أنفاسي ,أذكر مرة قالت لي
كيف يحب أستاذٌ جامعي فتاة أمية .. أجبتها ضاحكاً : " كوني أوراقي وسأكون حروفك ".. هكذا
كنا .. يكمل أحدنا الآخر
كنت أستشعر النشوة بعمق عندما كانت أنظاري تعبر عيناها ، كل شيءٍ كان
يمدني بالسعادة حتى ذهبت لأطلب يدها من والدها الذي اتسعت عيناه لألوان الحقد
السوداء عندما علم ابن من أنا ، فقد تزوج والدي منذ زمن بعيد بالفتاة التي كان
والد دعاء يعشقها فحقد عليه حقداً عظيماً لازال حتى بعد مرور أكثر من عشرين عاماً
على الحادثة ، وقد جاءته بتلك اللحظة فرصة الانتقام من ابنه ،لم يكتفي برفض طلبي
وطردي بل وزوجها باليوم التالي ،أراد أن يمزقني وقد نجح بجدارة بذلك ،فشظايا قلبي
لازالت متناثرة، حتى الآن .. بعد مرور أعوام ، لازالت جروحي تنزف ، ولازال جسدي
مقرحاً ، لازلت مريضاً بها ،لازالت ذاكرتي متجمدة باللحظة التي لامست يدي يداها
،لازالت عيناي معلقتان بأحداقها وقلبي بضحكاتها ...
وجاء القدر ليمسح قطرة من دموعي بهذا اللقاء ، فقد جاءت بصحبة زوجها
لعلاج والدته إلى هنا .. إلى ألمانيا ، ولست أدري كيف أحضرت رقم هاتفي واتصلت بي
ولكنني ميزت صوتها منذ الهمسة الأولى ، همستْ بالبداية عندما رفعتُ السماعة :
" أهذا أنتَ ؟"
كان وقعها كوقع قنبلة بجسدي الذي انتفض بشدة ،كدت أصرخ من فرط فرحتي
: " كنت أنا ، الآن صرت كلي أنتِ!! "
لطالما كان صوتها هادئاً ولكنه بدا لي كعاصفة هوجاء عندما صاحت لي
بكل ما فيها : أتوق لرؤيتك !!..
هذه اللوعة ، هذه الحرارة التي صدرت من كلانا بعد أعوام من الفراق
المرير ظهرت جليّاً من خلال همساتنا ، أخبرتني أن زوجها سيصطحب والدته للطبيب
بظهيرة الغد وسيمكنها عندها رؤيتي ، شعرت أن ما كان ميتاً بأعماقي قد عاد للحياة
وأن ما كان متحجراً بمهجتي قد تحرك و رقص قلبي فرحاً بلقاءٍ لم أتوقع حدوثهُ قبل
ثوانٍ من اتصالها بالأحرى لم أحلم بحدوثه !..أحقاً سأراها ؟.. هكذا تساءلت وأنا
أكاد ألا أصدق ، هكذا أجلس و أنا أكاد ألا أطيق صبراً ، قضيت سنوات دون أدنى أملٍ
للقائها مجدداً فكيف يضيق الصبر بي لدقائق ؟!..
وها قد أثمرت لحظات انتظاري، وهاهي تطل ، كقمرٍ بين الغيوم الداكنة ،
كغزالٍ بين الحشائش الخضراء ، وتتجه نحوي مسرعة كأجنحة الظلام بليلةٍ شتوية ، رمت
حقيبتها وجلست لتمعن بي بصمت ولترى ماذا غيرت السنوات بي بشكلي ، غيرت كثيراً ..
ولكن داخلي ظل مجنوناً بها ، لم تتغير كثيراً ، لازالت المرأة ذاتها التي تعرف
جيداً كيف تشعلني ، كيف توقف خفقان قلبي ، كيف تخطف أنفاسي ،أقترب النادل ليقطع
لحظات صمتنا ، أجابته بسرعة : لا أريد شيئاً ، سأغادر بعد قليل
قلت بذعر : بهذه السرعة؟!
دعاء : نعم ، لدي خمس دقائق فقط
قلت : خمس دقائق ليست كافية
دعاء ( بانفعال) : خمس دقائق ليست كافية ، إذاً ماذا يكفيك ؟
قلت : حياتي بأكملها
طأطأت برأسها وهي تتلمس يدي ثم همست : أخاطر بحياتي من أجل خمس دقائق
معك ، أرأيت كم أنا امرأة مجنونة ؟!
قلت : ألم يقد الفراق كلانا للجنون ؟!.. أنظري إلى عيناي المتعبتان
وسليهما عن الألم المبرح الذي أحدثه حنيني إليك، الشوق الذي يملأني منذ أن غادرت
عيناني عيناك ، الشوق الذي أشعر به حتى وأنت تجلسين أمامي
دعاء : أعرف .. أعرف شعورك لأنني أشعر به أيضاً
ارتجفت يداي وأنا أتذمر من القدر الذي حكم علي بالعذاب المؤبد ،
بالموت وأنا على قيد الحياة ، بفراق روح اسمها دعاء ، قلت بصوت مرتجف يكاد يبكي :
إلى متى هذا الحرمان ؟ إلى متى سيظل هذا الشوق المبرح يصدح بأعماقنا ؟!... هل سنظل
نسرق الثواني بين طيات الأعوام هكذا ؟!..
دعاء : لا يمكننا أن يجمعنا يوم للأبد ، لا يمكن أن يجمعنا القدر ..
سنظل كالليل والنهار ، كالسحاب والأرض ، كالشرق والغرب ، ولكن.. فلتعلم أنه لن
يسكن قلبي رجلٌ سواك ..
قالت مقولتها ثم غادرت ليعود الحزن إلي مجدداً ، ولكن نظرتها الأخيرة
التي عبرت عيناي وتغلغلت بأعماقي أعطتني شعوراً بأنها لن تكون النظرة الأخيرة ولا
هذا سيكون اللقاء الأخير وأنني سأراها مجدداً
بالجامعة ... وفجأة وجدتني أكتب اسمها دون قصد ودون وعي .. "دعاء" التي
امتلكت حتى اللاوعي في داخلي،برودة الشتاء في برلين دفعتني للبحث عن دفئها ،تلك
المرأة التي استحالت موقداً لقلبي والتي لطالما أشعرتني بالدفء هي النار التي
أحرقتني يوماً ،أعرف جيداً أن نهاية الطريق مسدودة أمامي و لكنني أمضي بهيامها
لأنه لا خيار لي سوى ذلك ، فقلبي لم يضع شروطاً لوالجه فلا يهمه إن كانت دعاء
متزوجة و الأقدار حرمّتها علي .. لقد سمح لها بالدخول إليه منذ اللحظة الأولى التي
سمعت بها صوتها ، كنت ذاهب لرؤية شقيقها عندما سمعتها تغني بين أشجار بيتها ، بتلك
اللحظة لا أعرف كيف اقتحم صوتها الدافئ قلبي ، لم أؤمن بمقولة الشاعر :
والأذن تعشق
قبل العين
أحياناً
حتى عشقت دعاء من خلال صوتها ثم زاد شغفي بها من خلال همساتها ، من
خلال ضحكاتها ، من خلال عيناها اللتان توقفان بكل بريق أنفاسي ,أذكر مرة قالت لي
كيف يحب أستاذٌ جامعي فتاة أمية .. أجبتها ضاحكاً : " كوني أوراقي وسأكون حروفك ".. هكذا
كنا .. يكمل أحدنا الآخر
كنت أستشعر النشوة بعمق عندما كانت أنظاري تعبر عيناها ، كل شيءٍ كان
يمدني بالسعادة حتى ذهبت لأطلب يدها من والدها الذي اتسعت عيناه لألوان الحقد
السوداء عندما علم ابن من أنا ، فقد تزوج والدي منذ زمن بعيد بالفتاة التي كان
والد دعاء يعشقها فحقد عليه حقداً عظيماً لازال حتى بعد مرور أكثر من عشرين عاماً
على الحادثة ، وقد جاءته بتلك اللحظة فرصة الانتقام من ابنه ،لم يكتفي برفض طلبي
وطردي بل وزوجها باليوم التالي ،أراد أن يمزقني وقد نجح بجدارة بذلك ،فشظايا قلبي
لازالت متناثرة، حتى الآن .. بعد مرور أعوام ، لازالت جروحي تنزف ، ولازال جسدي
مقرحاً ، لازلت مريضاً بها ،لازالت ذاكرتي متجمدة باللحظة التي لامست يدي يداها
،لازالت عيناي معلقتان بأحداقها وقلبي بضحكاتها ...
وجاء القدر ليمسح قطرة من دموعي بهذا اللقاء ، فقد جاءت بصحبة زوجها
لعلاج والدته إلى هنا .. إلى ألمانيا ، ولست أدري كيف أحضرت رقم هاتفي واتصلت بي
ولكنني ميزت صوتها منذ الهمسة الأولى ، همستْ بالبداية عندما رفعتُ السماعة :
" أهذا أنتَ ؟"
كان وقعها كوقع قنبلة بجسدي الذي انتفض بشدة ،كدت أصرخ من فرط فرحتي
: " كنت أنا ، الآن صرت كلي أنتِ!! "
لطالما كان صوتها هادئاً ولكنه بدا لي كعاصفة هوجاء عندما صاحت لي
بكل ما فيها : أتوق لرؤيتك !!..
هذه اللوعة ، هذه الحرارة التي صدرت من كلانا بعد أعوام من الفراق
المرير ظهرت جليّاً من خلال همساتنا ، أخبرتني أن زوجها سيصطحب والدته للطبيب
بظهيرة الغد وسيمكنها عندها رؤيتي ، شعرت أن ما كان ميتاً بأعماقي قد عاد للحياة
وأن ما كان متحجراً بمهجتي قد تحرك و رقص قلبي فرحاً بلقاءٍ لم أتوقع حدوثهُ قبل
ثوانٍ من اتصالها بالأحرى لم أحلم بحدوثه !..أحقاً سأراها ؟.. هكذا تساءلت وأنا
أكاد ألا أصدق ، هكذا أجلس و أنا أكاد ألا أطيق صبراً ، قضيت سنوات دون أدنى أملٍ
للقائها مجدداً فكيف يضيق الصبر بي لدقائق ؟!..
وها قد أثمرت لحظات انتظاري، وهاهي تطل ، كقمرٍ بين الغيوم الداكنة ،
كغزالٍ بين الحشائش الخضراء ، وتتجه نحوي مسرعة كأجنحة الظلام بليلةٍ شتوية ، رمت
حقيبتها وجلست لتمعن بي بصمت ولترى ماذا غيرت السنوات بي بشكلي ، غيرت كثيراً ..
ولكن داخلي ظل مجنوناً بها ، لم تتغير كثيراً ، لازالت المرأة ذاتها التي تعرف
جيداً كيف تشعلني ، كيف توقف خفقان قلبي ، كيف تخطف أنفاسي ،أقترب النادل ليقطع
لحظات صمتنا ، أجابته بسرعة : لا أريد شيئاً ، سأغادر بعد قليل
قلت بذعر : بهذه السرعة؟!
دعاء : نعم ، لدي خمس دقائق فقط
قلت : خمس دقائق ليست كافية
دعاء ( بانفعال) : خمس دقائق ليست كافية ، إذاً ماذا يكفيك ؟
قلت : حياتي بأكملها
طأطأت برأسها وهي تتلمس يدي ثم همست : أخاطر بحياتي من أجل خمس دقائق
معك ، أرأيت كم أنا امرأة مجنونة ؟!
قلت : ألم يقد الفراق كلانا للجنون ؟!.. أنظري إلى عيناي المتعبتان
وسليهما عن الألم المبرح الذي أحدثه حنيني إليك، الشوق الذي يملأني منذ أن غادرت
عيناني عيناك ، الشوق الذي أشعر به حتى وأنت تجلسين أمامي
دعاء : أعرف .. أعرف شعورك لأنني أشعر به أيضاً
ارتجفت يداي وأنا أتذمر من القدر الذي حكم علي بالعذاب المؤبد ،
بالموت وأنا على قيد الحياة ، بفراق روح اسمها دعاء ، قلت بصوت مرتجف يكاد يبكي :
إلى متى هذا الحرمان ؟ إلى متى سيظل هذا الشوق المبرح يصدح بأعماقنا ؟!... هل سنظل
نسرق الثواني بين طيات الأعوام هكذا ؟!..
دعاء : لا يمكننا أن يجمعنا يوم للأبد ، لا يمكن أن يجمعنا القدر ..
سنظل كالليل والنهار ، كالسحاب والأرض ، كالشرق والغرب ، ولكن.. فلتعلم أنه لن
يسكن قلبي رجلٌ سواك ..
قالت مقولتها ثم غادرت ليعود الحزن إلي مجدداً ، ولكن نظرتها الأخيرة
التي عبرت عيناي وتغلغلت بأعماقي أعطتني شعوراً بأنها لن تكون النظرة الأخيرة ولا
هذا سيكون اللقاء الأخير وأنني سأراها مجدداً